بعد ثورة 25 يناير، امتلأ الفضاء بعشرات القنوات الفضائية المصرية، لا نعلم عن تأسيسها ومؤسسيها ومصادر تمويلها أو أهدافها شيئًا.. وتزامن خروج تلك القنوات إلى النور وتلك التساؤلات وعلامات الاستفهام، مع التصريحات التي أثارت الدهشة للسفيرة الأمريكية السابقة في مصر(آن باترسون)، قائلةً أمام الكونجرس: إن بلادها ضخت 40 مليون دولار دعمًا لمنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في مصر منذ ثورة يناير. ومن أكثر الفضائيات التي ظهرت بعد الثورة شهرة وغموضًا في مصادر تمويلها قناة "التحرير"، وأبرز مقدميها إبراهيم عيسى، ومحمود سعد، وبلال فضل، وعمرو الليثي، وبعض الأخبار غير المؤكدة بالطبع بسبب حالة الغموض المحيطة بها تردد وصول أجور هؤلاء إلى ملايين الجنيهات، أما القناة صاحبة الحجم الضخم من الإعلانات التي ملأت الشوارع لفترات طويلة "النهار" تقول بعض التقديرات إن حملة الدعاية التي سبقت بث القناة تجاوزت 40 مليون جنيه؛ ما يشير إلى أضعاف ذلك المبلغ لتشغيل القناة.. وهناك كذلك محمد أمين رجب المشار إليه بمالك قناة "cbc" لا يعرف عنه سوى أنه مهندس إنشاءات، عمل طوال عمره خارج البلاد، وأكد أنه الممول الوحيد للقناة بمشاركة أحد أقاربه.
والمعروف أن القنوات الفضائية تحتاج مبالغ طائلة وميزانيات ضخمة لما تتطلبه من تقنيات عالية، وإنتاج برامج لتعينها على الانطلاق والاستمرار، كما يؤكد الخبراء أن كل القنوات الفضائية المصرية تخسر باستمرار ولا تحقق أي أرباح تؤهلها لتكون مشاريع اقتصادية ناجحة، إن مصادر تمويل القنوت الفضائية التي انطلقت بعد ثورة يناير في مصر غير معروفة وغير مفهومة مطلقًا، فمعظمها لا يمتلك حصصًا إعلانية مسبقة مثلاً لتكون أحد مصادر تمويله، كما أنه من المستبعد أن يكون من أهدافها أهداف خيرية لمصلحة الوطن، إن القنوات الفضائية تحتاج إلى تمويل ضخم، وجميعها خرجت بعد ثورة يناير في شكل غامض انعدمت فيه الشفافية وليس معروفًا مَن يقف خلفها، ومَن يدعم استمرارها، ومع أننا نعلم ما يوفره رجال الأعمال كافةً من ميزانيات للجوانب الإعلامية إلا أن إطلاق قناة خاصة يحتاج إلى ميزانيات ضخمة، ولن يتم استخدامها دون الرغبة في الوصول إلى أهداف مهمة.
ورغم الركود الذي يضرب سوق الإعلانات في مصر، فقد تأسست 25 قناة فضائية خاصة على الأقل بعد ثورة 25 يناير، وبالتزامن مع هذه الحالة تظهر بين وقت وآخر أقاويل عن أرقام فلكية لرواتب يحصل عليها مقدمو برامج ومذيعون.. وعندما تولت جماعة الإخوان المسلمين الحكم بمساعدة التيار السلفي منذ صيف العام 2012، وكل منهما له طريقته المحافظة و"الغامضة" أحيانًا في التعاطي مع الأمور السياسية، بداية من مزاعم عن إقامة الخلافة وتحريم الفن، واستنكار طريقة عمل القنوات الفضائية التي تقف ضد توجهات المتشددين الإسلاميين، وكلما زادت حدة الانتقادات لحكام مصر الجدد آنذاك، في القنوات الفضائية الخاصة، مثل قنوات الـ"سي بي سي"، و"النهار" و"أون تي في"، و"القاهرة والناس" وغيرها، خرجت أصوات المشرعين الإسلاميين في البرلمان الذي تم حله فيما بعد بالسؤال عن "رواتب مقدمي البرامج" التي يتسم غالبيتها بنوع برامج الطرف الواحد، أي التي يتولى فيها المذيع "التنظير" وطرح أفكاره الخاصة في السياسة والاقتصاد والأمن والعلاقات الخارجية والطريقة المثلى لحكم الدولة.. وأطلق الإسلاميون على هذا النوع من القنوات "قنوات الليبراليين" و"العلمانيين" و"قنوات الفلول" (أي التي يملكها رجال أعمال من الموالين للنظام السابق).
