الأربعاء 04 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

إذاعيون بطعم "طمي النيل"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رائحة الغبار المكوم على تلال الأوراق القديمة المتهالكة تكاد تزكم الأنوف، رغم أن مصدرها في الواقع هو تلك الأصوات المنبعثة من الشاشة.
نعم إنها تبدو كأشياء قديمة كومت منذ زمن علي أرففٍ طالها عطب الماء الراكد أسفل جدران الحجرة، لا تستغربوا تلك الأشياء هي الأصوات نفسها المنبعثة من الشاشة، وأصحابها يبدون بملابسهم الرسمية كالأفندية الموظفين في مصلحة الدمغة في مشهد فيلم قديم أنتج في زمن السينما الصامتة.
هل يكون كاتب هذه السطور ظالماً أو وقحاً بعض الشيء إذا اعترف أن ما سبق هو ما يشعر به عندما يضغط علي زر ريموت التليفزيون ليشاهد احدى القنوات الرسمية المنبعثة موجاتها من مبنى ماسبيرو؟!.
لا أظن أن كثيرين يشاركونني تخيل تلك الصورة، أو استنشاق ذلك الغبار والعطن، ربما لأنهم لا يفضلون أصلاً التعريج على شاشات التليفزيون المصري بقنواته المختلفة، فلا مادة اخبارية، أو فنية، أو أخرى للتسلية تستطيع أن تجدها، إلا إذا كانت إحداها تعرض مسلسلاً قديماً أو فقرة من برنامج قديم من باب استعادة ذكريات الأمجاد.
لا أنكر أنني واحد من هذه الملايين التي تربت على شاشات القنوات الأولى والثانية والثالثة، لكن لا ينبغي أن ننسى أمرين مهمين، أولهما أن مستوى البرامج خاصة برامج الأطفال كان فائقاً بالنسبة للمعروض الآن، لا لشيء إلا لأنها كانت تتناسب مع طبيعة تلك الفترة، الأمر الثاني أننا صرنا بصدد احتياجات إعلامية جديدة للجمهور، بدءاً من الحاجة لإشباع الطلب على المعلومات والأخبار الصحيحة والآنية، وصولاً للحاجة الماسة لإشباع الطلب على التحرير والتفسير من مختلف الأوجه.
145 مليون جنيه هي اجمالي رواتب نحو 43 ألف موظف باتحاد الإذاعة والتليفزيون أغلبهم من الإداريين والعمال، ينتجون في نهاية الأمر ذلك الذي أحسه قديماً وبالياً ويحمل صور ورائحة الغبار والعطن.
لا أريد الإسهاب فيما سبقني إليه غيري، لكن ما أريد قوله: إن التليفزيون المصري فقد الروح البشرية وأضحى معظم من يطلون من شاشته وكأنهم جماد، والواقع أيضاً أن العيب ليس في طبيعة ملكية ماسبيرو من جانب الدولة، وأن العاملين فيه موظفون حكوميون، فهناك تجربة حكومية أخرى أعتقد أن نجاحها لا يقل بأي حال عن ما حققته محطات تليفزيونية وإذاعية خاصة وعامة ذات تمويل ضخم سواء في مصر أو خارجها.
شبكة راديو النيل المملوكة لوكالة صوت القاهرة هي من اقصد، وهي تبث اذاعات راديو هيتس، نغم إف إم، ميجا إف إم، بالإضافة إلى راديو مصر المملوك لاتحاد الإذاعة والتيلفزيون.
كلها إذاعات حديثة النشأة، ومع ذلك استطاعت أن تصل إلى الجمهور المصري في زمن قياسي، بل إنها تفوقت علي المحطات الإذاعية الأربع القديمة (البرنامج العام، الشرق الأوسط، صوت العرب، والشباب والرياضة)، وإن كانت الأخيرة لا تزال تحتفظ بقطاع كبير من جمهورها بسبب اهتماماتها الرياضية، وتحاول الشرق الأوسط أن تجد مكان بالكاد للمنافسة مع الإذاعات الجديدة.
