في الوقت الذي كان فيه المواطن عبدالفتاح السيسى يجرى عددًا من المقابلات مع فئات المجتمع المختلفة في إطار حملته الانتخابية، وقعت أحداث الهلايل والدابودية، أسرع حمدين صباحى المرشح المنافس لتقديم العزاء فيمن سقطوا، وإدانة ما جرى على أنه خرق للقانون، ولم يظهر السيسى على صفحة الحادث من قريب أو بعيد.
وقتها كنت أتحدث مع أحد مسئولى حملة المشير السيسى، لفت انتباهه إلى أن المرشح الرئاسى كان لا بد أن يظهر وبشكل عابر، صحيح أن المعركة الانتخابية تكاد تكون محسومة، وما يجرى على الأرض يمكن أن يكون تحصيل حاصل، إلا أنه لا بد أن يشعر المواطنون بأنه يشعر بما يجرى، وأن لقاءاته الكثيرة والمكثفة لا يمكن أن تفصله عن حياة الناس العادية، وهى الحياة التي ستكون شغله الشاغل عندما يصبح رسميًا رئيسًا للجمهورية.
أكد المسئول في حملة المشير السيسى أن الأمر مر عليهم، لكنه سأل: وكيف نفعلها، وفى أي سياق؟ قلت له يمكن أن تخلقوا المناسبة، المهم ألا تبعدوا عن الشارع.
منذ هذه اللحظة وأنا على يقين كامل أن هناك فرق سرعات كبير بين السيسى والذين يعملون معه، هو شخص طموح جدا، لا يعرف شيئا اسمه عقبات أو أزمات، كل شىء لا بد أن يتم حله وكل مشروع لا بد من إنجازه... الأفكار أفكاره وحده، والقرار قراره وحده... وهنا تأتى المشكلة الكبرى، فالذين يعملون إلى جانب الرئيس ليسوا بالقدرة ولا الكفاءة التي تجعلنا نطمئن إلى أنهم يمكن أن يساهموا في إتمام مشروعه، بل العكس تماما يمكن أن يكونوا عقبة في طريقه... وطريقنا أيضا.
■ ■ ■
منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها محمد مرسي قصر الاتحادية كان الموقف منه محددًا وبدقة.
فهناك من هرول في اتجاهه، وهؤلاء لا يمكن أن يلومهم أحد على فعلتهم، فهم عبيد السلطة في كل وقت، لا يسألون عن هويتها ولكن يبحثون عن المصلحة من ورائها... وكان طبيعيا أن يظهر مصطلح المتأخونين، هؤلاء الذين لم يكونوا يوما من الأيام إخوانا، لم ينضموا للجماعة أبدا، لم يؤمنوا بمبادئها، لم يقسموا ولاء الطاعة للمرشد، أصبحوا في لحظة واحدة إخوانا، بل أكثر حرصا على إظهار إخوانيتهم أكثر من الجماعة... أطلق البعض منهم لحاهم، رغم أن الإخوان لا يحرصون على تربية ذقونهم.
وعندما انهار حكم الجماعة، لم يجد هؤلاء أدنى مشكلة في أن يعودوا إلى قواعدهم سالمين، وهؤلاء لا يمكن أن نلتفت لهم، فهذا شأنهم لن يغيروه أبدا.
وهناك من وقف على الحياد، رافضا لحكم الجماعة، لكنه في النهاية وبعد أن أدرك أن البلد متجه إلى الضياع على يد الجماعة، اختار الصمت في انتظار ما سيجىء، اعتبروا أنه لا ناقة لهم ولا جمل فيما جرى وما سيجرى، ولذا اختاروا ألا يدخلوا أي معركة من أي نوع، فالمعارك بالنسبة لهم خاسرة، لكنهم عندما أصبحوا على يقين أن الوطن يضيع، وأن التهديدات لم تكن «فشنك إعلامي»، نزلوا بالكنبة إلى الشارع، ليقولوا إن الصامتين لن يرضوا بضياع الوطن.
بين هؤلاء وهؤلاء كان هناك من اختار أن يدخل في مواجهة مع الجماعة التي قررت أن تسطو على الوطن، هؤلاء لا يمكن أن تخطأهم العين، قليلون منهم كانوا يعرفون أن حكم الإخوان حتما إلى زوال، ولذلك دخلوا المعركة وهم على ثقة أنهم سيفوزون في النهاية، أما الكثيرون فقد دخلوا المعركة على ذمة الوطن فقط، لم يبحثوا عن غنائم، وقفوا وصدورهم عارية، وكان يكفيهم أنهم يقومون بدور ولو بسيط من أجل إنقاذ الوطن، حتى لو لم يتحقق هذا الإنقاذ على أيديهم هم، وحتى لو كانت نتائجه لصالح أجيال قادمة وليس هم.
يمكن أن تترك هؤلاء جميعا وتسأل أين كانت أجهزة الدولة؟
الإجابة الطبيعية التي رددها الجميع أن أجهزة الدولة، ومن بينها الأجهزة الأمنية بالمناسبة، ترى في الرئيس، حتى لو كان إخوانيا، رئيسا شرعيا للبلاد، وأن واجبها أن تسمع له وتطيع، وأن تتعاون تماما، فهو في النهاية الرئيس.
