فى 15 إبريل 2011 كانت قد مرت مائة عام كاملة على ميلاد الشيخ محمد متولى الشعراوى، كان من المنتظر أن تقام احتفالية هائلة بمئوية الرجل الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، عندما ظهر لأول مرة فى أواخر السبعينات فى برنامج «نور على نور» الذى كان يقدمه المذيع الشهير أحمد فراج.. وحتى أسلم الروح فى عام 1998، وهى السنوات التى جعلت منه المفسر الأعظم للقرآن الكريم فى العصر الحديث.
انشغلت مصر بثورتها، وانشغل العالم بمصر، فلم يلتفت أحد لهذه المناسبة، وأصبحت ذكرى ميلاد الشيخ الشعراوى، تمر دون أن يلتفت لها الكثيرون، اللهم إلا بعض محبيه، ومن يقومون على مولده بقرية «دقادوس» بالدقهلية، فالعالم الكبير بالنسبة لهم قطب من أقطاب الصوفية، ولابد أن يكون له مولده، ورغم أن مولد الشيخ ليس فى شهرة موالد أولياء الله الصالحين، إلا أن الآلاف يؤمونه طامعين فى بركة الشيخ، ثم من يدرى، فيومًا ما يمكن أن يتحول مولد الشيخ الشعراوى إلى أحد موالد الأولياء الكبار، مثل السيد البدوى وإبراهيم الدسوقى وأبو الحسن الشاذلى، فالمريدون يصنعون الأساطير والأيام تخلدها.
خلال عمره الطويل كان الشيخ الشعراوى مثيرًا للجدل والخلاف، المعارك الدينية والفكرية التى أثارها بلا عدد ولا حصر، ويبدو أنه رغم وفاته إلا أنه لا يزال يملك هذه الروح الجدلية، فالرجل فى قبره بين يدى الله، ولا يزال الناس مختلفين حوله.
فى ذكرى مولده هذا العام، لم يحدث خلاف حوله، ولكن جرى ما يشبه النيل منه، والضربة جاءت هذه المرة من بعض شيوخ السلفية.
تداول السلفيون أولًا تسجيلًا صوتيًا للشيخ ناصر الدين الألبانى، كان قد سجله منذ سنوات تحت عنوان «وقفات مع الشيخ الشعراوى»، تقاطع معه فيما اعتبره أخطاء الشيخ فى العقيدة، وشرح بعضًا من تصوراته عن الذات الإلهية، وتوقف أكثر عند تفسير الشيخ للآية الكريمة «الرحمن على العرش استوى»... فقد ذهب الشعراوى إلى أن استوى معناها استولى، وهو ما رفضه الألبانى، على اعتبار أن الاستيلاء معناه أن صراعًا جرى على العرش، وأن الله حسم هذا الصراع لصالحه، وكانت نهايته أن يستوى هو على العرش، وهو ما يخالف العقل والمنطق، وما استقر عليه المنهج السلفى، فالله لم يصارع أحدًا، لأنه لم يكن أحد موجودًا مع الله.
لم يكن هذا فقط ما استرعى انتباه الألبانى، فقد عاب على الشيخ الشعراوى أنه يخالف العقيدة السلفية (يعتبره عقيدة كاملة، وليس مجرد أداء فى التدين وهذه قضية أخرى على أية حال) التى تنص على أن الله موجود بذاته فى السماء، وموجود بسمعه وبصره وإحاطته فى كل مكان.
وحتى ينتقص الألبانى ـ الذى يضع السلفيون يدهم عليه لمهاجمة الشيخ الشعراوى ـ من قدر الإمام الراحل، فإنه يتعرض لطريقة أدائه ومنهجه وأسلوبه، فيقول إن الكثيرين من المسلمين ينخدعون بكلام الشيخ الشعراوى بسبب لهجته العامية وسهولة أسلوبه وبساطته فى الشرح، حيث يستغل فى ذلك علمه باللغة العربية.
ويبدو أن المسألة بين الشيخ الشعراوى والسلفيين، لا تتعلق فقط بما يرونه أخطاء فى العقيدة لديه، بل يأخذون منه موقفًا بسبب رأيه فى الصلاة التى بها قبور، لم يكن الإمام عليه رحمة الله يرى حرجًا فى ذلك، فمن يصلى فى مسجد به ضريح، لا يصلى لصاحب الضريح، ولكنه يصلى من أجل الله وحده، لكن السلفيين كانوا، وسيظلون على رأيهم بأن الصلاة فى ضريح نوع من الشرك، ولذلك يقول أدعياء السلفية أن الشعراوى لا يعتمد عليه، وهذا بالطبع رأيهم الذى يخصهم وحدهم، ولا يخصنا فى قليل أو كثير.
