لعله الملمح الأبرز في اللحظة السياسية العربية الراهنة، ذلك الذي يشير إلى انكشاف وتحديد قاطعين لطبيعة الصدام الجاري على أرض المنطقة، وبعبارة أخرى فإنه يعني سقوط الأقنعة وتعامل كل طرف مع مفردات الصراعات الجارية بشخصيته الحقيقية ومن دون تجميل أو مخاتلة أو إخفاء.
نحن بقول واحد أمام صراع بين (الهوية العربية) و(الهوية الفارسية) أو صراع بين قوميتين، ولا يجب أن يحاول البعض طرح الملف باعتباره نزاع حديه هما (السُنة) و(الشيعة)، إذ أن المذاهب الدينية تم تسييسها علي يد إيران فقط، حين نشأت الجمهورية الإسلامية وحكم الملالي من آيات الله، وبدأ طرح أفكار (تصدير الثورة) وإضطلاع حرس الثوري ومخابرات فيلق القدس بدور أساسي، في دعم وتعزيز التشكيلات السياسية والميليشيات العسكرية ذات الإنتماءات الشيعية في كل مكان على امتداد خريطة العالم العربي، وكانت تلك التشكيلات أو الميليشيات هى الأداة الأساسية في دعم تصعيد تلك النزعات التي تسعى إلى (تديين) التضاغطات أو الصراعات السياسية، أو تتبيعها لمذهب عقائدي بعينه.
لابل وقام أحد رءوس الجسور المتقدمة والمبكرة في هذا الإطار وأعني به حزب الله اللبناني، بدور السمسار السياسي والأيديولوجي الذي يقوم بتسويق وترويج الدور الإيراني الفارسي، أو الهيمنة الملتحفة بغطاء مذهبي في دول المنطقة جميعا، وبما أدى إلى تصنيع شبكة واسعة من التنظيمات الموالية لإيران، لابل وقام حزب الله بتغذية وتحريك عناصر وخلايا تنظيمات سُنية متطرفة، لتقوم بأدوار في خدمة طهران، ومن ذلك ما انكشف مؤخرا من دعم إيران لعناصر من القاعدة، رغم ما تدعيه من صدام مع ذلك التنظيم، وكذلك تنظيم جبهة النصرة، ويلاحظ في هذا الإطار ما يشبه التحالف الذي نشأ بين إيران وجماعة الإخوان الإرهابية أثناء حكمها المنكوب، وظهرت تجلياته بوضوح أثناء زيارة الرئيس محمود الأحمدي نجاد للقاهرة والأزهر الشريف، كما بدت في إشارات مباشرة أطلقها قادة جماعة الإخوان الإرهابية مثل د. محمد سليم العوا، الذي نادي في حوار منشور أجريته معه بتحالف بين مصر وإيران وتركيا على الرغم من أن تركيا السنية تحاول الظهور الآن بمظهر المعادية لإيران على خلفية تقاطع مصالح البلدين، ولكن بعد فشل مشروع الإسلام السياسي (في إطار الشرق الأوسط الأوسع) باندلاع ثورة 30 يونيو العظمي، إذ عادت أنقرة لتنظر إلي إيران بوصفها خصما استراتيجيا يضرب مصالحها بشكل مباشر وأولها الهيمنة على السوق العربي الواسع لتصريف السلع التركية التي عجزت عن غمر السوق الأوروبي، بعد إقصائه على نحو باتر من نادي (الاتحاد الأوروبي).
نعود إلى قيام إيران بمساندة وتصنيع عدد من الميليشيات والتنظيمات الشيعية، وتحريكها لتلعب دورا سياسيا يرتبط بالهوية الفارسية، وهو ما يصطبغ بالتبعية ملمحا مذهبيا شيعيا، فيستقطب بالضرورة وبالطبيعة صعودا لقوى السنة وعلى أسس (سياسية) كذلك.
إن نظرة واحدة إلى الدور الذي لعبته إيران مع أحمدوفيتش صادقييفه الشهير بجعفر الأوزبكي، أو عبد العزيز خليل الشهير بزين العابدين السوري، والإثنان من القاعدة، يقول لنا بوضوح أن هدف إيران (التي دفعت حزب الله اللبناني للقيام بذلك الدور) يقوم علي تصدير الثورة، وليس على الصراع المذهبي.
إذن هناك مقاتلون سنة تدعمهم إيران وتحركهم بين طهران ومشهد وزهدان من أجل تحقيق أهداف هيمنة إيران، وتصدير ثورتها وبما يدحض مذهبية الصراع الحادث الآن، أو شيعيته.