والحقيقة التي يتحدث عنها عدد من خبراء الإعلام المصري وبعض المذيعين تتلخص في أن كثيرًا من القنوات الفضائية تنفق أموالًا ضخمة من دون عائد حقيقي، وهو أمر فتح الباب للشكوك والتكهنات عما إذا كان المال السياسي قد دخل لعبة الإعلام للتأثير على الرأي العام في بلد فقير ما زال يتلمس طريقه بعد ثورة صاخبة.
وفي أبريل 2013، كشف وزير الإعلام الإخواني السابق صلاح عبد المقصود أن القنوات الفضائية المصرية تنفق أكثر من 6 مليارات جنيه (أقل قليلاً من مليار دولار)، بينما إيراداتها لا تتجاوز 1.5 مليار جنيه، وتساءل الوزير: مَن الذي ينفق وما الغرض من هذا الإنفاق؟ وأجاب الوزير قائلًا: إن "المال السياسي" يلعب دورًا في تمويل الإعلام الخاص وسد الفجوة بين الإنفاق الكبير والإيرادات القليلة.
ويقول الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز، عن قضية الإنفاق الضخم في القنوات الفضائية المصرية الخاصة أمام شح الإعلانات: "نستطيع أن نؤكد أن عوائد الإعلانات تراجعت بعد ثورة 25 يناير"، ويضيف أن هذا التراجع يقل عن 40 في المائة في عائدات الإعلانات مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الثورة، ويستند عبد العزيز في هذه الأرقام إلى عدد من شركات الإعلانات التي يملكها كبار المعلنين في مصر، ومن بيوت إعلان كبيرة، مثل وكالة الأهرام للإعلان، وشركة "طارق نور" و"إبسوس" و"بارك" وغيرها، وبالتالي "لدينا ما يفيد بأن عوائد الإعلانات في القطاع المسموع والمرئي تراجعت في أعقاب ثورة 25 يناير".
ووفقًا لهذه الأرقام، فإن القنوات الفضائية الخاصة لا بد أنها تحقق خسائر، إلا إذا كان لديها مصدر لا ينضب من الأموال، إن معظم الإفادات عن حجم الإعلانات تتجه إلى أن إجمالي العوائد الإعلانية تراجعت في عام 2011 وحده بنسب تتراوح بين 60 إلى 90%، وأن الأمور حين تحسنت في عام 2012 لم ترجع إلى المستويات التي عرفتها في العامين الأخيرين قبل الإطاحة بمبارك في مطلع العام 2011، وبالتالي يمكن توقع أن حجم التدفقات الإعلانية تراجع على مدى العامين الأخيرين بنسب لا تقل عن 40 في المائة.
وعلى الرغم من هذا التراجع في الإعلانات، التي تعتبر المصدر المالي الرئيس لأي وسيلة إعلامية تريد الاستمرار، فإن الغريب هو أن حجم الاستثمار في قطاع البث المرئي والمسموع ازداد زيادة قياسية، وأسهم في ذلك تراجع التحكم الأمني الذي كان متبعًا في عهد مبارك بشأن إطلاق الفضائيات، وتراخي قبضة الإشراف الإداري على القنوات الخاصة.. ويتحدث ملاك قنوات فضائية عن إصابة عوائد الإعلانات بانتكاسة بالفعل. بل وصل الأمر بين بعض هؤلاء الملاك، ومن بينهم سياسيون، إلى درجة التلاسن على الملأ والتهديد بفضح ما يدور في الكواليس، أضف إلى ذلك تفجر كثير من الخلافات ذات الطعم السياسي بين أصحاب قنوات، وآخرين من أصحاب الشركات المعلنة، من بينها القول إن توقف الشركة الفلانية عن سداد ما عليها من أموال للقناة العلانية، سببه موقف تلك القناة من السلطة، سواء بالمعارضة أو بالتأييد.. ومع ذلك، وفي هذه الحالة الإعلامية المرتبكة، تجد قنوات جديدة تتأسس وتبث وكأنها غير معنية بحالة السوق.