الطعن فى حق الشيخ الشعراوى تبناه الشيخ محمد سعيد رسلان، شيخ السلفية المدخلية فى مصر، والذى يستقر فى المنوفية لا يغادرها أبدًا، وكان رسلان قد امتدح الشيخ الشعراوى فى حياته وبعد وفاته، إلا أنه عاد وسحب ثناءه عليه، بل واعتذر عنه.
كان يمكن أن نتجاهل تمامًا طعن السلفيين فى الشيخ الشعراوى، ولا نلتفت إليه من قريب أو بعيد، على اعتبار أن المنهج السلفى نفسه فاسد، فهم يريدون جرّنا إلى قرون قديمة، أو أنهم يريدون استحضار القرون القديمة بأفكارها وأناسها وكتبها، ليحكمونا من خلالها، دون مراعاة إلى أن العصر تغير، ومتطلباته تطورت، لكن الوقفة كانت واجبة، لأن الطعن لم يكن فى آراء الشعراوى السياسية، ولا فيما يخص المعاملات، ولكن الطعن ذهب إلى العقيدة رأسًا، وهو ما يستوجب تكفير الشيخ الشعراوى، على إعتبار أنه مجدف، ويخطئ فى حق الذات الإلهية، وهو ما ننزه عنه الشيخ الشعراوى.
اتهامات السلفيين للشيخ الشعراوى، تصل به إلى مرحلة الكفر، وهم يستحلون ذلك لا يتحرجون منه على الإطلاق، ولأنهم لا يستطيعون أن يصرحوا بذلك على الملأ، يلجأون إلى تشويه الشيخ وهو فى قبره، ويلقون فى وجوه محبيه ما يخرجونه به من الملة.
هذه تحديدًا النقطة التى لابد أن نتوقف أمامها ولو قليلًا، فإذا كان السلفيون يفعلون ذلك مع الشيخ الشعراوى وهو من هو، فما الذى يمكن أن يفعلوه فى عباد الله الفقراء البسطاء، الذين لا علم لهم ولا دراية؟.
****
لقد اختلفت مع الشيخ الشعراوى مبكرًا جدًا، وفى حياته ألفت كتابين عنه الأول هو «محاكمة الشعراوى»..والثانى «الشعراوى والسادات»..وعلمت أنه ضاق ببعض ما جاء فيهما، كنت قد رصدت حياة الشيخ خارج إطار اجتهاده الأعظم فى تفسير القرآن الكريم، وكان اهتمامى الأكبر فى رصد بعض من التناقضات التى وقع فيها، واستندت فى ذلك إلى ما كتبه هو، أو ما قيل إنه كتبه، فالمعروف عن الشيخ أنه لم يكن فى يوم من الأيام كاتبًا، بل كان متحدثًا، وكان هناك آخرون يسجلون وراءه ما يقوله، ويفرغونه ثم يعيدون نشره، ولأن النشر كان يتم دون العرض عليه فقد حفل بتناقضات كثيرة، خاصة أن مؤسسة عريقة مثل أخبار اليوم كانت تتعامل مع الشيخ على أنه أكبر سبوبة فى تاريخها، تصدر كتبه وتفسيره وكتبًا كثيرة عنه، وأعتقد أن بعضها أساء إلى الرجل إساءات بالغة (وهذا حديث آخر على أية حال).
يقولون إن المعاصرة حجاب، وعندما كان الشيخ الشعراوى بيننا ناشطًا وفاعلًا ومنتجًا، كنا نختلف حوله، لكن بعد أن مات وأصبح ما قاله ملكًا للتاريخ، ولن يستطيع أن يتراجع عنه أو يضيف إليه أو يصححه، أصبح الرجل فكرة صالحة للتقييم الكامل، وأشهد أن تقييم التجربة كلها، يأتى فى صالحه.
****
بعد الثورة تم استحضار الشيخ محمد متولى الشعراوى بقوة، كان حاضرًا فى المشهد ومسيطرًا عليه، فعندما واصل النشطاء اعتصاماتهم ومظاهراتهم واحتجاجهم على أى وكل شىء، خرج ليقول بصوته إن الثائر الحق هو الذى يثور ليهدم، ثم يهدأ ليواصل البناء، وكأنها كانت رسالة إلى الجميع أن الثورة حالة طارئة وليست دائمة، فلا توجد وظيفة اسمها ثائر، فقد ثار من أجل أن يهدم قديمًا لا يعجبه، ليأتى دور البناء بعد ذلك.
