لا أعرف قدر الدقة الذي يمكن أن نستشعره حين نتابع الأنباء التي تقب وتغطس - منذ سنوات - عن قنوات الاتصال بين إيران، وبعض المجموعات المسلحة الناشطة في سيناء، لا بل وارتباط تلك المجموعات بتيار مقتدى الصدر تحديدًا.. ولكن الشواهد التي توافرت لنا، والتي يمكن أن تتجمع خيوطها أمامنا تخبرنا أن تلك الترديدات منطقية للغاية، بالنظر إلى نوعية الاهتمام الذي تعطيه إيران لمصر ضمن مشروعها لاستهداف عدد من البلاد العربية بعملية تصدير ثورة الملالي من آيات الله، وإحياء نفس الفكر الامبراطوري الصفوي، أو الشاهنشاهي (أيام أسرة بهلوي) أو الثوري في اللحظة الراهنة.
ولا كلمة.. إيران تعرف أن إضعاف مصر يعني زوال ما يسمى القوة الإقليمية العظمي Super-reginal-power، وراثة تلك المكانة سوف تكون النتيجة الطبيعية لزوال الرادع أمام نزوع الهيمنة والتوسع، وإضعاف مصر أولًا يدخل ضمن تلك المنظومة من المتواليات، وهو لن يتم بعوامل طبيعية، وإنما ينبغي التدخل، واللعب في الداخل المصري، وصولًا إلى تفجير الأوضاع وإسقاط مؤسسات الدولة العُمد مثل الشرطة والجيش والقضاء والمخابرات، والطبيعي أن الخصوم الإقليميين لمصر الذين يطمحون في وراثة الدور المصري يحاولون استغلال أي ظرف طارئ من عدم الاستقرار في مصر، لتعظيم وجودهم، والتحول إلى لاعب (ظاهر) في اللعبة السياسية والداخلية المصرية بدلًا من كونهم لاعب (كامن) يتحرك بأدوات العمل السري والمخابراتي فقط.
إيران وتركيا لديهما نفس الدوافع، واستغلتا نفس الظرف أو أسهمتا في خلقه وتصنيعه.
فأما عن إيران (التي بدأت بها هذه السطور) فإنها عملت منذ الثورة الخمينية عام 1979 على استهداف مصر، والتهويم والتحويم حولها، عبر تخليق مواطئ أقدام لها في الجوار المصري وبالذات في السودان، وليس الوجود البحري الإيراني شبه الدائم في ميناء بورسودان بعيدًا عن ذلك، إذ فضلًا عن الأهمية الاستراتيجية للميناء، وللبحر الأحمر بصفة عامة، فإن التحرك من السودان إلى جنوب مصر هو أمر منطقي، وبخاصة مع تواجد فعلي (ويزيد باضطراد) لعناصر الحرس الثوري الإيراني وذراعه فيلق القدس (وهو مجموعة من القوات الخاصة التي تقوم بعمليات خارج الحدود) في معسكرات دارفور وكردفان والبحر الأحمر التي صارت تعج بالتكفيريين وأعضاء الميليشيات الإسلامية من كل الأطياف والتلاوين، وبالذات من المصريين.
هؤلاء جميعًا يؤسسون لقاعدة التواجد الإيراني، وكانت تتكئ كذلك على أعداد متزايدة من رجال الأعمال، وتوسع في دائرة البيزنس الإيراني، وكذلك ما كان يسمى (المراكز الثقافية الإيرانية) التي أغلقتها الحكومة السودانية - بضغط سعودي في حقيقة الأمر- لأنها تحولت إلى رءوس جسور لنشر المذهب الشيعي في السودان، يعني إيران تقود مشروعًا توسعيًا برءوس ثلاثة (عسكرية واقتصادية وثقافية)، والأساس المذهبي في ذلك المشروع حاضر جدًا، فهو يعتمد علي الشيعة في البلاد التي يتواجدون فيها بزخم مناسب، ويحاول (تشييع) البلاد التي يمثل السُنة فيها الكتلة الديمغرافية الغالبة.
وهكذا فقد تحركت إيران بنفس النسق في مصر، وكانت طرفًا رئيسيًا في التآمر على الدولة في السنوات التي سبقت عملية يناير 2011، وكثيرًا ما وضعت أجهزة أمن الدولة المصرية يدها على تشكيلات منظمة، أو عناصر فردية تتحرك - مباشرة - ضد الأمن، وتتصل برجال التنظيمات الإسلامية السُنية (ومن المفهوم أن إيران تدعم التنظيمات السُنية المناهضة لاستقرار الدول الوطنية في العالم العربي، وتدفعها محرضة على إثارة الفوضى، ووسط مناخ الفوضى يسهل التدخل الدولي والإقليمي المخابراتي والعسكري إذا لزم الأمر، وهو اللحظة المناسبة التي تنفذ فيها إيران إلى أحد المقاصد التي استهدفتها).