وعكف المسئولون عن بعض القنوات الفضائية على اتخاذ إجراءات جديدة لدراسة خسائر قنواتهم ليتبع ذلك تخفيض رواتب مذيعى البرامج حسب التراجع فى شعبية الكثير منهم، وتكلف رواتب مقدمى البرامج الذين يتمتعون بشعبية كبيرة ما يزيد على المائة مليون جنيه سنويًا، حسبما صرحت بعض المصادر بقناة دريم وقناة أوربت وسى بى سى والمحور وقناة إم بى سى مصرية، وحسب هذه المصادر فقد وصل أجر الإعلامى عمرو أديب إلى 120 ألف دولار شهريًا يضاف إليها نسبة من حصيلة الإعلانات والاشتراكات، وبالنسبة لراتب مقدم البرامج المعروف محمود سعد فقد وصل إلى ستة ملايين جنيه سنويًا من عمله فى قناة النهار، وقد كان أجره من التليفزيون المصرى يزيد على العشرة ملايين جنيه، بالإضافة إلى نصيبه من حصيلة الإعلانات، ولميس الحديدى يزيد راتبها على ستة ملايين جنيه زائد حصتها من الإعلانات.
ويطالب بعض خبراء الإعلام بإنشاء جهاز لمعرفة مصادر تمويل الوسائل الإعلامية سواء كانت صحفًا أو قنوات فضائية أو محطات إذاعية أو مواقع إلكترونية بكلِّ وضوح، بجانب إصدار تشريعات تحمي المشاهد، بفصل الملكية المادية عن السياسة التحريرية لوسائل الإعلام، لكي لا يتحكم المالك بالمضمون كما يشاء، من خلال نقابات مهنية قوية للتحكم في مثل تلك المشكلات.
ويشترط البعض إعلان كل وسيلة إعلامية عن مصادر تمويلها بوضوح كامل، وإذا ثبت تلقيها أموالًا من جهات أجنبية، فإنه لا يوجد سبيل بعد التأكد من مصادر التمويل الأجنبية سوى إغلاق تلك الوسيلة بشكلٍ نهائي؛ لأننا لا نحتاج إلى وسائل إعلام لا تهدف سوى لإثارة الفتن، وإعاقة الوصول إلى الحكم الديمقراطي في مصر.
ويؤكد البعض أن ضبط ومنع التمويل الأجنبي من التدخل في الإعلام المصري يحتاج إلى عدد من الخطوات، منها: الاتفاق على ميثاق أخلاقي بين القائمين على تلك الوسائل بإعلان مصادر تمويلها؛ لأن مصر تحتاج إلى مئات القنوات الفضائية الوطنية، كما يتطلب من إدارة "النايل سات" عدم التصريح ببث أي قناة قبل التأكد من خلو مصدر تمويلها من أي شبهات خارجية وأجنبية.
ويطالب البعض بوضع سياسات حاكمة من قبل الحكومة المصرية تمكن الجميع من الاطمئنان على سلامة تمويل المنابر الإعلامية باعتبارها أحد أهم ما يتعرض له الرأي العام في أي دولة؛ حتى نستطيع أن نتجنب الأموال المشبوهة، التي تمثل أجندات خارجية لتحطيم الرؤية المصرية، والعودة بها إلى الوراء في عصر التبعية السياسية.
إن الإعلام المصرى بشقيه الحكومى والخاص يأتى فى الواجهة بين مشاهد الأزمة التى تعيشها مصر منذ سقوط نظام الإخوان، فرغم المطالب المتزايدة بإعادة هيكلة الإعلام المسموع والمرئى المملوك للدولة، فإن تكريس الوضع السابق لا يزال قائمًا، بل إن عودة منصب وزير الإعلام فى ذاته، ثم إلغائه، ثم التفكير في إحيائه يؤكد أن عقلية التعامل مع الإعلام الحكومى كما هى، وهى إبقاء الإعلام الذى يمتلكه الشعب فى حظيرة النظام، أيًا كان هذا النظام.
أزمة إعلام الدولة تلك تتواضع فى تأثيراتها السلبية كثيرًا أمام حالة الانفلات والعشوائية المخططة من قبل الإعلام الفضائى الخاص، الذى يعتقد الكثيرون ومن خلال مجمل مواقفه أنه يسعى بجدية لمحاصرة ثورة 25 يناير وتفريغها تدريجيًا من مضمونها.