كانت رسالة الشيخ الشعراوى، أو رسالة من أخرجوا هذا الكلام لأهالى الثائرين، فلم يكن الشباب الصغير الذى قام بالثورة من جمهور الشيخ، ولم يكونوا من المفتونين به، أو المصدقين لما يقوله، ولذلك جاءت الرسالة بثمارها على سبيل الإقناع للأجيال القديمة، التى لم تكن فاعلة فى الشارع، فالأجيال الفاعلة فى الشارع لم تستمع للشيخ ولم تستجب له، لكنها تأثرت ببلاغته، وقدرته على قراءة المستقبل، فقد كان يتحدث وكأنه يعيش بيننا اليوم.
وعندما أطل الإخوان المسلمون علينا برؤوسهم العفنة، أخرجوا رسالة أخرى من رسائل الشيخ، كان قد تحدث بها فى البرنامج الشهير «من الألف إلى الياء»، وكانت عبارة عن حوار طويل أجراه معه المذيع الشهير طارق حبيب وأصدره فى كتاب بعد ذلك، قال الشعراوى عن الإخوان إنها بذرة لعن الله من أنبتها ولعن من تعجل قطف ثمارها.
كان الشعراوى واضحًا فى موقفه من الإخوان المسلمين، لقد شارك فى صياغة بيانها الأول، وكان يعرف مرشدها الأول حسن البنا، لكنه كان يعيب على الأجيال التى لحقت به، تعجلها فى الوصول إلى السلطة، دون أن يعدوا لها عدتها، وأعتقد أن ما قاله الشعراوى كان بمثابة النبوءة لنهاية جماعة الإخوان، فقد تعجلت الثمرة ففقدتها، وكانت تصارع على السلطة، ولما وصلت إليها فقدتها دون أن تدرى، وكان هذا طبيعيًا ومنطقيًا للغاية.
الاستدعاء الثالث للشيخ محمد متولى الشعراوى كان لوقفته فى الجامع الأزهر، ففى نهاية الثمانينات كانت الجماعات الإرهابية تشن هجمات متتابعة على المجتمع المصرى، اجتمع هو والشيخ محمد الغزالى والإمام الأكبر جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر وقتها، ووزير الأوقاف محمد على محجوب، وتحدث الشعراوى ضد من يريدون شرًا بمصر، هؤلاء الذين يكفرون أهلها، وقال كلمته الشهيرة إن مصر صدرت الإسلام إلى البلد الذى نزل فيه الإسلام، وقال الكلمة القاطعة إن من يريد شرًا بمصر فهو إما غافل أو جاهل أو مُستغِل أو مُستغَل، وكانت الكلمات الأخيرة قاطعة الدلالة على كل من يريدون شرًا بهذا الوطن.
****
لا أستشهد بهذه الكلمات التى تم استخراجها من تراث الشيخ الشعراوى للتأكيد على أنه كان متنبئًا كبيرًا، وكان يدرك ما نحن مقدمون عليه، ولكن للتأكيد على وطنيته الشديدة، فقد كان الرجل عالمًا جليلًا ارتبط بأرضه ووطنه، ورغم أنه عاش طويلًا بعيدًا عن تراب مصر، لكنه لم يفعل أبدًا مثلما فعل الإخوان الذين كانوا ينظرون إلى مصر على أنها جزء من دولة إسلامية كبيرة، كانت مصر عنده وطنًا مقدسًا، تصدى لمن أرادوا بها شرًا، ووقف بالمرصاد لمن أرادوا أن يزايدوا على إسلامها، فرغم كل ما نقوله عن إفراط أو تفريط، لكن تظل مصر لها خصوصيتها الشديدة التى لن يطاولها فيها أحد.
****
إننى أعيب على كل المحبين للشيخ محمد متولى الشعراوى إهمالهم الشديد له، قد يقول أحدهم إنهم يقيمون مولده كل عام، وقد يكون لهم مبررهم فى ذلك، فهو بالنسبة لهم ولى، أما نحن فالشعراوى اتفقنا أو اختلفنا معه عالم كبير، له اجتهاده الخاص، وكان يجب أن يكون الاهتمام به منصبًا على جمع تراثه وتنقيته والعمل عليه، حتى يتم تخليصه من المتناقض والمعاد والمكرر.
بعد وفاة الشيخ الشعراوى بشهور قليلة، خرج علينا ابنه الأكبر الشيخ سامى الذى كان وقتها أمينًا عامًا لمجمع البحوث الإسلامية، وقال إنه سيجمع كل الكتب التى تحمل اسم والده، من أجل أن يراجعها، ويخرج على الناس بما يمكن أن يعتبره تراث الشيخ، وقال وقتها إنه سوف يستعين بمجموعة من العلماء والمتخصصين، حتى يكون العمل علميًا لا تشوبه شائبة، لكن لم يحدث شيء من هذا على الإطلاق، ولا أدرى هل كانت هذه الفكرة طارئة بفعل الحنين أم أن سامى لا يزال يهتم بها؟.
