الأحداث المتوالية التى تشهدها منطقة وادى الريان فيما يتعلق بدير الأنبا مكاريوس، والتى تتصاعد بشكل متسارع، هى حالة كاشفة بامتياز عن واقع متأزم عند كل الأطراف التى لها صلة بالأمر، الرهبان والكنيسة والدولة والعربان، وتكشف فى جوانب منها إختلالات إدارة الأزمات عندهم، وتؤكد على أن الشفافية والمكاشفة نسقان لم يختبرا بعد، وتتعمق الأزمة بتحويلها فى بعض مساراتها إلى "اختبار قوة" فى صراعات خارجها، تصل فى بعضها إلى "تكسير العظام.
وقفات تأسيسية
1.
لا يمكن التعرض لهذه الأزمة قراءة وتحليلاً، بغير أن نقترب من السياق العام وطبيعة المرحلة ومتغيراتها، وبغير أن نربط بينها وبين واقع الكنيسة التنظيمى، وما استقر فى الذهنية القبطية الكنسية من مفاهيم، باتت تشكل ما يقترب من الثوابت، الى درجة اعتبار الاإقتراب منها من المحاذير، وربما من الخطايا، وتحسب تشكيكاً فى قامات تاريخية تحصنت بسياج شعبوى مأزوم بفعل استهدافه فى الفضاء العام، بامتداد نصف قرن ويزيد.
علينا ان نؤكد أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هى كنيسة الشعب، التى لا تعرف الطبقية، أو الازدواجية، وأنها عبرت على امتداد تاريخها بتماوجات بين القمم والقيعان، يوما كان لها دورها اللاهوتى فى تنظير الإيمان المسيحى وضبطه على الكتاب وتسليم الكنيسة الأولى، ويوماً تراكمت عليها عوامل الزمن واجتاحتها اعاصير عاتية، من داخل ومن خارج، مرضت ولم تمت، كان السر يقبع فى الإنسان المصرى البسيط الذى تبدل لسانه ثلاث مرات، بعد ان هجر اليونانية بفعل انحيازه القومى، ومرة عندما أجبر على التحول إلى العربية فى عصور مصر الوسطى، لكنه بقى متمسكاً بزخم لاهوته وإيمانه الذى اختزنه فى صلواته وفى الليتورجيا، وفى ابداعاته الجدارية وطقسه الذى ترجم كل هذا ليس فقط فى الصلوات لكن فى الممارسات، فاستنطق المادة، وعمّد الحواس ، بين البخور والشموع والأيقونة، ويحول صلواته إلى نغم يسرى فى وجدانه، ويعبر عن لحظات الفرح والحزن والتوسل ينقل المحفل الى السماء ويستحضر السمائيين ويتوحد معهم، ويوقع ايمانه على الزمن فتتحول السنة بجملنتها إلى حضور متواتر يومى للمسيح فى ليتورجية تتتبع خطوات المسيح يتأملها ويذدردها ويجترها ويعيشها ويعيش بها.
وفى فترات التراجع كان يتناقلها دون ان يستوعب فحواها، لكنه كان اميناً عليها كوديعة يسلمها لأجياله، وبالتوازى كانت منظومة الرهبنة رغم ما نالها من ضعف حينها، هى المخزون الإستراتيجى، للإيمان والعقيدة والحياة المسيحية. هكذا تضافرت كنيسة القرية وصوامع الأديرة معاً لتحمى إيماناً وصل الينا كما كان يعتقده اباء الكنيسة الأولى، وكان الثمن فادحاً.
2.
فى العصر الحديث نجدنا أمام محطات نتوقف عندها لنفهم تضاريس اللحظة المعاشة، بتشابكاتها وتعقيداتها وصراعاتها وايجابياتها واضاءاتها، كانت البداية المنظورة عندما انتبه أراخنة الأقباط الى حالهم مقارنة بما حملته رياح الانفتاح على الشواطئ المقابلة للبحر المتوسط، والتى استهدفت رعية الكنيسة، يبادر البابا كيرلس الرابع التنويرى، بخوض غمار التعليم، والتثقيف بإمكانات عصره، عبر سلسلة مدارس عامة وفنية ويلتفت الى تعليم البنات ويستقدم ثانى اكبر مطبعة بعد مطبعة محمد على الأميرية، وبعده بسنوات نقف مع البابا كيرلس الخامس لنضع ايدينا على أول مؤشر لملامح الأزمة والحل، فى تعاطيه مع منظومتين تأسسا عبر شباب ورجال الكنيسة من المدنيين؛ المجلس الملى ومدارس الأحد، وكيف قاوم الأولى فتعثرت بين المواجهة والتهميش وأحياناً التجميد، ثم الاحتواء والتدجين، ودعم الثانية فصارت واحدة من أعمدة التعليم فى ربوع مصر بل وقفزت لتحتل مقاعد القيادة فى الكنيسة.