مصر شهدت - زمن رئاسة اللواء حسن عبد الرحمن لجهاز مباحث أمن الدولة عام 2005 - ضبط تنظيم شيعي مسلح، ورصدت بعض الأفراد الذين يقومون بأنشطة لنشر التشيع في البلاد، ولكن الموضوع تم (لمه) لأسباب سياسية ومواءمات خاصة في ذلك التوقيت، ولكن حين بدأ الاضطراب المخطط الكبير في يناير 2011 تحركت عناصر التجسس والتخابر التي تعمل لصالح إيران في مصر، لا بل وحدث اختراق إيراني مباشر عبر وحدات من حزب الله اشتركت في الهجوم العسكري على السجون وقتلت المتظاهرين، فضلًا عن العلاقة الوطيدة التي تربط إيران بمنظمة حماس الإرهابية (تمويلًا وتسليحًا) وهي المنظمة التي تمارس وما زالت عدائيات قوية ضد الدولة المصرية، والعلاقة العضوية معها، وهي نموذج العلاقة المتكرر الذي تدعم فيه طهران تشكيلات سُنية وتستخدمها في إثارة الاضطراب بما يعطيها ذريعة للتدخل، وينقل صراع إيران مع الغرب (قبل اتفاق الملف النووي) من ساحة المواجهة مع إيران إلى ساحات أخرى، وفي نفس الوقت فإن إيران كانت تحرك عملاءها لضرب التشكيلات السُنية التي دعمتها، وهكذا جرى حين أُعلن ما سمى (جيش المختار المصري) الذي أفصح عن علاقته وارتباطه بمجموعة مقتدى الصدر في العراق، وهو الذي وجّه تهديدات بالقتل لزعماء السلفيين والإخوان (محمد مرسي والقرضاوي) من الإخوان و(الشيخ محمد حسان وآخرون) من السلفيين، وفي نفس الوقت كانت عناصر عملاء إيران تسعى للتمهيد لزيارة محمود الأحمدي نجاد إلى مصر والتي بدت غزوًا واستلامًا للبلد، وهي استنساخ لنفس الأسلوب الذي اتبعه الأخرق رجب طيب أردوغان في زيارته للقاهرة كذلك.
يعني القوى الإقليمية - التي تود وراثة المكانة والدور المصري - هرعت إلى المجيء إلينا، مطالبة أولئك الذين قادوا عملية يناير بتسليم خَرج العملية أو (غلتها) !!
وضمن مشهد تلك الحالة راح جهل الإخوان الإرهابيين يدفعهم إلى مراكمة جديدة على جبل حماقاتهم، فطرح المرشد بديع ونائبه الشاطر على "نجاد" أن يساعدهم في بناء جيش وشرطة موازيين كبديل للقوات النظامية التابعة للدولة (وعلى غرار الحرس الثوري الإيراني).. ورافق ذلك - أيضًا - طروح لافتة لبعض رموز الإخوان المسلمين مثل د. محمد سليم العوا عن خلق كتلة إقليمية جديدة لها آليات تنسيق ثلاثي بين (مصر+ تركيا+ إيران)، وهو أمر لا يؤدي عمليًا وفي حالة الضعف (التي وصلت إليها مصر بعد عملية يناير) إلا إلى قيام إحدى القوتين الإقليميتين الأخريين بابتلاع مصر والإنهاء الكامل لحضورها الإقليمي أو الدولي المنافس.
نشاط التشييع في مصر أخذ صيغة مختلطة بين شرح الفقه الشيعي، وبين ربطه بعمليات سياسية تخدم هدف تصدير الثورة الإيرانية، وقد كانت شبكة مواقع التواصل الاجتماعي الشيعية ساحة لذلك النشاط في مصر بشكل يزداد تأثيره في كل يوم.
وفي هذا الإطار ينبغي علينا التنويه بأن عداءً مذهبيًا من أي درجة ليس حاضرًا في الذهن أو النفسية أو الشخصية المصرية، وإنما العداء هو لخلط الفقه بالتحرك السياسي والهدف التوسعي.
