تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
هل بقى أحد في مصر لم يكتب ذكرياته مع الخال... هل بقى أحد لم يكتب عن موقف جمعه به، أو كلمة سمعها منه، تقريبًا كل مصر فعلتها، لا أشكك فيمن كتب، ولكنى أشهد بعبقرية الأبنودى الذي وزع نفسه على ملايين من المصريين، كتابًا وصحفيين وإعلاميين وسياسيين وبسطاء وطلبة، منح نفسه أعمارًا على عمره، فقد كان يعرف أنه عندما يموت، سيكتب هؤلاء جميعًا عنه بما يحبه ويرضاه.
اعترف لكم بأننى لم أعرف عبد الرحمن الأبنودى شخصيًا، لم استمع إليه، ولم أجلس في أي من مجالسه، ولم أتابعه متحدثا في الفضائيات الكثيرة التي كان يتحدث فيها، ربما لأنى كنت أعتبر آراءه السياسية وربما الإنسانية ملكه وحده، هو حر فيها، ينحاز لمن ينحاز، ويتبنى ما يشاء من مواقف، لكنى كنت وسأظل متيمًا بشعره، أو لنقل على وجه التحديد بالحالة التي استطاع الأبنودى أن يصنعها لنفسه ويروجها حوله منذ بدأ يقتحم الحياة في العام 1963.
تشغلنى كثيرًا طقوس الآلهة... والأبنودى ظل لـ52 عامًا كاملة محافظًا على العرش، «جبل لا يهزه ريح... مسيح قابض على صليبه»، لا يشغله المشككون، ولا يلتفت إلى من يريدون جره إلى الوراء، لأنهم ببساطة لا يعملون ولا يسعدهم أن يعمل الآخرون.
لقد عاب البعض على عبد الرحمن الأبنودى أنه مال إلى السلطة كثيرا، حتى أنه كان في فترات كثيرة صوتها الذي به تغنى، لا فرق في ذلك بين جمال عبد الناصر والسيسى، ولا خلاف مطلقًا بين موقفه من السادات وموقفه من مبارك... بل ذهب بعضهم إلى أنه صديق مقرب من السادات ومبارك ثم بعد ذلك السيسى، فقد قطع عبد الرحمن الطريق من الإسماعيلية إلى القاهرة رغم مرضه الشديد، ليعلن تأييده للسيسى أثناء حملته الانتخابية.
هل كان الأبنودى صوتًا للسلطة في أي وقت من الأوقات... أعتقد أنه لم يفعلها أبدًا، لسبب بسيط أن الأبنودى كان طول الوقت صوت نفسه فقط، يعبر عما يعتقده هو، ويقول ما يريده هو، ويعمل من أجل ما يبقيه دائما، دون فناء.
هل نبحث عن العقدة في حياة الشاعر الكبير؟... ولِمَ لا.
في الستينيات دخل عبد الرحمن الأبنودى السجن... وكعادة كل المثقفين الذين دخلوا السجن، لم يكرهوا عبد الناصر، ولكنهم كرهوا سجنه فقط.
لم يدخل الأبنودى السجن لسبب عظيم، كان منضمًا لوحدة شيوعية، قال هو عنها إنها كانت لتعليم الماركسية، فلم يكن يخطط لقلب نظام الحكم، ولم يكن من أصحاب الأفكار الهدامة المعادية للنظام، دخل الأبنودى السجن ليس لأنه كان مناضلًا، ولكن لأن النظام كان غشيمًا ربما بأكثر مما ينبغى.
لم يلبث الأبنودى في السجن أكثر من ستة شهور، كان جمال الغيطانى رفيقه في محبسه، ولما خرج قرر ألا يدخل السجن مرة أخرى ولأى سبب مهما كان عظيما، ومن بين نوادره التي ينسبها كثيرون له، قوله إنه وبعد الخروج من السجن قرر ألا تتكرر التجربة مرة أخرى، ولذلك حرص على أن يكون صديقا لكل وزراء الداخلية في مصر.
