تسارع الأحداث عندنا وحولنا يدعونا للخروج من حالة "الثرثرة" التى تغشى فضاء التواصل الاجتماعى، باعتبارها الملعب الذى يعج بالشباب، وقد يأتى وقت بعد أن يهدأ الغليان "الثورى" ليتولى علماء الاجتماع تحليله ورسم صورة مجتمعه، الذى تشكله حروف وجمل الحوار المتقطع والذى ينتهى فى أغلبه إلى تلاسن تتطاير فيه الإتهامات التقليدية، وتزداد الفجوة الجيلية، وكأننا إزاء جسد ضربته جملة من الفيروسات الذهنية، ولم يعد لأجسامه المضادة قدرة على بناء حائط صد يحول دون سقوطه صريعاً وسريعاً.
وهى مرحلة نجنى فيها ما زرعته أنظمة غاربة على امتداد عقود طويلة، عبر تعليم فاسد ـ بالمعنى الأكاديمى ـ وإعلام فقد بوصلته، بفعل اليات السوق واحتراب السياسة، وثقافة تجرف ما بقى من قيم صحيحة، ولولا يقظة مباغتة ترجمتها جموع الناس غير المسيسة فى حراكها الذى انفجر فى 30 يونيو، تأسست عليها دولة 3 يوليو، التى لولاها لكنا الطبعة المصرية لما حدث بالعراق وسوريا واليمن وربما ليبيا.
ربما نحتاج الى شجاعة الإعتراف بأننا أمام امتحان مصيرى، لإعادة بناء وطن اثخنته تجارب فاشلة لأنظمة توالت على ادارته، وابتلعت فى بعضها طعم الصراعات الايديولوجية، وفى بعضها راودتها أحلام مفارقة لقدراتها امتدت خارج حدودها، امتلكت قدرة الحشد ولم تمتلك توظيف قدرات بنيها، ودخلت فى مغامرات دفعت ثمنها من اقتصادها وسلامها وتنميتها، وتضاعفت التكلفة حين حاولت استرداد ما فقدته، ثم غرقت فى لجج فساد اطاح بما بقى لها من قدرة على البناء.
وسيظل ما حدث فى 25 يناير موضع قراءة متأنية، من أين وإلى أين، وأين موقع النقاء الثورى، الذى كان عنوان الشباب، وأين موقع المؤامرة واطرافها التى التفت على ثوريتهم، وسارعت بجنى ثمارها، واختطفتها لتدخل مجدداً فى نفق الارتداد الى ما قبل الدولة، فى تسارع كان خطأهم الاستراتيجى الذى استنفر قرون الاستشعار لدى الشارع الذى انتفض ليخوض معركة "وجود" ويخطو باتجاه تصحيح المسار، ومازال يصارع قوى الشر التى هالها هذا التحرك، فذهبوا ليغرروا بالشباب، ويحاولوا تشكيل جبهة يتسللون منها الى مرماهم "تقويض الثورة".
ويأتى استهداف المصريين البسطاء العاملين بليبيا ليؤكد شراسة المعركة، وفيها يعيدون انتاج اساليبهم القديمة، فى محاولة لتفكيك الاندماج الوطنى، بتصدير الحدث الجريمة فى تصوير طائفى، تجاوزته الخبرة والإدارك الشعبى المصرى، التى حولته الى قيمة مضافة لمسار التغيير وتدعم به الوحدة الوطنية، تأتى المعالجة الحاسمة والمباغتة لتعيد للدولة هيبتها وللقوات المسلحة المصرية كرامتها، وتربك حسابات القوى العظمى التى وقع عنها القناع، لنكتشف خلفه وجهاً قبيحاً يدعم الارهاب ويرفض فى سفور مواجهته عسكرياً.
كان السيناريو المصرى فى جانب منه كاشفاً لتحول مصر من الفرد إلى المؤسسة، فلم يكن القرار فردياً، ولم يكن عشوائياً انفعالياً، فقد اجتمع مجلس الدفاع الوطنى بكامل هيئته ليعكف على تقدير الموقف تأسيساً على المعلومات، واتخاذ القرار الجماعى، ويتم التنسيق مع السلطة الشرعية فى ليبيا، ويخرج الرئيس الى الشعب ليؤكد حق مصر فى الرد بما يحفظ كرامتها فى الوقت المناسب، وخلال ساعات يأتى الرد، الذى اعاد للأذهان قرار العبور العظيم اكتوبر 73، ومازالت المواجهة قائمة.
والإنتقال من الفرد إلى المؤسسة هو ما نحتاجه اليوم وغداً فى كل مؤسساتنا، الحكومية والشعبية والحزبية، وفى اركان الدولة الثلاثة، وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، بإعادة هيكلة دوائرها القانونية وتثوير اداءاتها لتتفق مع معطيات ثورة الاتصالات والمعلومات، بما يدعم الحراك التنموى والخروج من النفق الذى طال بزيادة.
ويتطلب التأكيد على علمانية الدولة كما تفرزها ثقافتنا المصرية التى تحتفظ للدين بموقعه المتقدم فى اركان تشكيل الوجدان المصرية والعقل الجمعى، دون ان تلوثه الصراعات السياسية ودون ان يتحول الى حصان طرواده عند الجماعات الراديكالية اليمينية المتطرفة، ويستوجب هذا قراراً سيادياً بتفعيل المادة 74 من الدستور التى تقرر للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية، بإخطار ينظمه القانون. ولا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى، أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو على أساس طائفى أو جغرافى، أو ممارسة نشاط معاد لمبادئ الديمقراطية، أو سرى، أو ذى طابع عسكرى أو شبه عسكرى، فى غير التفات إلى التفاف "ترزية التأويل" التى تستميت فى اضفاء الشرعية على الأحزاب الدينية القائمة والتى تنكر عبر وثائقها كونها دينية بينما تصرخ مواقف قادتها وكوادرها التى تحتفظ بها شرائط الفيديو بالفعل الطائفى والتسيس الدينى الذى ينتهى الى التفرقة والتحقير والإقصاء على اساس دينى.
وعلى الجانب المقابل من النهر على الشباب الإنتقال الى مرحلة النضج الثورى فى شجاعة وقوة، فالثورة لحظة لابد ان تتحول الى فعل مؤسسى يترجم اهدافها على الأرض، وهذا يقتضى تطوير انساق الإئتلافات الى احزاب مكتملة تفرض رؤيتهم على المشهد السياسى بعيدا عن انماط الاحتجاجات والمظاهرات، التى تنتهى الى مزيد من المواجهات السلبية غير المثمرة، بدون كيانات سياسية حزبية لا يمكن ان نجنى مشاركة حقيقية فاعلة، خاصة وأن الاحزاب بنص الدستور تتم بالإخطار.
وبين الدولة والشباب تأتى المسئولية الوطنية، التى تفرض عليهما المبادرة ببالإقتراب الفعلى بعيداً عن الهواجس التى تشكل جداراً بينهما، انه وقت الشباب الذى يملك المستقبل، فى اطار احترام التواصل الجيلى وحاجته لخبرات من سبقوه، دون تخوين او تشكيك او استعلاء، نحن بحاجة الى تدوير الزوايا فى مشهد التكامل الوطنى حتى لا تصيبنا اركانها المدببة، وحتى نستطيع مواصلة التلاقى على ارضية الوطن.