الوضع صار مقلقًا لأن ظواهر متعددة للاستهداف الإيراني لمصر وضمها إلى الحلم الامبراطوري (الذي أشار إليه علي يونسي مستشار روحاني حين قال: الامبراطورية الإيرانية ستتحقق وعاصمتها بغداد وهو كذلك الذي تحدث عنه حيدر مصلحي وزير المخابرات السابق وقال: بلادي موجودة في أربع عواصم عربية)، ومن ضمن ظواهر الاختراق الإيراني التحرك في دور نشر بعينها تمتلك صحفًا ولها فروع في بيروت ذات صلة وثيقة بحزب الله، وتنظيم رحلات لوفود إعلامية وصحفية (أصبح لها وكلاء من الصحفيين يختارون العناصر التي سيتم تسفيرها) وتتم متابعتهم بعد ذلك وتحفيزهم على الإكثار من التغطية عن إيران، وإقامة بعض مراكز البحوث أو اختراقها وتوظيفها في خدمة المشروع الإيراني.. أما على المستوى الاقتصادي فيتم الاختراق عبر مجموعات بعينها من رجال الأعمال، وللتمويه يتم اختيار بعضهم من الأقباط.. وهكذا اكتملت الدائرة، ثم راحت إيران تحاول ركوب الموقف الذي ساهمت في تأزيمه واضطرابه في مصر.
.....................................................
أما تركيا فإن منهجها لم يختلف إزاء مصر، إلا في أمرين أولهما أنها جنّدت لخدمة واحد من أهم رجال الحكومة في عهد الرئيس مبارك، وهو وزير الصناعة رشيد محمد رشيد، والذي عمل مستشارًا للسلطات التركية في المجال الاقتصادي، كما تربطه صلات وثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على المستويين الاقتصادي والسياسي، ويعد من المقربين جدًا لبيتر مندلسون كادر حزب العمال البريطاني المهم الذي كان من قادة التحديث في الحزب، ونقل تجربة الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى ذلك الحزب، ووثيق الصلة بإسرائيل، وقد شغل مناصب وزير الصناعة والتجارة في حكومة توني بلير ومفوض التجارة في الاتحاد الأوروبي، وهو واحد من ثلاثة يهود كانوا الأكثر تأثيرًا على بلير وهم: لورد سانسبوري وجاك سترو (مخلط) وبيتر مندلسون.
وقدم رشيد محمد رشيد خدمات كبرى للأتراك في مصر وفي تسهيل نشاطاتهم وحصولهم على ميزات في المناطق الصناعية وبالذات في برج العرب.
وقد استخدمت المخابرات المصرية وضع "رشيد" كثيرًا، إذ كان عمر سليمان يبغي التخلص من الإلحاح التركي على التعاون الأمني والاستراتيجي مع مصر، والذي يدخلنا (تلقائيًا) إلى التعاون مع إسرائيل، ورأى مدير المخابرات المصرية أن تحويل مجرى التعاون مع تركيا إلى الجانب الاقتصادي يحافظ على العلاقة ويظهر حسن النوايا، ويتجنب مسألة التعاون الأمني التي كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو- رئيس الوزراء الآن- يلح عليها بنعومة ومداخل متنوعة الأمر الذي تنبه له منذ اللحظة الأولى وزير الخارجية المصري وقتها أحمد أبو الغيط، واتفق مع عمر سليمان على زحلقة أوغلو إلى رشيد، الذي تمتع بوضعية مدهشة تتيح له التحرك في مربع يشمل (تركيا+ الإخوان+ المخابرات المصرية+ إسرائيل)، وراح "رشيد" يدير الاستثمار التركي في مصر ويهندس علاقات تجارية تركية - إخوانية بطلها خيرت الشاطر.
وفي ذات الوقت اكتسح الأتراك مصر بحملة إعلامية وتسويقية سياسية، تتحدث عن النموذج التركي، والشكل الإسلامي المحدث والمتطور الذي تطرحه تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا (حزب العدالة والتنمية هو الذي خلف حزب الرفاه الذي أنشأه أربكان تلميذ سعيد رمضان الكادر الإخواني الهارب إلى ألمانيا منذ 1958 وزوج ابنة حسن البنا).
وكان أحد المنابر الأساسية لحملة تركيا في التسويق السياسي لتجربتها، صالون سفيرها في القاهرة حسين بك عوني الذي طردته السلطات المصرية خلال تطورات الصدام الذي انفجر بين البلدين، بالضبط مثل حالة سابقة قديمة طردت فيها السفير التركي حسين بك طوغاي أيام جمال عبد الناصر، لرفض أنقرة الاعتراف بثورة يوليو.