وعندما تغشانا لحظات التراجع الروحى واللاهوتى نعيش صراعاً يتراوح بين المجاهرة أو تحتويه الغرف المغلقة، بين الإكليروس والعلمانيين، بما ينعكس على اداءات كليهما، وتظهر أثاره فى الحياة الكنسية بجملتها.
ونجد انفسنا أمام حفنة من الأسئلة والبحث عن اجابات، كيف ولماذا وما الحل؟
3.
ولا يمكن التعرض للحظة المعاشة دون أن نقترب بموضوعية من منظومة الرهبنة، ماهيتها وطبيعتها، وتطور علاقتها بالكنيسة، كيف تحولت من مبادرة "علمانية" لم يكن للكنيسة دور مباشر فى تأسيسها، وحرص مؤسسوها على أن يحتفظوا بمسافة بينهم وبين الكهنوت، منذ لحظة ولادتها، وعلى امتداد قرون، ولهذا نقرأ عن "قس الإسقيط"، على الرغم من الدور الذى لعبه مؤسسها الشاب المصرى انطونيوس عندما تفجرت أزمة اريوس التى سيطرت على الشارع المسيحى عامة والقبطى منه خاصة، حتى صارت خبز يوم المصريين، يتداولونه فى محافلهم وأسواقهم، ومنتدياتهم، وفيما ينهمك البابا اثناسيوس فى ادارة معركته فى مجمع نيقية، يترك الراهب المصرى انطونيوس صومعته وينزل الإسكندرية يشرح ويفسر ويدعم إيمان الكنيسة، ويحميه من الانحراف وينتصر للاهوت الابن الأزلى الأبدى، وعندما يعود البابا البطريرك يسعى للقديس انبا انطونيوس ويطلب اليه ان يبقى بجواره لكنه يرفض عائداً إلى قلايته، فيختار البابا اثنين من تلاميذ مؤسس الرهبنة لينضموا الى طاقم مساعديه، وتتسلل الرهبنة بنعومة للكنيسة، ثم تقفز الى صفوف القيادة، لتصبح المصدر الوحيد لكوادر القيادة، وفى لحظات التراجع تنفجر الإشكاليات وتجد الصراعات موقعاً فى المشهد الكنسى، وتزاد الأمور تعقيداً عندما يخفت صوت التسليم الآبائى وتختفى التلمذة. وتقفز الأسئلة الأثيرة مجدداً؛ كيف ولماذا وما الحل؟.
تجرى فى نهر الكنيسة والوطن مياه كثيرة، وتعيش الكنيسة بالقصور الذاتى، بقوة دفع الموروث الطقسى والتراث الآبائى وإن خفت، ويتوالى على مصر رهط من الحكام من خارجها، لتدخل فى نفق مظلم مع الحلقة الأخيرة من المحتلين مع الدولة العثمانية، وتشهد واقعاً ملتبساً وقتها؛ كان الحكم الرسمى آنذاك للعثمانيين الأتراك وكان الواقع فى يد المماليك بكل بطشهم ونهمهم وصراعاتهم البينية، وبينهما يقاوم الأقباط مخاطر الذوبان أو الإندثار، فيحتمون بالعمل الخاص والتفوق فى دوائر الإدارة والحسابات، والحرص على تعليم ابنائهم، كدأب الأقليات وسيكولوجيتهم، يدعمهم فى هذا منظومة قيمهم التى تقول بها المسيحية، فكان ان احتفظوا بموقعهم المجتمعى، بل وصاروا صمام أمان له فى مواجهة محاولات الحكام على تنوعهم لتفكيك الوطن.
