10 ـ اختلالات العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين
العلامة الفارقة فى الكنيسة المصرية "القبطية الأرثوذكسية" التى تميزها هى الموازنة والتكامل بين الإكليروس والعلمانيين ولم تعرف بامتداد تاريخها الفصل بين كليهما، حتى أن ترتيبات عباداتها تشترط وجود الكاهن والشعب فى كل طقوسها، وعلى رأسها احتفالها الليتورجى فى يوم الرب، ويسجل تاريخ الكنيسة أن فترات ازدهارها مرتبطة بتحقق التكامل بينهما، وعندما ترتبك علاقتيهما تدخل فى نفق معتم، وتلاحقها المتاعب، وتسقط تحصيناتها، وتتشابه عليها الأمور.
ولم يكن مصطلح "العلمانيون" يعرفه الأقباط حتى منتصف القرن العشرين، مع محاولات الرائد حبيب جرجس فى تجميع قاعدة ادبيات عربية لتعليم الأجيال الجديدة، كما اسلفنا، كانت الإشارة إلى المتقدمين من شعب الكنيسة من غير الإكليروس بمصطلح "الأراخنة"، وكان المصطلح الأشمل "شعب الكنيسة" وفى بعض الأحيان الرعية، وكان كاهن الكنيسة يسمى راعى الكنيسة، ثم اقتصر هذا اللقب على الأسقف دون غيره، بتخريجات تبنت الغلو فى تمييزه، فظهرت القاب "ملاك الكنيسة" تستعيض عن امتناع اللقب على كاهن الكنيسة "الإيغومانس".
على أن تاريخ الكنيسة فى القرنين التاسع عشر والعشرين يحتاج إلى قراءة تحليلية متأنية، وقد حفلا بتطورات متلاحقة ومتسارعة، داخلها وخارجها، وتقلبات عاتية القت بظلالها على اللحظة، خاصة فى العلاقة بين جناحيها، الإكليروس والعلمانيين، بحسب المصطلحات التى استقرت بيننا، كانت البدايات تحرك العلمانيين من الطبقة الوسطى الذين تأثروا برياح التنوير التى داهمتنا مع الحملة الفرنسية، والإرساليات الغربية، وتجاربهم المتعددة للنهضة، وتباين توجهاتهم، وردود فعل الكنيسة المؤسسة بين الصدمة والمقاومة والدعم، وبين الرفض والقبول، ثم دور الجيل الجديد ـ وقتها ـ فى محاولات استنهاض الكنيسة، بجهد ومثابرة وفعل متواصل حتى نجح فى فتح ثغرات فى جدار الجمود السميك، وبدأ فى ترجمة رؤيته، وعندما دانت له مواقع القيادة، وانخرط فى سلك الكهنوت حتى أعلى نقطة فيه، كانت مواقفه مغايرة وذهب الى تقليص الدور العلمانى، وشهدت الكنيسة تعزيز التوجه الرهبانى فى قيادة الكنيسة، بالتوازى مع انفتاح الأديرة على العالم، وفى داخل منظومة الإكليروس نفسها نشهد تقلص دور الإيغومانس ـ راعى الكنيسة المحلية ـ لحساب الأسقف العام الذى توسعت الكنيسة فى مد غطائه للإشراف على نطاقات جغرافية متقاربة، داخل إيبارشية البابا البطريرك، وانعكاسات هذا على الخلل الذى أصاب العلاقة بين رعية الكنيسة وكهنتها، وفى نفس السياق يتم استبعاد أراخنة الكنيسة من مجالس الكنائس ليحل محلهم شباب مدارس الأحد فى تقليص جديد للدور العلمانى الصحيح، وفق اللائحة التى صدرت مؤخراً، بتبريرات متهافتة، وبين هذا وذاك تعانى الكنيسة من متاعب تعوق مسارها، وتعوق رسالتها، وينعكس هذا كله على منظومة الإدارة الكنسية بجملتها، التى تحتاج إلى إعادة هيكلة على أسس علمية وإدارية وخبرات مهنية لا تتوافر للإكليروس. وفى بعض دوائرها تتبنى منهج الإعتماد على أهل الثقة دون أهل الخبرة، بشكل انطباعى ذاتى. لم تكن الكنيسة فى هذا بمنأى عن المناخ العائم السائد.
