دعوني أصارحكم، بأنني لست مرتاحا لتوقيت تفجير عدد من الإشكاليات الفكرية والدينية والتراثية في هذا التوقيت بالذات، وكان آخرها الدعوة لتنظيم تظاهرات نسائية تدعو لنزع الحجاب، التي اعتبرتها دعوة في غير محلها، وليس وقتها، وربطتها بالجدل المثار حول برنامج الأستاذ إسلام البحيري، ومن قبلة برنامج تعمد صاحبه(المتنقل في مواقفة السياسية بنفس الخفة التي يقفز بها على شاشات الفضائيات وأوراق الصحف)، أن ينقلنا لعذابات القبور وظلامها، وآخر أراد أن ينقل دخان الغرف المغلقة الأزرق، إلى الساحات العامة بتقنينها!!. وقد يكون أحد أسرار عدم ارتياحي، أن بعض أصحاب هذه الدعوات، أو قل التفجيرات أصحاب سجل باهر في التنقل المذهل بين الخنادق، والمواقع، ولعبوا دورا مريبا في تضليل الرأي العام، تارة برداء ثوري، وأخرى برداء تنويري، لهذا استدعت مواقفهم ودعواتهم الملغومة الذاكرة، ووجدت نفسي أعود إلى ما كنا نطلق عليه في الأعياد أو الموالد الشعبية، شغل الثلاث ورقات، أو الحاوي الذي يريد أن يشغلنا بشيء لكي يمرر شيئا آخر على طريقة (شوف العصفورة)! وبدا الأمر لي في بعض الحالات أن الجدل المثار حول كل هذة القضايا، لم يصب مطلقا في دعوات تجديد الخطاب الديني التي بدأت في مصر منذ الثمانينات وكانت خطابا وتوجها رسميا للدولة المصرية، وجددها الرئيس عبد الفتاح السيسي في إحدى خطبه منذ شهور، بل أدت بنتائج عكسية.
لدي قاعدة جماهيرية عريضة، استفزت مشاعرها الدينية، وخصوصا أن ما طرح من أفكار اصطدم بالموروث الديني لدى الأغلبية، دون تهيئة فكرية، باعتبار أن هذه الأفكار والقناعات تسللت في مناخ اقتصادي وثقافي، وأنها لا يمكن تغييرها إلا بتغيير هذا المناخ، لقد وقع أصحاب الدعوة لمظاهرة الحجاب في خطأ عندما حاولوا بمراهقة فكرية تكرار تجربة نخبة نساء مصر أثناء ثورة 1919 في نزع (البرقع) التركي، دون قراءة وفهم للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد في عام 2015، لقد ظهر الحجاب في مصر لأول مرة عقب هزيمة يونيو عام 1967، وإن كان ظهورا خجولا، وكان لا يمكن أن ترى فتاة أو سيدة محجبة إلا نادرا، وكان ذلك مثار دهشة، وربما تعجب، إلا أن تحول الأمر إلى حالة عامة مع سيطرة اليمين السياسي الديني بعد تحالفه مع الرئيس السادات، على وسائل الإعلام، ومنابر المساجد والمدارس وعودة آلاف العاملين المصريين من دول الخليج وخاصة السعودية، وبدا الأمر زحفا لثقافات مجتمعات أخرى هدفت ضمن ما هدفت لتغيير طبيعة الشخصية المصرية، المتحررة دون إفراط، والملتزمة دون تزمت، ومع تغير الأوضاع الاجتماعية، عقب الانفتاح الاقتصادي وظهور مشايخ الدعوة على قنوات التليفزيون الرسمي للدولة وترك المؤسسات التعليمية في أيدي عناصر الإسلام السياسي من الإخوان والسلفيين، أصبح خطاب التحريم والتقليل من شأن المرأة هو السائد، إلى أن رأينا خلال العقود الأخيرة انتشار النقاب سواء على الطريقة الخليجية أو الإيرانية، صحيح أن أغلب من ارتدين الحجاب جاء إما بضغوط اجتماعية او أسرية، وبعضها اقتصادي، لكن لا يمكن تجاهل دور الخطاب الديني الذي تم نشره بطريقة منظمة أخذت طابعا سياسيا وطائفيا في آن واحد، نعم لم تستسلم كثير من النساء والفتيات المصريات، لهذا الغزو، رغم حالة الإجبار الذي شهدتها مدارسنا في العقود الأخيرة لارتداء التلميذات والطالبات الحجاب، حتى تحول الحجاب بتنوعه وأشكالة إلى حالة اجتماعية تختلط أسبابها بين القناعة الدينية، والضغط الاجتماعي، والظروف الاقتصادية، لهذا قلت إنني لا أرتاح لمثل الذي الدعوات، التي تصطدم بكل هذه الأسباب، فضلا على اصطدامها بحق كل فتاة أو سيدة في أن تختار ما يناسبها من ملابس في إطار الذوق العام للمجتمع، فنحن لا نستطيع إجبار أي فتاة على نزع حجابها، تماماً كما نقف مؤيدين لحق أى فتاة في عدم ارتدائه، إن الإيمان بالحرية أمر لا يتجزأ، وأحد أسس التغيير في أي مجتمع يرتكز على فهم طبيعة هذا المجتمع، الذي لا يمكن إحداث تغيير حقيقي فيه إلا بتغيير ثقافتة ووعية، إن طرح مثل هذه القضايا في الوقت الذي تواجه فيه البلاد أخطارا داخلية وخارجية، تجعلني أتخوف أن هدفها يشبه تماماً لاعب الثلاث ورقات الذي يريد أن يبعد أنظارنا عن ألاعيبه وننظر للعصفورة، ليمرر هو خديعته!