وفي صالون حسين عوني تبارى بعض الخبراء والباحثين والكتاب والصحفيين ورجال الأعمال والدبلوماسيين المتمردين في ترويج نموذج تركيا الجديدة، وطرحوا - بإلحاح مخبول- ما أسموه التتريك، أي استنساخ التجربة التركية في مصر، وهي دعوة حين يتم إلقاؤها في أرضية صحافة وإعلام يقودهما الجهلاء في مصر، فإنها تنتشر كفطر الماشروم وعلى نحو كبير، ويلفتني هنا دقة العمل المخابراتي التركي في استخدامه ألفاظ معينة في الترويج للتجربة التركية وإقصاء أو استبعاد ألفاظ أخرى، فقد استخدم الأتراك (وردد خلفهم الجهلاء من المصريين) كلمة "التتريك" في إطار ترويج الحداثة والعصرية والنمو والجدوى والقدرة على التواؤم مع العالم المتقدم، والالتحاق بركب الحضارة، فيما لم يستخدم الأتراك لفظة (العثمانية) أو (إحياء العثمانية) وهي تمثل نواياهم وأهدافهم الحقيقية، لأنهم يعرفون أن لها دلالات سلبية جدًا في الذهن المصري، حيث تستدعي تجربة تاريخية قديمة متخلفة جدًا عاشها المصريون تحت الحكم العثماني، وسيطرت فيها على الأتراك موازع الإذلال والتعالي، ونهب الثروات المصرية، وترحيل الصناع المهرة إلى الأستانة، وعدم الاهتمام بترقية شئون المصريين، حتى أن نابليون نقل مصر حضاريًا في ست سنوات (هي عمر الحملة الفرنسية) بأكبر كثيرًا مما فعله العثمانيون في خمسمائة عام من الاحتلال لبلادنا.
تركيا كانت تتحرك في كل مجال تعرف أن مصر فيه لأنها اتخذت قرارًا بالفعل أن تكون بديلًا، وتعاونت في ذلك مع القطريين وكانت معهم واجهة لإسرائيل ينفذون ما يخدم مصالحها واستراتيجيتها حرفيًا.
وأفصحت تركيا عن ارتباطها الكامل بالإخوان حين ساندت سلطتهم في مصر (زمن محمد مرسي) لدرجة قول أوغلو إن معه ورقة وقعها أردوغان علي بياض لتقديم كل ما تطلبه مصر، وهذا يناقض - تمامًا - خطاب ونوايا تركيا إزاء سلطة مصر الجديدة فيما بعد ثورة 30 يونيو العظمى التي أطاحت بحكم محمد مرسي، إذ أفصحت أنقرة عن عداء مرير لمصر، ومرارة أكبر إزاء سقوط حلمها بالعثمانية وإحيائها والذي رافق هزيمة مشروع الخلافة الإخواني ومشروع الشرق الأوسط الأوسع الأمريكي.
تركيا - الآن - تمارس عداءها بوضوح، فتقدم شحنات سلاح في حاويات المراكب، وأخرى للجماعات الإرهابية في ليبيا والسودان، وتحتضن أبواق الدعاية الإخوانية في المحطات التليفزيونية العميلة (رابعة) و(مكملين) وغيرها، وفي مجال السياسية الخارجية و(بديلًا من السياسات الماكرة أيام الرئيس مبارك والتي كانت تختلق فيها المشاكل ثم تتظاهر بالتدخل المبدئي الذي تقاعست مصر عنه كما فعلت في حادث سفينة الحرية وفي عملية اقتحام معبر رفح 2008 – 2009)، الأتراك - الآن- يهاجمون مصر بشكل ساطع ليس فيه تجمل أو تستر، وبلغ الأمر أن رئيسها هاجم الرئيس المصري المنتخب عبد الفتاح السيسي من على منبر الأمم المتحدة.
.........................................................
إيران وتركيا تحاولان منفردتين (كل على حدة) وراثة الدور المصري الآن سواء بالتورط المباشر كما تفعل إيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، أو بتنفيذ الطبعة الجديدة أو النسخة الأخرى من مشروع الشرق الأوسط الأوسع الأمريكي (سايكس بيكو-2)
وإيران وتركيا تحاولان معًا وراثة ذلك الدور المصري إذا لم تسمح الظروف لأحدهما بالانفراد، وبخاصة بعدما صار وجود الجيش المصري وحفاظه على قواته هو عامل ترجيح لبقاء مصر باعتبارها (الدولة رقم واحد) في كل معادلات المنطقة.
ومن المجالات التي تحاول تركيا وإيران التحرك فيها معًا (بمعنى في نفس الوقت) إفريقيا، حيث تلعب تركيا في إثيوبيا وتمد خطوط طيرانها إلى كل مكان في القارة السمراء، فيما عمدت إيران إلى استغلال الاحتياج الأوغندي لإقامة مراكز لتوليد الطاقة النووية، وراحت تطرح في وسائل الإعلام أخبارًا تقول إن مدربين إيرانيين سوف يقومون بالمهمة.
