السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

مصر على سرير النظام.. العرض مستمر والمأساة أيضًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أراد العملاق - طبقا للأسطورة اليونانية القديمة – أن يخضع أهل مدينته لرغبته وإرادته، صنع سريرا من الحديد، ووضعه في عرض الطريق، وكلما مر عليه أحد، حمله ليضعه على سريره، فإذا كان الجسد أقصر مدد في أوصال صاحبه ولا يتوقف حتى لو تخلعت، وإذا كان الجسد أطول قطع أوصال صاحبه، غير ملتفت لصرخات ضحاياه، فالمهم عنده أن يصبح الجميع على مقاس السرير.
اهتم من تشغلهم الأساطير بالإشارة إلى اسم العملاق اليونانى – اسمه بروكروست - لكنى لم اهتم باسمه، بقدر ما اهتممت بما فعله، ليس لأنه أسطورى، ولكن لأنه واقعى جدا.
فلو اطلع بروكروست على حادثات الشارع المصرى الآن لوجد نفسه مجرد مبتدئ في فن إخضاع الآخرين لرغبته وإرادته وقوانينه، فقد وضع بعض المواطنين على سريره، مدد أوصالهم وقطّع أرجلهم، ليتناسبوا مع المقاس الذي حدده، أما النظام المصرى فقد جعل مصر كلها على السرير الذي حدد مقاسه بدقة، وهو مقاس يتناسب مع مصالحه ورؤيته ليس في الحكم فقط، ولكن في الحياة أيضا.
من الظلم أن نقول إن نظام الرئيس مبارك (١٩٨١- ٢٠١١) هو صاحب السبق في صنع السرير، وتظبيط المصريين عليه، فهو نظام تابع ليس إلا، فقد بدأها نظام الرئيس جمال عبدالناصر (١٩٥٤- ١٩٧٠)، وكان التجلى الأعظم والأعلى لهذه الفلسفة هو بناء ما أطلقوا عليه المساكن الشعبية.
وهى مساكن تتشابه في كل شيء، ليست إلا بلوكات حجرية، لها نفس التصميم، وأذكر أننى في بداية استقرارى في القاهرة، كنت أتردد على أقاربى في حى الأميرية، وفى كل مرة أدخل بلوك على وجه الخطأ، ولا أكتشف ذلك إلا قبل أن اضغط على جرس الباب بلحظة، فلم يكن هناك أي شىء يميز بلوك أقاربى عن الآخرين، إلا اللافتة الموجودة على الباب، فالمساكن الشعبية لم تكن مجرد مبانٍ صماء، ولكنها كانت انعكاسا لفلسفة حكم كاملة.
أراد عبدالناصر أن يكون المصريون على مقاس واحد، لا يخرجون عنه أو عليه، وهى طريقة يستطيع من خلالها أن يصوغهم كما يريد، وأن يوجههم إلى حيث يشاء دون أن يعترض أحد.
وحتى عندما أراد الرئيس السادات (١٩٧٠ – ١٩٨١) أن يفتت نظام الحكم الواحد إلى منابر ثم أحزاب، وجد أن هناك تمردا من نوع ما، جر عليه هذا التنوع الأذى وألحق به الضرر، فجمع وفى ضربة واحدة أكثر من ١٥٣٦ مواطنا من مختلف ألوان الطيف السياسي، ووضعهم في السجن، فيما أطلق عليه اعتقالات سبتمبر ١٩٨١.
لم يكن معتقل السادات سجنا بقدر ما كان «سرير بروكروست»، فقد أراد الرئيس أن يمدد القصير ويقطع أوصال الطويل، حتى يخضع الجميع له، لكن الأقدار لم تمكنه من أن يفعل ما أراده، فقد نصبت له سريرها الخاص، وأنهت حياته في حادث المنصة الشهير.
ما فشل فيه الرئيس السادات، نحج فيه الرئيس مبارك تماما، فرغم أنه أوجد حالة من التنوع الهائلة في المجتمع المصرى، وهى حالة لا ينكرها إلا جاحد، إلا أن أحدا وسط هذا الصخب الهائلة من التنوع لم يخرج عن قاعدة السرير الشهيرة حتى لو تخيل أنه فعل ذلك بالفعل، فكلما أراد أحد أن يتمرد أو يعلن صوتا مختلفا، تجد النظام يحاصره ويجلسه على سريره الحديدى، ليتعامل معه على الفور.
الفارق الأكبر والأعظم في نظام الرئيس مبارك، أنه نفذ نظرية السرير دون عنف.
لقد خرجت الجماعات الإسلامية من السجن بعد أن أنامها النظام على السرير باسم المراجعات الفقهية، وأصبحت الأحزاب السياسية كائنات هشة أو وحوشًا مروضة باسم الصفقات والمصالح والتعيين في مجلس الشورى، وأصبحت الصحف جارية بلاط بالعطايا والإعلانات، وتحولت النخبة في كل مكان إلى خدم من خلال التلويح بالترقيات والمناصب، ثم خضع الجميع بعد أن أصبحت التقارير الأمنية مسلطة على رقاب الجميع.
لا أحد نجا من النوم على سرير النظام في مصر، للدرجة التي أصبح يقال فيها، إن من لم يذهب إلى النظام، لم يفعل ذلك فقط لأنه لم يدعه أحد، وإن من لم يبع نفسه للنظام، لم يفعل ذلك فقط، لأنه لم يجد أحدا يشتري منه.
ما نجح فيه مبارك لثلاثين عاما، لم يستفد منه محمد مرسي، حاول أن يطبق نظرية السرير بمنتهى العنف، فلم يكن من المصريين إلا أن قاموا بإخصائه تماما.
نظام الرئيس السيسى لديه مشكلة أخرى، فهو لا يريد أن ينام المصريون على سريره، ليصبحوا مقاسا واحدا، لأنه بالفعل ينظر لهم على أنهم أتباع متشابهون في كل شىء، وليس لهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا دون أن يسألوا أو يناقشوا، وهذه هي أزمة هذا النظام ومأساته الكبرى.