يفيض تراث علم النفس السياسي بالعديد من الدراسات عن ظاهرة الانتماء، وتؤكد تلك الدراسات حقيقة أن دفاع المرء عن انتمائه لجماعته لا يعد مؤشرا فحسب على صحته النفسية بل يعد كذلك مؤشرا على قوة تلك الجماعة و صحتها. وإذا كان ضعف الانتماء يهدد بتفكك الجماعة، فإن المبالغة في الانتماء أو ما يمكن أن نطلق عليه "الانتماء المرضي" لا يهدد بتفكك الجماعة فحسب بل يعد نذيرا لتحول تلك الجماعة إلى قنبلة انتحارية تدمر نفسها و من حولها أيضا.
أذكر أنه قد حدث منذ عدة سنوات أن أدين أستاذ جامعي له مكانته العلمية المرموقة بتهمة القتل بعد محاكمته محاكمة علنية، وسبق ذلك أن أدين أستاذ آخر بتهمة التزوير في نتائج الامتحانات، وكان بعضنا في الجامعة يتهامس "لماذا هذه الفضائح العلنية؟" "ألم يكن الأفضل معاقبة هؤلاء بعيدا عن الأضواء حتى لا يستغل ذلك للتشهير بجامعاتنا الوطنية؟" "لعلها محاولة خبيثة لهدم جامعاتنا الوطنية لحساب مؤسسات التعليم الأجنبي" "إن مؤسسة الجامعة هي العماد الأساسي للدولة فمنها يتخرج الضباط والمهندسون والأطباء و غيرهم فماذا يبقى إذا ما هدمت الجامعة؟" و مضى البعض متسائلا "ترى ألا يعتبر ما قدمه هؤلاء للوطن من علم لأبنائنا ظرفا مخففا؟" و أذكر أنني شعرت في البداية بشئ من الحرج و الضيق حين كنت ألمح في العيون نظرة ساخرة تقول "ها هم أساتذة جامعاتنا لا يتورعون عن القتل و التزوير و من يدري ربما ما خفي كان أعظم" و لكن كان موقفي باختصار إن انتمائي للمؤسسة الجامعية الوطنية لا يعني تضخيم دورها إلى حد تقزيم بقية المؤسسات، وأن فخري بجامعتي يزداد حين أراها تطرد خبثها، وأن قيام أستاذ جامعي بتأسيس مدرسة علمية شامخة لا يمكن أن يعتبر ظرفا مخففا بالنسبة لجريمته، فالطيبات في هذه الحالة لا يذهبن الجرائم.
استعدت مؤخرا تلك الذكرى و الدروس التي بنيت عليها موقفي آنذاك و التي استخلصتها من قوانين السلوك البشري و علم النفس السياسي، فنحن نشهد اليوم موقفا مشابها.
الجماعات الإرهابية تمارس في بلادنا أعنف أنواع التدمير و أبشع أنواع القتل و التعذيب و التشويه؛ و تتمتع بدعم مادي عالمي و إقليمي؛ و تتمتع فضلا عن ذلك بمظلة إعلامية تبرر جرائمها و تضفي غلالة من التقديس عى من يسقط من أفرادها سواء بحكم القضاء أو ساحات المواجهة المسلحة.
و من الطبيعي أن يكون رجال الشرطة و القوات المسلحة في مقدمة من يقدمون حياتهم في تلك المواجهات الدامية، و من الطبيعي أن يحتفي بهم الوطن و يقدم لذكراهم و لعائلاتهم كل التقدير و الإجلال.
و في ظل تلك الاشتباكات، و في ظل ترقب رجال الشرطة و القوات المسلحة للهجمات الإرهابية؛ يكون السعي محموما لسرعة التوصل خلال التحقيقات لمعلومات تساعد على إجهاض الجريمة الإرهابية قبل وقوعها. و ليس غريبا –و إن كان مستهجنا- أن يتورط بعض رجال الشرطة في ممارسة التعذيب؛ أو اللجوء إلى عنف غير مبرر في مواجهة المتظاهرين الخارجين على القانون.
و قد يزعم البعض أنه من تقاليد الشرطة أن تحاسب من يخطئ من أبنائها حسابا عسيرا و لكن بعيدا عن الأنظار حرصا علي حماية صورة المؤسسة، و أظن أن مثل هذا القول يتعارض كما أسلفنا مع الحقائق العلمية التي تربط بين إيجابية صورة الجماعة و قدرتها علي التخلص من أدرانها، و من ثم فإنه يحمل المؤسسة العسكرية و الشرطية أوزار بعض الخارجين علي تقاليدها، فضلا عن أنه يعطي لكل من يريد شرا بمصر أن يختزل ما يحدث في مصر من جرائم إرهابية في أنها مجرد رد فعل انتقامي لجرائم التعذيب؛ و من ثم يلو ضجيج اتهامات مصر بخرق القانون الدولي الإنساني ليغطي علي الممارسات الدموية الإرهابية التي نتعرض لها.
و قد كان السيد الرئيس دقيقا حين نبه إلي أنه ليس من المقبول تحمل أي مؤسسة نتائج تجاوزات بعض أفرادها مهما كانت دوافعهم. إن إعلان نتائج التحقيق في وقائع التعذيب و العنف المنسوبة لرجال الشرطة، لا يعني فحسب إقرار العدل و عقاب المخطئ، بل يعني أولا و ذلك هو الأهم تبرئة ساحة غالبية رجال الشرطة و على رأسهم من قدموا حياتهم فداءا للوطن، و من لم يمارسوا تعذيبا و لا تجاوزا بدلا من أن تظل وصمة الاتهام معلقة في رقبة الجميع مما يؤدي إلى تشويه صورة مصر و يضيف رصيدا إعلاميا لحملة مساندة الإرهاب.