لكن الإجابة التي تبغى وجه الحقيقة ليست هكذا على الإطلاق... فأجهزة الدولة عاملت محمد مرسي تعاملا مختلفا، مرحلته الأولى كانت الحذر... وهى مرحلة لم تطل، فقد بدأت مرحلة الترقب، عندما أدرك العاملون في الأجهزة الأمنية على وجه التحديد أن هناك خطة كاملة لأخونة مؤسسات الدولة، ولن تسلم أي مؤسسة مهما كان شأنها من هذه الخطة، وكان غريبا من جماعة الإخوان أن تبدأ خطتها بصدام واضح مع أجهزة المخابرات العامة والحربية، وتبدأ اللعب المباشر في جهاز الأمن الوطنى، فقد عجل هذا بالمرحلة الثالثة، وهى المواجهة الواضحة والمباشرة، والتي كان من الطبيعى أن تكون نتيجتها مساندة هذه الأجهزة ودعمها لما جرى في 30 يونيو.
■ ■ ■
عندما انتهى محمد مرسي من إلقاء كلمته في الصالة المغطاة باستاد القاهرة في 16 يونيو 2013، وهى الكلمة التي أعلن فيها قطع العلاقات رسميا مع سوريا، بل وعد بإرسال قوات لمساندة الشعب السورى... أدركت الأجهزة السيادية أن مرسي يعمل وحده، فهو لم يرجع إليهم ولم يتشاور فيما هو مقدم عليه.
كانت الرسالة التي أرادها مرسي في الحقيقة بعيدة عن سوريا وحرب بشار ضد شعبه، كان يريد أن يقول للجميع إنه محمى بأهله وعشيرته، هؤلاء الذين كانوا يهتفون له، ويتوعدون ثوار 30 يونيو، بل إن واحدا من شيوخه المستأجرين وقف يدعو على كل من يعارض مرسي، ولم يكن من مرسي إلا طلب من الله الإجابة مؤمنًا على الدعاء.
يومها قال لى أحدهم: المعركة أصبحت على الأرض، هناك صراع الآن بين الأجهزة الأمنية وجماعة الإخوان المسلمين، ومن سينتصر على الآخر سوف يحفر له في الأرض سبعين ميلا ليدفنه بالحياة، فمصر لم تعد تتحمل أبدا أن يعيش عليها الإخوان والشعب، فقد أصبحت الجماعة ضد الجميع، وتعتقد أنها بميليشياتها يمكن أن تنتصر وتجعل الجميع يخضع.
■ ■ ■
كانت النصرة من نصيب الشعب... قرر وخرج ليعبر عن إرادته، ولم يكن الجيش بعيدا عما يجرى من البداية، في اللحظة الحاسمة منح الشعب المساندة والتأييد.
صعد السيسى إلى عرش مصر، وقفت كل أجهزة الدولة إلى جواره، كان بالنسبة للجميع، شعبا وأجهزة، منقذا، لم يتقدم بقدميه مرشحا للرئاسة، كان يريد أن يكون مطلوبا لا طالبا، مرغوبا لا راغبا، قال هو ذلك بنفسه أكثر من مرة، فهو مكلف من الشعب ولم يكن طالب سلطة.
حالة التأييد التي حظى بها السيسى في النهاية تشير إلى أن أجهزة الدولة جميعها تعمل في صف الرئيس، لا يمكن أن تخرج عليه مطلقا، هي جزء من مشروعه السياسي، وعليه فلن يكون هناك أي صدام من أي نوع بينهما.
لكن هل هذا ما يحدث بالفعل على الأرض؟
المؤشرات الكثيرة التي تأتينا من كواليس ما يجرى تؤكد أن أجهزة الدولة لا تعمل بالفعل لصالح الرئيس، قد يكون ما يجرى من باب عدم الكفاءة، وقد يكون من باب الجهل بضرورات المرحلة، لكن النتيجة في النهاية أن الجميع في مأزق.
التفاصيل مزعجة وأعتقد أن الوقت ليس مناسبا الآن للخوض فيها.
أعرف أن السيسى لا يواجه الدولة العميقة، لكنه في الأساس يواجه الدولة الغبية، التي لا تدرك أبعاد المعركة التي تخوضها مصر الآن.
تشعر أحيانا أن السيسى يعمل وحده، يحلم وحده، يريد أن ينجز وحده.. ولا أحد يعمل معه وهذه هي المشكلة الكبرى التي يواجهها.
قد يكون من المنطقى أن كل أجهزة الدولة تعرف أن فشل السيسى فشل لها، بل لنكن أكثر دقة ونقول إن فشل السيسى نهاية لها تماما، فإذا ما استرد الإخوان الحكم، أو سيطرت الفوضى على المشهد السياسي، فسوف تدفع هذه الأجهزة الثمن.
قد تشير إلى ممارسات الشرطة، وإصرارها على توريط النظام كله وليس السيسى في مواجهات مع فئات المجتمع المختلفة، قد تشير إلى عدد من الوزراء الذين يعتقدون أنهم مهمون، هؤلاء الذين يزينون للرئيس أنهم يعملون وينجزون، وعندما يصبحون على المحك لا تجد لهم أي إنجاز يذكر، وقد تشير إلى حالة من عدم الحماس في قطاعات الدولة المختلفة، وكأنه مطلوب من الرئيس أن ينجز كل شىء بمفرده، وهو ما لن يحدث أبدا.
من بين ما حاول عبدالفتاح السيسى التأكيد عليه أنه لا يحكم بالوكالة عن المصريين.. هو يحكم بالمشاركة معهم.. لكن يبدو أن هذه الرسالة لا يريد أحد أن يصدقها أو يقتنع بها، وهذه تحديدا هي الأزمة، أو لنقل المصيدة التي يمكن أن يجد السيسى فيها نفسه.. وساعتها لن يقف أحد إلى جواره، فالجميع سينجو بنفسه.. وهذا ما يجب أن يعرفه الرئيس جيدا.