إن هذا الوضع يدفعنا للبحث عن مخرج لحالة الإعلام المصرى الحالية، إذا كنا راغبين حقًا فى إنجاز منظومة إعلامية حقيقية تخدم بحق مصالح الوطن وطموحات ثورته ومستقبل أبنائه، وذلك عبر تبنى الخيارات التالية:
• قيام الأجهزة الرقابية المختلفة بالبحث والتحرى فى حجم الأموال التى يتم استثمارها فى الفضائيات ومعرفة مصادرها وملاكها وأهدافهم الحقيقية منها.
• مواجهة الاحتكار الإعلامى فى مصر وتشجيع قيام أشكال تعاونية تضم العاملين فى وسائل الإعلام وتمكنهم عبر سلسلة من التسهيلات من تملك القنوات التليفزيونية التى يعملون بها أو تملك نسب كبيرة منها.
• إصدار قوانين تضمن فصل الإدارة عن رأس المال فى القنوات الفضائية.
• إنجاز مشروع نقابة مستقلة للإعلاميين فى الإذاعة والتليفزيون الحكومى والفضائيات الخاصة بما يكفل الحفاظ والحماية لحقوق الإعلاميين.
• تشكيل إدارة أو جهاز لتنظيم البث الإعلامى المرئى والمسموع.
• إصدار ميثاق شرف ينظم أداء الإعلام المصرى، ويضع ضوابط مهنية وأخلاقية، وجزاءات رادعة تطبق بحزم وبمساواة على كل المخالفين على أن يتم إنجاز هذا الميثاق بعد حوار مجتمعى لممثلين عن الشعب المعنى أساسًا بالرسالة الإعلامية وخبراء وأكاديميين وقادة نقابة الإعلاميين المزمع إنشاؤها بالإضافة إلى آراء وتصورات القنوات الفضائية واتحاد الإذاعة والتليفزيون ومنظمات المجتمع المدنى والأحزاب.
• اتخاذ جميع التدابير الخاصة بكسر احتكار عدد محدود من شركات الإعلان لحصيلة الإعلانات فى الفضائيات المختلفة.
• أهمية إصلاح حال اتحاد الإذاعة والتليفزيون وإعادة هيكلته ليكون بحق جهازًا مملوكًا للشعب بجميع طوائفه ويعبر عن جميع توجهاته دون تمييز.
• تشجيع إنشاء مراصد إعلامية هدفها مراقبة أداء وسائل الاعلام، ونشر مخالفاتها، والحفاظ على حق المواطن فى تلقى خدمات إعلامية متنوعة.
والمعروف أن القنوات الفضائية تحتاج مبالغ طائلة وميزانيات ضخمة لما تتطلبه من تقنيات عالية، وإنتاج برامج لتعينها على الانطلاق والاستمرار، كما يؤكد الخبراء أن كل القنوات الفضائية المصرية تخسر باستمرار ولا تحقق أي أرباح تؤهلها لتكون مشاريع اقتصادية ناجحة، إن مصادر تمويل القنوت الفضائية التي انطلقت بعد ثورة يناير في مصر غير معروفة وغير مفهومة مطلقًا، فمعظمها لا يمتلك حصصًا إعلانية مسبقة مثلاً لتكون أحد مصادر تمويله، كما أنه من المستبعد أن يكون من أهدافها أهداف خيرية لمصلحة الوطن، إن القنوات الفضائية تحتاج إلى تمويل ضخم، وجميعها خرجت بعد ثورة يناير في شكل غامض انعدمت فيه الشفافية وليس معروفًا مَن يقف خلفها، ومَن يدعم استمرارها، ومع أننا نعلم ما يوفره رجال الأعمال كافةً من ميزانيات للجوانب الإعلامية إلا أن إطلاق قناة خاصة يحتاج إلى ميزانيات ضخمة، ولن يتم استخدامها دون الرغبة في الوصول إلى أهداف مهمة.