يمكن أن يكون الكلام المنسوب للأبنودى غير دقيق أو غير صحيح بالمرة... لكن الدقيق والصحيح أن الأبنودى قرر أن يكون قويا، أقوى من السلطة فلا تستطيع أن تقترب منه أو تحبسه، سالبة منه حريته، لكن ولأنه حويط أكثر ربما مما ينبغى، فقد عرف أن قربه من السلطة سيعزله عن الناس، فقرر أن يكون صوتهم أيضًا.
هل كان في ذلك تناقض من نوع ما، قد ترى أنت ذلك؟
لكن من يدركون طقوس آلهة الدنيا، يدركون أن من يستطيع أن يفعل ذلك لا بد أن تكون لديه طاقة نفسية هائلة، ليتحمل تبعات قراره... وكانت لدى الأبنودى هذه الطاقة التي جعلته في يوم من الأيام، وهو يرى المرض يقترب منه على مهل، يقول إنه سيموت عندما يقرر ذلك.
لا أدرى شعور عبد الرحمن في اللحظة التي قابل فيها وجه ملك الموت، هل كان قد قرر الرحيل، أم أن الموت غلبه على أمره؟
لن يكون مفيدا أبدا أن نعرف... على الأقل حتى لا تخدش أسطورة الرجل، ما يمكننا التيقن منه أنه عندما رحل كان راضيا جدا عما أنجزه في الحياة، لا لشىء إلا لأنه كان قد قرر ذلك من البداية، وقبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة، مؤكد أنه ابتسم ابتسامة عريضة، فقد تحايل على دنيا لا تملك في مقابل الناس سوى الحيلة، انتصر عبد الرحمن، حتى لو كانت النهاية هي الموت.
منذ سنوات طويلة كانت هناك حملة عنيفة ضد الأبنودى، اتهموه بسرقة السيرة الهلالية، قالوا وعادوا ونتفوا ريشه وعروا جسده، تراهن من طالعوا الحملة، هل يرد الأبنودى؟ أم يلتزم الصمت؟ قال أحدهم واثقًا: لن يرد أبدًا، إنه يكتسب مهانة من الصمت في مواجهة من يهاجمونه، يشعرهم أنه لا يراهم، يستمر هو، أما هم فيأكل الحقد قلوبهم.
يقولون إن عبد الرحمن الأبنودى هو ملك التحولات السياسية، وإن شعره كان تعبيرًا عن هذه التحولات والتقلبات، فلم يكن يكتب إلا ما سيصب في مصلحته هو... وهى رؤية عاجزة، فعبد الرحمن لم يتقلب ولم يتحول، لأنه في الأساس لم ينتم إلا لما يعتقده هو، وهو أعتقد أنه الأحق بالبقاء والخلود.
في واحدة من الحكايات التي كان يروج لها خصوم الأبنودى، أنه وبعد أن أعطى أغنيته «أشكيك للقاضى ياللى ظالمنى» للمطربة الشعبية فاطمة عيد، لامه أصدقاؤه وقالوا له كيف تعطى أغنيتك لمطربة أفراح، فرد عليهم بقوله: «والله هي اديتنى خمسة آلاف جنيه في الأغنية» وده لوحده كفاية، وكأنهم كانوا يريدون تشويهه، أو تصويره على أنه يعمل من أجل الفلوس فقط، ورغم أن من يرددون مثل هذه الحكاية لا يتوقفون عن جمع المال بمناسبة وبدون مناسبة، إلا أن الأبنودى حتى لو كان قد قال هذا فلا يعيبه شىء، فهل كان مطلوبًا منه أن يعمل مجانًا.