ظنى أن ثمة أموراً تحيط بنا، حياتياً وسياسياً واجتماعياً، تفرض علينا ان نعيد قراءتها وتقييمها وتقويمها، فيما يرتبط بالكنيسة، حيث تشابك وتصارع المصالح، والتراجع المعرفى، وتجريف منظومة القيم وتعثراتها، واختلاط ما هو سياسى بما هو دينى، ونمو طبقة الإنتهازيين من العلمانيين، وبُعد منظومة الرهبنة فى عديد من مراكزها وتجمعاتها عن ضوابط الرهبنة التقليدية، وتغول الفرعى على الأساسى، وخفوت التلمذة باختفاء شيوخ البرية. وانتهاء بعدم قبول التوقف والتدبر وإعادة تقييم تجربة النهضة التى بدأها حبيب جرجس، والخوف من الإقتراب من تجربة الكنيسة فى عصر قداسة البابا شنودة الثالث الثرية، والممتدة لنحو نصف قرن (1962 ـ 2012) تحليلاً وتقييماً، ايجاباً وسلباً، واعتبار ذلك انتقاصاً من قيمته، وتشكيكاً فى دوره.
وتبقى اختلالات العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين، بين الحمائم والصقور، والتقارب والتباعد، والتكامل والإصطفاف فى مواجهة بينهما، محل العديد من الأسئلة التى تصاحبنا على امتداد سطورنا كيف ولماذا وإلى أين؟
يتبقى لنا فى إبحارنا نحو الجذور التى كانت أزمة الريان إحدى نتائجها الظاهرة على السطح، ان نقترب من أنساق الإدارة الكنسية فى دوائرها المتتالية من النجع والقرية والمدينة والدير، إلى الإيبارشية وصولا للبطريركية، والتى لا تختلف كثيراً عن قصور الإدارة خارج دائرة الكنيسة وفقا لنظرية الأوانى المستطرقة وإن زاد عليها غياب القواعد المنظمة لها والموثقة فى مجموعات قانونية تحدد الحقوق والواجبات والمهام للمنظومة، وقد سبقتنا إلى ذلك قبل عقود كنائس تقليدية رسولية، بينما مازالت عندنا تخضع لرؤية رأس المنظومة فى كل فروعها الى اشرنا إليها، بشكل مطلق.
وهو ما سنتناوله فى المقال القادم والذى نختتمه بتوصيات عساها تجد مكاناً عند اصحاب القرار بالكنيسة.
فإلى لقاء.
العلامة الفارقة فى الكنيسة المصرية "القبطية الأرثوذكسية" التى تميزها هى الموازنة والتكامل بين الإكليروس والعلمانيين ولم تعرف بامتداد تاريخها الفصل بين كليهما، حتى أن ترتيبات عباداتها تشترط وجود الكاهن والشعب فى كل طقوسها، وعلى رأسها احتفالها الليتورجى فى يوم الرب، ويسجل تاريخ الكنيسة أن فترات ازدهارها مرتبطة بتحقق التكامل بينهما، وعندما ترتبك علاقتيهما تدخل فى نفق معتم، وتلاحقها المتاعب، وتسقط تحصيناتها، وتتشابه عليها الأمور.
ولم يكن مصطلح "العلمانيون" يعرفه الأقباط حتى منتصف القرن العشرين، مع محاولات الرائد حبيب جرجس فى تجميع قاعدة ادبيات عربية لتعليم الأجيال الجديدة، كما اسلفنا، كانت الإشارة إلى المتقدمين من شعب الكنيسة من غير الإكليروس بمصطلح "الأراخنة"، وكان المصطلح الأشمل "شعب الكنيسة" وفى بعض الأحيان الرعية، وكان كاهن الكنيسة يسمى راعى الكنيسة، ثم اقتصر هذا اللقب على الأسقف دون غيره، بتخريجات تبنت الغلو فى تمييزه، فظهرت القاب "ملاك الكنيسة" تستعيض عن امتناع اللقب على كاهن الكنيسة "الإيغومانس".