وعلى الرغم من الدور الحيوى والمحورى للرهبنة إلا أنها صارت محملة بتساؤلات عن واقعها واتساقه مع نذورها وهدفها، واختلالات الطريق، واستقلاليتها، بل وتنوع مدارسها، وهل كبلتها توجهات القولبة.
وتعود الأسئلة لتقفز مجدداً كيف ولماذا وما الحل؟.
ومازال للوقفات بقية.
وقفات تأسيسية
1.
لا يمكن التعرض لهذه الأزمة قراءة وتحليلاً، بغير أن نقترب من السياق العام وطبيعة المرحلة ومتغيراتها، وبغير أن نربط بينها وبين واقع الكنيسة التنظيمى، وما استقر فى الذهنية القبطية الكنسية من مفاهيم، باتت تشكل ما يقترب من الثوابت، الى درجة اعتبار الاإقتراب منها من المحاذير، وربما من الخطايا، وتحسب تشكيكاً فى قامات تاريخية تحصنت بسياج شعبوى مأزوم بفعل استهدافه فى الفضاء العام، بامتداد نصف قرن ويزيد.
علينا ان نؤكد أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هى كنيسة الشعب، التى لا تعرف الطبقية، أو الازدواجية، وأنها عبرت على امتداد تاريخها بتماوجات بين القمم والقيعان، يوما كان لها دورها اللاهوتى فى تنظير الإيمان المسيحى وضبطه على الكتاب وتسليم الكنيسة الأولى، ويوماً تراكمت عليها عوامل الزمن واجتاحتها اعاصير عاتية، من داخل ومن خارج، مرضت ولم تمت، كان السر يقبع فى الإنسان المصرى البسيط الذى تبدل لسانه ثلاث مرات، بعد ان هجر اليونانية بفعل انحيازه القومى، ومرة عندما أجبر على التحول إلى العربية فى عصور مصر الوسطى، لكنه بقى متمسكاً بزخم لاهوته وإيمانه الذى اختزنه فى صلواته وفى الليتورجيا، وفى ابداعاته الجدارية وطقسه الذى ترجم كل هذا ليس فقط فى الصلوات لكن فى الممارسات، فاستنطق المادة، وعمّد الحواس ، بين البخور والشموع والأيقونة، ويحول صلواته إلى نغم يسرى فى وجدانه، ويعبر عن لحظات الفرح والحزن والتوسل ينقل المحفل الى السماء ويستحضر السمائيين ويتوحد معهم، ويوقع ايمانه على الزمن فتتحول السنة بجملنتها إلى حضور متواتر يومى للمسيح فى ليتورجية تتتبع خطوات المسيح يتأملها ويذدردها ويجترها ويعيشها ويعيش بها.
وفى فترات التراجع كان يتناقلها دون ان يستوعب فحواها، لكنه كان اميناً عليها كوديعة يسلمها لأجياله، وبالتوازى كانت منظومة الرهبنة رغم ما نالها من ضعف حينها، هى المخزون الإستراتيجى، للإيمان والعقيدة والحياة المسيحية. هكذا تضافرت كنيسة القرية وصوامع الأديرة معاً لتحمى إيماناً وصل الينا كما كان يعتقده اباء الكنيسة الأولى، وكان الثمن فادحاً.
2.
فى العصر الحديث نجدنا أمام محطات نتوقف عندها لنفهم تضاريس اللحظة المعاشة، بتشابكاتها وتعقيداتها وصراعاتها وايجابياتها واضاءاتها، كانت البداية المنظورة عندما انتبه أراخنة الأقباط الى حالهم مقارنة بما حملته رياح الانفتاح على الشواطئ المقابلة للبحر المتوسط، والتى استهدفت رعية الكنيسة، يبادر البابا كيرلس الرابع التنويرى، بخوض غمار التعليم، والتثقيف بإمكانات عصره، عبر سلسلة مدارس عامة وفنية ويلتفت الى تعليم البنات ويستقدم ثانى اكبر مطبعة بعد مطبعة محمد على الأميرية، وبعده بسنوات نقف مع البابا كيرلس الخامس لنضع ايدينا على أول مؤشر لملامح الأزمة والحل، فى تعاطيه مع منظومتين تأسسا عبر شباب ورجال الكنيسة من المدنيين؛ المجلس الملى ومدارس الأحد، وكيف قاوم الأولى فتعثرت بين المواجهة والتهميش وأحياناً التجميد، ثم الاحتواء والتدجين، ودعم الثانية فصارت واحدة من أعمدة التعليم فى ربوع مصر بل وقفزت لتحتل مقاعد القيادة فى الكنيسة.