ومن بين الروايات التي يحاول خصومه أن يطعنوه بها، أنه وعندما كان أحمد فؤاد نجم سجينًا في سجون السادات، كان الأبنودى يجلس إلى جوار الرئيس، الذي قال له: بيقولوا إنى باسجن الشعرا يا أبنودى؟ فرد عليه عبد الرحمن: إزاى وأنا قاعد جنبك، يقولون إنه بذلك باع شاعرًا مثله، وهو تفسير كسيح، فعبد الرحمن كان صادقًا جدًا، لأنه بالفعل لم يكن يرى شاعرًا غيره، واختلفت أو اتفقت معه، فهذا حقه تماما.
الحكايات لا تنتهى... لأن محاولات هدم الأبنودى لن تنتهى... وهذا قدره، لم يستطع أن يهرب منه وهو حى، ولن يستطيع أن يقاومه وهو ميت، لكن ستذوب الحكايات، ويذوب من ينسجونها ويبقى الأبنودى وحده.
■ ■ ■ ■
من عبقرية الأبنودى أنه قرر أن يكون شريكًا للجميع، السياسي والمثقف والرومانسى والفلاح والصعيدى والوزير والخفير والرئيس والمواطن البسيط، كل مصرى يمكن أن تكون له ذكرى مع أغنية كتبها، أو قصيدة ألقاها، أو معنى يقطر حكمة، قاله بطريقته العفوية التي كانت تقربه أكثر من الناس، فالرجل الصعيدى الذي هاجر قريته البعيدة منذ أكثر من نصف قرن، كان لا يزال يحتفظ بلهجته، التي تشم منها رائحة الطين الذي لا يكذب مهما تشكل.
لم تفزعنى الحالة الاحتفائية التي ودع بها المصريون الأبنودى، كان الحزن نادرًا مثله تمامًا.
لكن أفزعتنى حالة الغضب المكتومة التي أفصح عنها أصحابها من طرف خفى، فقد ضاقوا أن يحظى وحده بكل هذا الوداع، كما ضاقوا أن يحصد وحده كل هذه الشهرة والثروة والنجومية واللمعان طوال حياته، فحتى في الموت كان الأبنودى محسودًا، قالوا إن آخرين رحلوا دون أن يلتفت لهم أحد، دون أن ينتبه من قالوا ذلك إن الحزن كان عفويا مثلما كان عبد الرحمن، لم يصدر أحد قرارًا رسميًا بأن يحزن المصريون على الأبنودى... لم يخرج علينا أحد ليقول إن الرجل يستحق، بل عبر كل بطريقته، صحيح أن هناك من تماهوا مع الحالة، واعتبروا الأبنودى ملكية خاصة لهم، لكن الحالة في مجملها كانت معبرة عما استطاع الشاعر الكبير أن يبدعه، لقد نجح في أن يكون جزءًا من الوجدان العام للمصريين، أصبح ملمحًا من ملامح الوطن الكبير بانتصاراته وانكساراته، بمعجزاته وزلاته، بحسناته وسيئاته... ولأن الأوطان لا تموت، فإن الأبنودى أيضًا لن يموت، ليس لأننا من سنفعل ذلك، ولكن لأنه من قرر وعمل وترك في كل شبر ذكرى وفى كل قلب أغنية، وفى كل موقف رأى، وفى كل أزمة فكرة... لقد غنى للحياة بكل طاقته، والحياة لا تنسى أبدًا من يغنى لها أبدا.
سيحاول كثيرون البحث عن طريقة لتكريم الأبنودى وإحياء ذكراه، سيقترحون إنشاء جائزة في الشعر باسمه، سيقولون لا بد من تحويل بيته إلى متحف يؤمه المحبون، سيقولون لا بد من حفل تأبين كبير يحضره الرئيس، سيقولون لا بد من تجميع أشعاره وكل ما كتبه من أغنيات لتصدر في مجلدات تكون في كل بيت، سيقولون... ويقولون... ويقولون، وأقول لهم لا تتعبوا أنفسكم كثيرا، فالأبنودى فعل كل شىء يجعله خالدًا... والأيام هي التي ستحكى لكم وللأجيال القادمة عن سره... سر روح الإله الذي نزل على الأرض فملأه شعرًا وغناءً.