ما لم يفعله أولاد الشيخ، يجب أن يفعله من يدينون له بالفضل، فقد أسهم الشيخ الشعراوى إسهاما كبيرًا من خلال تقديمه لرؤية خاصة فى تفسير القرآن الكريم.
صحيح أن التفسير الذى قدمه كان يغلب عليه التفسير اللغوى، لكن الرجل كان يحيط الآيات بحالة صوفية روحانية ندر أن تجدها فى تفاسير أخرى، بل إنك كنت تشعر فى تفسيره لآيات كثيرة أن الله آتاه حكمة خاصة، فقد كانت له تخريجاته وتأويلاته التى لا يمكن لأحد أن ينكرها عليه، وقد يكون هذا هو السبب الذى جعل الكثيرين يأنسون لما يقوله الشيخ الشعراوى.
يتعامل الكثيرون مع ما قدمه الشيخ الشعراوى، على أنه تفسير للقرآن، والواقع يقول إنه لم يكن كذلك على الإطلاق، لقد أدرك الشيخ الشعراوى حجم ما قدمه جيدًا، فأطلق عليه «خواطرى حول القرآن الكريم» وصدر أكثر من جزء فى بداية الحلقات يحمل هذا العنوان، ثم تحولت عناوين الكتب التى تحمل ما يقدمه إلى تفسير الشعراوى.
كان الشيخ الشعراوى يدرك أنه لا يمكن لأحد أن يحيط بكل أسرار القرآن، كان يعرف أن الله لا يمكن أن يمنح واحدًا من عباده الطيبين كل أسرار كتابه العزيز، ولذلك وفى تواضع شديد قال إن ما قدمه كانت خواطر وليس أكثر من ذلك.
من هنا يأتى سر هذا الرجل.
لقد مات الشيخ الشعراوى وهو يحمل لقب الإمام.
ورغم أن الناس يعرفون أن هناك إمامًا واحدًا فى مصر، وهو لقب رسمى يحمله من يشغل منصب شيخ الأزهر، ويطلق عليه لقب «الإمام الأكبر».. إلا أن هناك من كان يلقب الشيخ الشعراوى بالإمام الأعظم.
جعل منه الناس إمامًا شعبيًا، منحوه هم اللقب، وصدقوه، كما فعلوا من قبل مع بعض العلماء العظام عندما منحوهم لقب الإمام، لما قدموه بين يدى علوم الدين، لقد كانت هناك محاولات لتصعيد الشيخ الشعراوى حتى يكون شيخًا للأزهر، ويحصل على لقب الإمام رسميًا، لكن مبارك تحديدًا كان يرفض، ربما كان يخشى من شعبية الشيخ الطاغية، فقد تحول الشعراوى فى سنوات حياته الأخيرة إلى «تابو دينى» لا يستطيع أحد أن يقترب منه، بل كانت محاولات مناقشة ما يقوله محاطة بسياج هائل من المنع والتحذير والتحريم، لكن ما منعه عنه مبارك وغيره من السياسيين منحه له الناس.
من أجل هذا، ولأن اللقب كان شعبيًا، فقد ظل الشعراوى، وأعتقد أنه سيظل، كل ما أخذناه عليه أصبح تاريخًا الآن، كل ما وقفنا أمامه بسببه أصبح ذكرى، موقفه من المرأة، بعض ما قاله عن الأقباط، معاداته أحيانًا لمظاهر الحضارة والمدنية، تعامله مع أهل الثقافة والأدب والفكر، كل هذا أصبح ذكرى، علينا فقط أن نأخذ من الرجل ما يمكن أن يكون مفيدًا لخطاب دينى نتوافق عليه جميعًا.
****
ما قدمه الشيخ الشعراوى لم تتم دراسته حتى الآن، كل ما حدث أن مجموعة من المنتفعين سطت على تراثه، وحولوه إلى كتب بعناوين مختلفة، رغم أن المحتوى واحد، فقد عرفوا أن اسمه على أى كتاب ضمان لبيعه، ولذلك لم يترددوا عن التجارة باسمه.
هذه دعوة لإنقاذ تراث الشيخ الشعراوى، ليتحرك الأزهر الذى كان هو واحدًا من أبنائه الكبار، لتتحرك وزارة الأوقاف التى كان وزيرًا لها فى يوم من الأيام، لتتحرك أى جهة، المهم أن يتم إنقاذ تراث الرجل، أما ما يقوله السلفيون عنه، فاتركوه خلف ظهوركم ولا تنظروا إليها، لأنه فى البداية والنهاية بلا قيمة، مثله تمامًا مثل من قالوه.