الهرم مقلوب منذ ما يزيد عن ستين عاما. المُعلّم مُهان، ومُستصغر، وأسير الحاجة والفاقة.
التعليم صار كالهواء بالفعل، ليس كما أراد الدكتور طه حسين عندما كان وزيرا للتعليم فى آخر حكومة لحزب الوفد قبل حركة يوليو 1952، وإنما كالهواء من حيث الفائدة أو التأثير . كهواء اللاشىء، لا لون ولا رائحة ولا توجه.
التعليم اختبار النظام السياسى وتحديه الحقيقى. مَن يُركز عليه يُغيّر وجه مصر، ومَن يعتبره قضية ومشكلة مثل غيرها من المشكلات ليس مُخلصا ، ولا يستحق تصفيقا أو تهليلا.
وتصورى أن السنوات الثلاث القادمة هى التى ستُحدد مدى قُدرة الرئيس عبد الفتاح السيسى على تحديث مصر وتنميتها بالفعل. لو أحسن فلا شك أن ذلك الاحسان سيكون موجها لنسف النظام التعليمى القائم تماما من جذوره ، وحشد كُل امكانات الدولة لاقامة نظام بديل ابتكارى وفعال . ولو أساء ــ لا قدر الله ــ فإن أحد شواهد تلك الاساءة سيكون تجاهل نظام التعليم والاكتفاء بما يُقدم له من دعم تافه ، وتنظيم الحملات للتبرع لانشاء مدارس جديدة دون انشاء مُعلمين أكفاء يُغيرون أدمغة الاجيال القادمة.
التعليم الحالى مشوه، لا يُسمن من جوع ، عفا عليه الزمن ، تاجر به مُعلمون غير متعلمين بحثا عن أرزاق اضافية .
إن أردت معرفة مستقبل دولة ، فانظر إلى حجم ما تنفقه على التعليم ، هل يتجاوز ما يُنفق على الأمن أم لا ؟ هل يتجاوز ما يُدفع للمُعلمين ما يتم دفعه للدبلوماسيين أم لا ؟هل هنُاك أصلا ما يُصرف على المُعلمين ليتحولوا بالفعل إلى مُعلمين؟
إننى أقول ذلك وأنا أتذكر مقولة الإمبراطور اليابانى العظيم تينو عندما سُئل عن تفسيره للنهضة العظيمة التى حققتها اليابان علميا وتكنولوجيا وصناعيا بعد أن تعرضت لكارثة الضرب بالقنابل النووية فى يوليو 1945حيث قال الرجل: " لقد بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي، وراتب الوزير" .
تصوروا حصانة للمُعلم تفوق حصانة البرلمانيين ، وراتب يتساوى مع راتب الوزير .هكذا تتقدم الدول وتنهض بأنظمتها التعليمية . لذا ليس غريبا أن يبلغ متوسط راتب المُعلم فى الولايات المتحدة 4050 دولار شهريا ، بينما يصل الرقم فى سنغافورة إلى أربعة آلاف دولار شهريا ، وفى ألمانيا 3300 دولارا ، وفى استراليا نفس الرقم تقريبا فضلا عن آلاف الدولارات سنويا لتنمية مهاراته وقدراته .
أما فى مصر فرغم زيادة راتب المُعلمين مؤخرا ، الا أنه مازال يقل فى المتوسط عن مائتى دولار شهريا ، فى ظل ظروف صعبة قاسية تجعل من مهنته مهنة مُحتقرة فى المجتمع . لقد كان وضع المُعلمين ــ وما زال ــ بائسا لدرجة استغلال العمل الصباحى فى المدارس لاصطياد زبائن من التلاميذ الراغبين فى شرح حقيقى وتحفيظ مُباشر يفيد فى النجاح دون تعلُم حقيقى لأى مهارات .
إن الحكومة تُبعثر ــ بعلم وبدون علم ــ أموالها فى دعم وقود السيارات الفارهة ، وكهرباء الكازينوهات والمراقص ، وسلع ، وخبز ، وأسمدة ، ولكنها تعتبر الملاليم التى تُدفع كأجور للمُعلمين انفاقا على تحديث وتطوير التعليم .
وهكذا نتقدم على الطريق المسدود ، وهكذا نصعد إلى اللاشىء . والله أعلم .