الدولتان العدوتان مجنونتان بمحاولة استلاب مصر دورها وتلك اللوثة السياسية زادت جدًا في العالم الماضي حين ضاعت فرصهما بعد أن كان كل شيء في متناول أياديهم.. ولو لم تكن لمصر مكانة، ولو لم تلعب أدوارًا بالفعل لما حاول الآخرون الانقضاض على أيهما وكليهما، وهنا لا بد أن نقوم بتذكير كل مَن تجاوب مع صياح العملاء والجواسيس والخونة قبل عملية يناير 2011، والذي كان يحاول إيهام الجماهير بأن دور مصر في خطر، وبأن مؤسسات الدولة وكوادرها الوطنية الرفيعة في الخارجية والمخابرات والشرطة والقضاء يمكن أن تفرط أو تبيع!.
ولا كلمة.. إيران تعرف أن إضعاف مصر يعني زوال ما يسمى القوة الإقليمية العظمي Super-reginal-power، وراثة تلك المكانة سوف تكون النتيجة الطبيعية لزوال الرادع أمام نزوع الهيمنة والتوسع، وإضعاف مصر أولًا يدخل ضمن تلك المنظومة من المتواليات، وهو لن يتم بعوامل طبيعية، وإنما ينبغي التدخل، واللعب في الداخل المصري، وصولًا إلى تفجير الأوضاع وإسقاط مؤسسات الدولة العُمد مثل الشرطة والجيش والقضاء والمخابرات، والطبيعي أن الخصوم الإقليميين لمصر الذين يطمحون في وراثة الدور المصري يحاولون استغلال أي ظرف طارئ من عدم الاستقرار في مصر، لتعظيم وجودهم، والتحول إلى لاعب (ظاهر) في اللعبة السياسية والداخلية المصرية بدلًا من كونهم لاعب (كامن) يتحرك بأدوات العمل السري والمخابراتي فقط.
إيران وتركيا لديهما نفس الدوافع، واستغلتا نفس الظرف أو أسهمتا في خلقه وتصنيعه.
فأما عن إيران (التي بدأت بها هذه السطور) فإنها عملت منذ الثورة الخمينية عام 1979 على استهداف مصر، والتهويم والتحويم حولها، عبر تخليق مواطئ أقدام لها في الجوار المصري وبالذات في السودان، وليس الوجود البحري الإيراني شبه الدائم في ميناء بورسودان بعيدًا عن ذلك، إذ فضلًا عن الأهمية الاستراتيجية للميناء، وللبحر الأحمر بصفة عامة، فإن التحرك من السودان إلى جنوب مصر هو أمر منطقي، وبخاصة مع تواجد فعلي (ويزيد باضطراد) لعناصر الحرس الثوري الإيراني وذراعه فيلق القدس (وهو مجموعة من القوات الخاصة التي تقوم بعمليات خارج الحدود) في معسكرات دارفور وكردفان والبحر الأحمر التي صارت تعج بالتكفيريين وأعضاء الميليشيات الإسلامية من كل الأطياف والتلاوين، وبالذات من المصريين.
هؤلاء جميعًا يؤسسون لقاعدة التواجد الإيراني، وكانت تتكئ كذلك على أعداد متزايدة من رجال الأعمال، وتوسع في دائرة البيزنس الإيراني، وكذلك ما كان يسمى (المراكز الثقافية الإيرانية) التي أغلقتها الحكومة السودانية - بضغط سعودي في حقيقة الأمر- لأنها تحولت إلى رءوس جسور لنشر المذهب الشيعي في السودان، يعني إيران تقود مشروعًا توسعيًا برءوس ثلاثة (عسكرية واقتصادية وثقافية)، والأساس المذهبي في ذلك المشروع حاضر جدًا، فهو يعتمد علي الشيعة في البلاد التي يتواجدون فيها بزخم مناسب، ويحاول (تشييع) البلاد التي يمثل السُنة فيها الكتلة الديمغرافية الغالبة.
وهكذا فقد تحركت إيران بنفس النسق في مصر، وكانت طرفًا رئيسيًا في التآمر على الدولة في السنوات التي سبقت عملية يناير 2011، وكثيرًا ما وضعت أجهزة أمن الدولة المصرية يدها على تشكيلات منظمة، أو عناصر فردية تتحرك - مباشرة - ضد الأمن، وتتصل برجال التنظيمات الإسلامية السُنية (ومن المفهوم أن إيران تدعم التنظيمات السُنية المناهضة لاستقرار الدول الوطنية في العالم العربي، وتدفعها محرضة على إثارة الفوضى، ووسط مناخ الفوضى يسهل التدخل الدولي والإقليمي المخابراتي والعسكري إذا لزم الأمر، وهو اللحظة المناسبة التي تنفذ فيها إيران إلى أحد المقاصد التي استهدفتها).