على أن تاريخ الكنيسة فى القرنين التاسع عشر والعشرين يحتاج إلى قراءة تحليلية متأنية، وقد حفلا بتطورات متلاحقة ومتسارعة، داخلها وخارجها، وتقلبات عاتية القت بظلالها على اللحظة، خاصة فى العلاقة بين جناحيها، الإكليروس والعلمانيين، بحسب المصطلحات التى استقرت بيننا، كانت البدايات تحرك العلمانيين من الطبقة الوسطى الذين تأثروا برياح التنوير التى داهمتنا مع الحملة الفرنسية، والإرساليات الغربية، وتجاربهم المتعددة للنهضة، وتباين توجهاتهم، وردود فعل الكنيسة المؤسسة بين الصدمة والمقاومة والدعم، وبين الرفض والقبول، ثم دور الجيل الجديد ـ وقتها ـ فى محاولات استنهاض الكنيسة، بجهد ومثابرة وفعل متواصل حتى نجح فى فتح ثغرات فى جدار الجمود السميك، وبدأ فى ترجمة رؤيته، وعندما دانت له مواقع القيادة، وانخرط فى سلك الكهنوت حتى أعلى نقطة فيه، كانت مواقفه مغايرة وذهب الى تقليص الدور العلمانى، وشهدت الكنيسة تعزيز التوجه الرهبانى فى قيادة الكنيسة، بالتوازى مع انفتاح الأديرة على العالم، وفى داخل منظومة الإكليروس نفسها نشهد تقلص دور الإيغومانس ـ راعى الكنيسة المحلية ـ لحساب الأسقف العام الذى توسعت الكنيسة فى مد غطائه للإشراف على نطاقات جغرافية متقاربة، داخل إيبارشية البابا البطريرك، وانعكاسات هذا على الخلل الذى أصاب العلاقة بين رعية الكنيسة وكهنتها، وفى نفس السياق يتم استبعاد أراخنة الكنيسة من مجالس الكنائس ليحل محلهم شباب مدارس الأحد فى تقليص جديد للدور العلمانى الصحيح، وفق اللائحة التى صدرت مؤخراً، بتبريرات متهافتة، وبين هذا وذاك تعانى الكنيسة من متاعب تعوق مسارها، وتعوق رسالتها، وينعكس هذا كله على منظومة الإدارة الكنسية بجملتها، التى تحتاج إلى إعادة هيكلة على أسس علمية وإدارية وخبرات مهنية لا تتوافر للإكليروس. وفى بعض دوائرها تتبنى منهج الإعتماد على أهل الثقة دون أهل الخبرة، بشكل انطباعى ذاتى. لم تكن الكنيسة فى هذا بمنأى عن المناخ العائم السائد.
ظنى أن ثمة أموراً تحيط بنا، حياتياً وسياسياً واجتماعياً، تفرض علينا ان نعيد قراءتها وتقييمها وتقويمها، فيما يرتبط بالكنيسة، حيث تشابك وتصارع المصالح، والتراجع المعرفى، وتجريف منظومة القيم وتعثراتها، واختلاط ما هو سياسى بما هو دينى، ونمو طبقة الإنتهازيين من العلمانيين، وبُعد منظومة الرهبنة فى عديد من مراكزها وتجمعاتها عن ضوابط الرهبنة التقليدية، وتغول الفرعى على الأساسى، وخفوت التلمذة باختفاء شيوخ البرية. وانتهاء بعدم قبول التوقف والتدبر وإعادة تقييم تجربة النهضة التى بدأها حبيب جرجس، والخوف من الإقتراب من تجربة الكنيسة فى عصر قداسة البابا شنودة الثالث الثرية، والممتدة لنحو نصف قرن (1962 ـ 2012) تحليلاً وتقييماً، ايجاباً وسلباً، واعتبار ذلك انتقاصاً من قيمته، وتشكيكاً فى دوره.
وتبقى اختلالات العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين، بين الحمائم والصقور، والتقارب والتباعد، والتكامل والإصطفاف فى مواجهة بينهما، محل العديد من الأسئلة التى تصاحبنا على امتداد سطورنا كيف ولماذا وإلى أين؟
يتبقى لنا فى إبحارنا نحو الجذور التى كانت أزمة الريان إحدى نتائجها الظاهرة على السطح، ان نقترب من أنساق الإدارة الكنسية فى دوائرها المتتالية من النجع والقرية والمدينة والدير، إلى الإيبارشية وصولا للبطريركية، والتى لا تختلف كثيراً عن قصور الإدارة خارج دائرة الكنيسة وفقا لنظرية الأوانى المستطرقة وإن زاد عليها غياب القواعد المنظمة لها والموثقة فى مجموعات قانونية تحدد الحقوق والواجبات والمهام للمنظومة، وقد سبقتنا إلى ذلك قبل عقود كنائس تقليدية رسولية، بينما مازالت عندنا تخضع لرؤية رأس المنظومة فى كل فروعها الى اشرنا إليها، بشكل مطلق.
وهو ما سنتناوله فى المقال القادم والذى نختتمه بتوصيات عساها تجد مكاناً عند اصحاب القرار بالكنيسة.
فإلى لقاء.