وهناك كذلك دعم من حزب الله لميليشيات مسلحة (درزية) في منطقتي درعا والسويداء بسوريا، وذلك لمواجهة أخطار داعش أو جبهة النصرة، وهذا أيضا يؤكد عدم مذهبية أو شيعية الصراع.
أما الميليشيات والتشكيلات الشيعية فإن دعمها يدفع إلي بسط نفوذها وسيطرتها وتحقيق تصدير الثورة الإيرانية مباشرة، والمدهش أن بعض تمددات الحوثيين في اليمن راحت تتودد للسُنة مؤكدة أن (الزيديين) الحوثيين هم أقرب للسُنة من أي فصيل آخر، فيما جيش المهدي وعصائب أهل الحق، وسرايا السلام في العراق مع باقي قوات الحشد الشعبي إفترست السُنة في المناطق التي تحركت لتحريرها في صلاح الدين والأنبار، يعني تتنوع مواقف التنظيمات الشيعية من السُنة بحسب ظروف كل بلد، ومدى سهولة أو صعوبة الإختراق الإيراني له، وهذا يؤكد سياسية الصراع لا (مذهبيته).
لابل أنه في إطار الشيعة أنفسهم، وفي إطار الزيديين ذاتهم فإن إنقسامات حادة تشير إلى أن مواقفهم ليست واحدة، فقبائل الأحمر طوردت من قبل الحوثيين، وهم ينظرون إلي الحوثيين علي أنهم لا يمثلوا الزيديين، وإنما هم مجرد عائلة زاد عددها ودعمتها إيران علي نحو ساعدها علي التحرك لتحقيق أهداف (سياسية) بعينها.
وعلي ذلك النحو فقط أفهم تخاريف حسن نصرالله التي أذاعها في أول هذا الأسبوع، حين قرر إدانة الدول العربية والإسلامية التي شاركت في (عاصفة الحزم)، ولم يتردد نصرالله في الدفاع عن تدخل إيران في شئون دول المنطقة، مدعياً أن التدخل الإيراني في العراق كان فقط بسبب عدم تحمل السُنة لمسئولياتهم في حماية ذلك البلد ضد داعش.
هنا بالذات وبذلك الخطاب الفاضح في انحيازه الطائفي، والمذهبي، يتحول الصراع السياسي والقومي إلى صراع قوميات حول الهوية، أكده خطاب حسن نصرالله مرات حين ادعى أن (العرب) تركوا لبنان عام 1982 يواجه هجوم إسرائيل ولم ينقذهم إلا حزب الله وسوريا وقبلهما إيران، اتهم العرب بأنهم تخلوا عن الشعب الفلسطيني ولم تنقذه سوي إيران التي قدمت الدعم المعنوي والعسكري.
الموضوع هو تحرك سياسي بالدرجة الأولى تغذيها نزعات إنتقامية فظيعة تسيطر على العقل الفارسي، إذ ترى في العرب أولئك الذين قاموا من ألف وثلاثمائة عام بتغيير حروف اللغة الفارسية إلي العربية، وكذلك تغيير ديانتهم من (الزرادشتية) إلى الإسلام، يعني- مرة أخرى- الموضوع ليس شيعة في مواجهة سُنة، وإنما عرب في مواجهة فرس.
أقول هذا الكلام لأن بعض مستسهلي التفسيرات السطحية يحاول حشر نموذج صراعات الشرق الأوسط الآن في نموذج الحروب الدينية الأوروبية (البروتستانتية والكاثوليكية) والتي استمرت منذ 1418 حتي 1448، وراح ضحيتها ربع سكان القارة العجوز ولم تنته إلا بصلح وستفاليا.
هم مخطئون، ولكنهم فقط يجدون سندا في السيناريوهات التي تضعها الولايات المتحدة أو تحاول تطبيقها في المنطقة العربية، والتي مرة أخرى تعكس الجهل السياسي الأمريكي الرشيق، ودناءت التآمر التي تستخدم أي أدوات في سبيل تنفيذ الخطة المجنونة الحقيرة بتقسيم العالم العربي، حتي لو كانت تلك السيناريوهات تحاول تصعيد الحزازات المذهبية والعرقية والطائفية لتسهم في تدمير دولنا بأي ثمن وإعادة تطبيق ما أطاحته ثورة 30 يونيو العظمى.
مرة أخرى هو ليس صراعا دينيا أو مذهبيا، ولكنه حرب على الهوية والقومية لتحقيق الأهداف السياسية، وهذا هو ما سقطت الأقنعة لتكشفه على نحو قاطع.