مصر شهدت - زمن رئاسة اللواء حسن عبد الرحمن لجهاز مباحث أمن الدولة عام 2005 - ضبط تنظيم شيعي مسلح، ورصدت بعض الأفراد الذين يقومون بأنشطة لنشر التشيع في البلاد، ولكن الموضوع تم (لمه) لأسباب سياسية ومواءمات خاصة في ذلك التوقيت، ولكن حين بدأ الاضطراب المخطط الكبير في يناير 2011 تحركت عناصر التجسس والتخابر التي تعمل لصالح إيران في مصر، لا بل وحدث اختراق إيراني مباشر عبر وحدات من حزب الله اشتركت في الهجوم العسكري على السجون وقتلت المتظاهرين، فضلًا عن العلاقة الوطيدة التي تربط إيران بمنظمة حماس الإرهابية (تمويلًا وتسليحًا) وهي المنظمة التي تمارس وما زالت عدائيات قوية ضد الدولة المصرية، والعلاقة العضوية معها، وهي نموذج العلاقة المتكرر الذي تدعم فيه طهران تشكيلات سُنية وتستخدمها في إثارة الاضطراب بما يعطيها ذريعة للتدخل، وينقل صراع إيران مع الغرب (قبل اتفاق الملف النووي) من ساحة المواجهة مع إيران إلى ساحات أخرى، وفي نفس الوقت فإن إيران كانت تحرك عملاءها لضرب التشكيلات السُنية التي دعمتها، وهكذا جرى حين أُعلن ما سمى (جيش المختار المصري) الذي أفصح عن علاقته وارتباطه بمجموعة مقتدى الصدر في العراق، وهو الذي وجّه تهديدات بالقتل لزعماء السلفيين والإخوان (محمد مرسي والقرضاوي) من الإخوان و(الشيخ محمد حسان وآخرون) من السلفيين، وفي نفس الوقت كانت عناصر عملاء إيران تسعى للتمهيد لزيارة محمود الأحمدي نجاد إلى مصر والتي بدت غزوًا واستلامًا للبلد، وهي استنساخ لنفس الأسلوب الذي اتبعه الأخرق رجب طيب أردوغان في زيارته للقاهرة كذلك.
يعني القوى الإقليمية - التي تود وراثة المكانة والدور المصري - هرعت إلى المجيء إلينا، مطالبة أولئك الذين قادوا عملية يناير بتسليم خَرج العملية أو (غلتها) !!
وضمن مشهد تلك الحالة راح جهل الإخوان الإرهابيين يدفعهم إلى مراكمة جديدة على جبل حماقاتهم، فطرح المرشد بديع ونائبه الشاطر على "نجاد" أن يساعدهم في بناء جيش وشرطة موازيين كبديل للقوات النظامية التابعة للدولة (وعلى غرار الحرس الثوري الإيراني).. ورافق ذلك - أيضًا - طروح لافتة لبعض رموز الإخوان المسلمين مثل د. محمد سليم العوا عن خلق كتلة إقليمية جديدة لها آليات تنسيق ثلاثي بين (مصر+ تركيا+ إيران)، وهو أمر لا يؤدي عمليًا وفي حالة الضعف (التي وصلت إليها مصر بعد عملية يناير) إلا إلى قيام إحدى القوتين الإقليميتين الأخريين بابتلاع مصر والإنهاء الكامل لحضورها الإقليمي أو الدولي المنافس.
نشاط التشييع في مصر أخذ صيغة مختلطة بين شرح الفقه الشيعي، وبين ربطه بعمليات سياسية تخدم هدف تصدير الثورة الإيرانية، وقد كانت شبكة مواقع التواصل الاجتماعي الشيعية ساحة لذلك النشاط في مصر بشكل يزداد تأثيره في كل يوم.
وفي هذا الإطار ينبغي علينا التنويه بأن عداءً مذهبيًا من أي درجة ليس حاضرًا في الذهن أو النفسية أو الشخصية المصرية، وإنما العداء هو لخلط الفقه بالتحرك السياسي والهدف التوسعي.
الوضع صار مقلقًا لأن ظواهر متعددة للاستهداف الإيراني لمصر وضمها إلى الحلم الامبراطوري (الذي أشار إليه علي يونسي مستشار روحاني حين قال: الامبراطورية الإيرانية ستتحقق وعاصمتها بغداد وهو كذلك الذي تحدث عنه حيدر مصلحي وزير المخابرات السابق وقال: بلادي موجودة في أربع عواصم عربية)، ومن ضمن ظواهر الاختراق الإيراني التحرك في دور نشر بعينها تمتلك صحفًا ولها فروع في بيروت ذات صلة وثيقة بحزب الله، وتنظيم رحلات لوفود إعلامية وصحفية (أصبح لها وكلاء من الصحفيين يختارون العناصر التي سيتم تسفيرها) وتتم متابعتهم بعد ذلك وتحفيزهم على الإكثار من التغطية عن إيران، وإقامة بعض مراكز البحوث أو اختراقها وتوظيفها في خدمة المشروع الإيراني.. أما على المستوى الاقتصادي فيتم الاختراق عبر مجموعات بعينها من رجال الأعمال، وللتمويه يتم اختيار بعضهم من الأقباط.. وهكذا اكتملت الدائرة، ثم راحت إيران تحاول ركوب الموقف الذي ساهمت في تأزيمه واضطرابه في مصر.