وعندما تغشانا لحظات التراجع الروحى واللاهوتى نعيش صراعاً يتراوح بين المجاهرة أو تحتويه الغرف المغلقة، بين الإكليروس والعلمانيين، بما ينعكس على اداءات كليهما، وتظهر أثاره فى الحياة الكنسية بجملتها.
ونجد انفسنا أمام حفنة من الأسئلة والبحث عن اجابات، كيف ولماذا وما الحل؟
3.
ولا يمكن التعرض للحظة المعاشة دون أن نقترب بموضوعية من منظومة الرهبنة، ماهيتها وطبيعتها، وتطور علاقتها بالكنيسة، كيف تحولت من مبادرة "علمانية" لم يكن للكنيسة دور مباشر فى تأسيسها، وحرص مؤسسوها على أن يحتفظوا بمسافة بينهم وبين الكهنوت، منذ لحظة ولادتها، وعلى امتداد قرون، ولهذا نقرأ عن "قس الإسقيط"، على الرغم من الدور الذى لعبه مؤسسها الشاب المصرى انطونيوس عندما تفجرت أزمة اريوس التى سيطرت على الشارع المسيحى عامة والقبطى منه خاصة، حتى صارت خبز يوم المصريين، يتداولونه فى محافلهم وأسواقهم، ومنتدياتهم، وفيما ينهمك البابا اثناسيوس فى ادارة معركته فى مجمع نيقية، يترك الراهب المصرى انطونيوس صومعته وينزل الإسكندرية يشرح ويفسر ويدعم إيمان الكنيسة، ويحميه من الانحراف وينتصر للاهوت الابن الأزلى الأبدى، وعندما يعود البابا البطريرك يسعى للقديس انبا انطونيوس ويطلب اليه ان يبقى بجواره لكنه يرفض عائداً إلى قلايته، فيختار البابا اثنين من تلاميذ مؤسس الرهبنة لينضموا الى طاقم مساعديه، وتتسلل الرهبنة بنعومة للكنيسة، ثم تقفز الى صفوف القيادة، لتصبح المصدر الوحيد لكوادر القيادة، وفى لحظات التراجع تنفجر الإشكاليات وتجد الصراعات موقعاً فى المشهد الكنسى، وتزاد الأمور تعقيداً عندما يخفت صوت التسليم الآبائى وتختفى التلمذة. وتقفز الأسئلة الأثيرة مجدداً؛ كيف ولماذا وما الحل؟.
تجرى فى نهر الكنيسة والوطن مياه كثيرة، وتعيش الكنيسة بالقصور الذاتى، بقوة دفع الموروث الطقسى والتراث الآبائى وإن خفت، ويتوالى على مصر رهط من الحكام من خارجها، لتدخل فى نفق مظلم مع الحلقة الأخيرة من المحتلين مع الدولة العثمانية، وتشهد واقعاً ملتبساً وقتها؛ كان الحكم الرسمى آنذاك للعثمانيين الأتراك وكان الواقع فى يد المماليك بكل بطشهم ونهمهم وصراعاتهم البينية، وبينهما يقاوم الأقباط مخاطر الذوبان أو الإندثار، فيحتمون بالعمل الخاص والتفوق فى دوائر الإدارة والحسابات، والحرص على تعليم ابنائهم، كدأب الأقليات وسيكولوجيتهم، يدعمهم فى هذا منظومة قيمهم التى تقول بها المسيحية، فكان ان احتفظوا بموقعهم المجتمعى، بل وصاروا صمام أمان له فى مواجهة محاولات الحكام على تنوعهم لتفكيك الوطن.
وعلى الرغم من الدور الحيوى والمحورى للرهبنة إلا أنها صارت محملة بتساؤلات عن واقعها واتساقه مع نذورها وهدفها، واختلالات الطريق، واستقلاليتها، بل وتنوع مدارسها، وهل كبلتها توجهات القولبة.
وتعود الأسئلة لتقفز مجدداً كيف ولماذا وما الحل؟.
ومازال للوقفات بقية.