السبب يا سادة ببساطة لأن شباب الإعلاميين العاملين في تلك المحطات علاوة على حرفيتهم ومهنيتهم "عفاريت مصرية معجونة بطمي النيل" وتستطيع أن تتنفس رائحة صفحة نهرنا العظيم النقية، وأن تتلمس نعومة طميه في أصواتهم الإذاعية، وفي طبيعة الأفكار والموضوعات التي يناقشونها في برامجهم الخفيفة الممتدة علي مدار اليوم، ويكفي ان تستمع في الصباح إلى حسام عصام، ومي ممدوح على نغم إف إم، لتمضي بيومك متفائلاً ومسترجعاً لذكريات الطفولة التي تربطك بمعنى الوطن، واليك في الجوار ميجا اف ام حيث الاعلامي مارك مراد وخفة ظله الممتدة لساعات الصباح، لتشعر بالانتعاش، والمؤكد أنك ايضاً لا يمكنك أن تبدأ يومك بدون أن تستمع إلى أبلة فضيلة القرن الـ21 زهرة رامي على راديو هيتس، التي تقدم ساعة كاملة مع الأطفال ولهم من السابعة حتى الثامنة تتخللها الحواديت والحكايا ذات المغزى، التي تنتهي بتحية العلم، لتنطلق بعد ذلك في أفكار جادة وعميقة، لكنها تمر بها مع جمهورها العريض كفراشة تتقن رقص الباليه فوق أمواج البحر، عبر اختيارات بديعة لأغنيات كلها يخاطب الوجدان الإنساني ويستدعي إحساسنا بالوطن، وإذا أدرت المؤشر إلى يمين المبدعة "زهرة"، ستستمع إلى مادة إخبارية وتحليلية دسمة بخفة ظل مصرية مع محمود الفقي ونيرمين البمبي في إذاعة راديو مصر، كل هذه البرامج صباحية وهو الوقت الذي استطيع فيه الاستماع إلي الراديو، لكن ما خفى في فترة الظهيرة والمساء لا يقل جمالاً وابداعاً.
عشرة من هؤلاء فقط قد يكفون احياء جثة إعلام ماسبيرو الهامدة، وتطوير إعلام الدولة لايبدو أمرا مستحيلا، لكنه من المؤكد صعب ويحتاج لمسئول يمتلك قلب أسد جسور، وعقل ذئب حكيم.
هل يتذكر أحدكم أن منصب وزير الإعلام قد ألغي، لا أظن، وهذا يعني أن عدم وجود وزير وإحالة مهام منصبه إلى رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون لم يحل المشكلة، وسيظل الأمر كذلك حتى في وجود مجلس وطني للإعلام، مالم تكن هناك خطوات جريئة، أتصور أن أحدها هو اتخاذ إجراءات من شأنها خروج كل من جاوز سن الـ45 عاما إلي المعاش المبكر، وتكلفة تلك المعاشات ستوفر علي الدولة مليارات خلال السنوات المقبلة، وأن تتم الاستعانة بذات اللجنة التي قامت باختيار الإذاعيين والإعلاميين والمخرجين والمعديين والفنيين في شبكة راديو النيل وراديو مصر، لتقيم وتوجه عمل الإعلاميين الباقين في ماسبيرو.
لابد من الاستعانة بهذه الخبرة الحكومية الناجحة بدلاً من طرح بدائل من قبيل الخصخصة أو مشاركة القطاع الخاص في أسهم بعض القنوات، فلا توجد دولة تستغني عن ما يسمى بإعلام الدولة، ولنا في الـ بي بي سي المثل الأعلى مهما قيل عن حيادها، واستقلال ملكيتها، فهي من حيث الجوهر والمضمون هيئة إذاعة الدولة البريطانية.