.....................................................
أما تركيا فإن منهجها لم يختلف إزاء مصر، إلا في أمرين أولهما أنها جنّدت لخدمة واحد من أهم رجال الحكومة في عهد الرئيس مبارك، وهو وزير الصناعة رشيد محمد رشيد، والذي عمل مستشارًا للسلطات التركية في المجال الاقتصادي، كما تربطه صلات وثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على المستويين الاقتصادي والسياسي، ويعد من المقربين جدًا لبيتر مندلسون كادر حزب العمال البريطاني المهم الذي كان من قادة التحديث في الحزب، ونقل تجربة الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى ذلك الحزب، ووثيق الصلة بإسرائيل، وقد شغل مناصب وزير الصناعة والتجارة في حكومة توني بلير ومفوض التجارة في الاتحاد الأوروبي، وهو واحد من ثلاثة يهود كانوا الأكثر تأثيرًا على بلير وهم: لورد سانسبوري وجاك سترو (مخلط) وبيتر مندلسون.
وقدم رشيد محمد رشيد خدمات كبرى للأتراك في مصر وفي تسهيل نشاطاتهم وحصولهم على ميزات في المناطق الصناعية وبالذات في برج العرب.
وقد استخدمت المخابرات المصرية وضع "رشيد" كثيرًا، إذ كان عمر سليمان يبغي التخلص من الإلحاح التركي على التعاون الأمني والاستراتيجي مع مصر، والذي يدخلنا (تلقائيًا) إلى التعاون مع إسرائيل، ورأى مدير المخابرات المصرية أن تحويل مجرى التعاون مع تركيا إلى الجانب الاقتصادي يحافظ على العلاقة ويظهر حسن النوايا، ويتجنب مسألة التعاون الأمني التي كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو- رئيس الوزراء الآن- يلح عليها بنعومة ومداخل متنوعة الأمر الذي تنبه له منذ اللحظة الأولى وزير الخارجية المصري وقتها أحمد أبو الغيط، واتفق مع عمر سليمان على زحلقة أوغلو إلى رشيد، الذي تمتع بوضعية مدهشة تتيح له التحرك في مربع يشمل (تركيا+ الإخوان+ المخابرات المصرية+ إسرائيل)، وراح "رشيد" يدير الاستثمار التركي في مصر ويهندس علاقات تجارية تركية - إخوانية بطلها خيرت الشاطر.
وفي ذات الوقت اكتسح الأتراك مصر بحملة إعلامية وتسويقية سياسية، تتحدث عن النموذج التركي، والشكل الإسلامي المحدث والمتطور الذي تطرحه تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا (حزب العدالة والتنمية هو الذي خلف حزب الرفاه الذي أنشأه أربكان تلميذ سعيد رمضان الكادر الإخواني الهارب إلى ألمانيا منذ 1958 وزوج ابنة حسن البنا).
وكان أحد المنابر الأساسية لحملة تركيا في التسويق السياسي لتجربتها، صالون سفيرها في القاهرة حسين بك عوني الذي طردته السلطات المصرية خلال تطورات الصدام الذي انفجر بين البلدين، بالضبط مثل حالة سابقة قديمة طردت فيها السفير التركي حسين بك طوغاي أيام جمال عبد الناصر، لرفض أنقرة الاعتراف بثورة يوليو.
وفي صالون حسين عوني تبارى بعض الخبراء والباحثين والكتاب والصحفيين ورجال الأعمال والدبلوماسيين المتمردين في ترويج نموذج تركيا الجديدة، وطرحوا - بإلحاح مخبول- ما أسموه التتريك، أي استنساخ التجربة التركية في مصر، وهي دعوة حين يتم إلقاؤها في أرضية صحافة وإعلام يقودهما الجهلاء في مصر، فإنها تنتشر كفطر الماشروم وعلى نحو كبير، ويلفتني هنا دقة العمل المخابراتي التركي في استخدامه ألفاظ معينة في الترويج للتجربة التركية وإقصاء أو استبعاد ألفاظ أخرى، فقد استخدم الأتراك (وردد خلفهم الجهلاء من المصريين) كلمة "التتريك" في إطار ترويج الحداثة والعصرية والنمو والجدوى والقدرة على التواؤم مع العالم المتقدم، والالتحاق بركب الحضارة، فيما لم يستخدم الأتراك لفظة (العثمانية) أو (إحياء العثمانية) وهي تمثل نواياهم وأهدافهم الحقيقية، لأنهم يعرفون أن لها دلالات سلبية جدًا في الذهن المصري، حيث تستدعي تجربة تاريخية قديمة متخلفة جدًا عاشها المصريون تحت الحكم العثماني، وسيطرت فيها على الأتراك موازع الإذلال والتعالي، ونهب الثروات المصرية، وترحيل الصناع المهرة إلى الأستانة، وعدم الاهتمام بترقية شئون المصريين، حتى أن نابليون نقل مصر حضاريًا في ست سنوات (هي عمر الحملة الفرنسية) بأكبر كثيرًا مما فعله العثمانيون في خمسمائة عام من الاحتلال لبلادنا.
تركيا كانت تتحرك في كل مجال تعرف أن مصر فيه لأنها اتخذت قرارًا بالفعل أن تكون بديلًا، وتعاونت في ذلك مع القطريين وكانت معهم واجهة لإسرائيل ينفذون ما يخدم مصالحها واستراتيجيتها حرفيًا.
وأفصحت تركيا عن ارتباطها الكامل بالإخوان حين ساندت سلطتهم في مصر (زمن محمد مرسي) لدرجة قول أوغلو إن معه ورقة وقعها أردوغان علي بياض لتقديم كل ما تطلبه مصر، وهذا يناقض - تمامًا - خطاب ونوايا تركيا إزاء سلطة مصر الجديدة فيما بعد ثورة 30 يونيو العظمى التي أطاحت بحكم محمد مرسي، إذ أفصحت أنقرة عن عداء مرير لمصر، ومرارة أكبر إزاء سقوط حلمها بالعثمانية وإحيائها والذي رافق هزيمة مشروع الخلافة الإخواني ومشروع الشرق الأوسط الأوسع الأمريكي.
تركيا - الآن - تمارس عداءها بوضوح، فتقدم شحنات سلاح في حاويات المراكب، وأخرى للجماعات الإرهابية في ليبيا والسودان، وتحتضن أبواق الدعاية الإخوانية في المحطات التليفزيونية العميلة (رابعة) و(مكملين) وغيرها، وفي مجال السياسية الخارجية و(بديلًا من السياسات الماكرة أيام الرئيس مبارك والتي كانت تختلق فيها المشاكل ثم تتظاهر بالتدخل المبدئي الذي تقاعست مصر عنه كما فعلت في حادث سفينة الحرية وفي عملية اقتحام معبر رفح 2008 – 2009)، الأتراك - الآن- يهاجمون مصر بشكل ساطع ليس فيه تجمل أو تستر، وبلغ الأمر أن رئيسها هاجم الرئيس المصري المنتخب عبد الفتاح السيسي من على منبر الأمم المتحدة.
.........................................................
إيران وتركيا تحاولان منفردتين (كل على حدة) وراثة الدور المصري الآن سواء بالتورط المباشر كما تفعل إيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، أو بتنفيذ الطبعة الجديدة أو النسخة الأخرى من مشروع الشرق الأوسط الأوسع الأمريكي (سايكس بيكو-2)
وإيران وتركيا تحاولان معًا وراثة ذلك الدور المصري إذا لم تسمح الظروف لأحدهما بالانفراد، وبخاصة بعدما صار وجود الجيش المصري وحفاظه على قواته هو عامل ترجيح لبقاء مصر باعتبارها (الدولة رقم واحد) في كل معادلات المنطقة.
ومن المجالات التي تحاول تركيا وإيران التحرك فيها معًا (بمعنى في نفس الوقت) إفريقيا، حيث تلعب تركيا في إثيوبيا وتمد خطوط طيرانها إلى كل مكان في القارة السمراء، فيما عمدت إيران إلى استغلال الاحتياج الأوغندي لإقامة مراكز لتوليد الطاقة النووية، وراحت تطرح في وسائل الإعلام أخبارًا تقول إن مدربين إيرانيين سوف يقومون بالمهمة.
الدولتان العدوتان مجنونتان بمحاولة استلاب مصر دورها وتلك اللوثة السياسية زادت جدًا في العالم الماضي حين ضاعت فرصهما بعد أن كان كل شيء في متناول أياديهم.. ولو لم تكن لمصر مكانة، ولو لم تلعب أدوارًا بالفعل لما حاول الآخرون الانقضاض على أيهما وكليهما، وهنا لا بد أن نقوم بتذكير كل مَن تجاوب مع صياح العملاء والجواسيس والخونة قبل عملية يناير 2011، والذي كان يحاول إيهام الجماهير بأن دور مصر في خطر، وبأن مؤسسات الدولة وكوادرها الوطنية الرفيعة في الخارجية والمخابرات والشرطة والقضاء يمكن أن تفرط أو تبيع!.