ورغم الركود الذي يضرب سوق الإعلانات في مصر، فقد تأسست 25 قناة فضائية خاصة على الأقل بعد ثورة 25 يناير، وبالتزامن مع هذه الحالة تظهر بين وقت وآخر أقاويل عن أرقام فلكية لرواتب يحصل عليها مقدمو برامج ومذيعون.. وعندما تولت جماعة الإخوان المسلمين الحكم بمساعدة التيار السلفي منذ صيف العام 2012، وكل منهما له طريقته المحافظة و"الغامضة" أحيانًا في التعاطي مع الأمور السياسية، بداية من مزاعم عن إقامة الخلافة وتحريم الفن، واستنكار طريقة عمل القنوات الفضائية التي تقف ضد توجهات المتشددين الإسلاميين، وكلما زادت حدة الانتقادات لحكام مصر الجدد آنذاك، في القنوات الفضائية الخاصة، مثل قنوات الـ"سي بي سي"، و"النهار" و"أون تي في"، و"القاهرة والناس" وغيرها، خرجت أصوات المشرعين الإسلاميين في البرلمان الذي تم حله فيما بعد بالسؤال عن "رواتب مقدمي البرامج" التي يتسم غالبيتها بنوع برامج الطرف الواحد، أي التي يتولى فيها المذيع "التنظير" وطرح أفكاره الخاصة في السياسة والاقتصاد والأمن والعلاقات الخارجية والطريقة المثلى لحكم الدولة.. وأطلق الإسلاميون على هذا النوع من القنوات "قنوات الليبراليين" و"العلمانيين" و"قنوات الفلول" (أي التي يملكها رجال أعمال من الموالين للنظام السابق).
والحقيقة التي يتحدث عنها عدد من خبراء الإعلام المصري وبعض المذيعين تتلخص في أن كثيرًا من القنوات الفضائية تنفق أموالًا ضخمة من دون عائد حقيقي، وهو أمر فتح الباب للشكوك والتكهنات عما إذا كان المال السياسي قد دخل لعبة الإعلام للتأثير على الرأي العام في بلد فقير ما زال يتلمس طريقه بعد ثورة صاخبة.
وفي أبريل 2013، كشف وزير الإعلام الإخواني السابق صلاح عبد المقصود أن القنوات الفضائية المصرية تنفق أكثر من 6 مليارات جنيه (أقل قليلاً من مليار دولار)، بينما إيراداتها لا تتجاوز 1.5 مليار جنيه، وتساءل الوزير: مَن الذي ينفق وما الغرض من هذا الإنفاق؟ وأجاب الوزير قائلًا: إن "المال السياسي" يلعب دورًا في تمويل الإعلام الخاص وسد الفجوة بين الإنفاق الكبير والإيرادات القليلة.
ويقول الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز، عن قضية الإنفاق الضخم في القنوات الفضائية المصرية الخاصة أمام شح الإعلانات: "نستطيع أن نؤكد أن عوائد الإعلانات تراجعت بعد ثورة 25 يناير"، ويضيف أن هذا التراجع يقل عن 40 في المائة في عائدات الإعلانات مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الثورة، ويستند عبد العزيز في هذه الأرقام إلى عدد من شركات الإعلانات التي يملكها كبار المعلنين في مصر، ومن بيوت إعلان كبيرة، مثل وكالة الأهرام للإعلان، وشركة "طارق نور" و"إبسوس" و"بارك" وغيرها، وبالتالي "لدينا ما يفيد بأن عوائد الإعلانات في القطاع المسموع والمرئي تراجعت في أعقاب ثورة 25 يناير".
ووفقًا لهذه الأرقام، فإن القنوات الفضائية الخاصة لا بد أنها تحقق خسائر، إلا إذا كان لديها مصدر لا ينضب من الأموال، إن معظم الإفادات عن حجم الإعلانات تتجه إلى أن إجمالي العوائد الإعلانية تراجعت في عام 2011 وحده بنسب تتراوح بين 60 إلى 90%، وأن الأمور حين تحسنت في عام 2012 لم ترجع إلى المستويات التي عرفتها في العامين الأخيرين قبل الإطاحة بمبارك في مطلع العام 2011، وبالتالي يمكن توقع أن حجم التدفقات الإعلانية تراجع على مدى العامين الأخيرين بنسب لا تقل عن 40 في المائة.
وعلى الرغم من هذا التراجع في الإعلانات، التي تعتبر المصدر المالي الرئيس لأي وسيلة إعلامية تريد الاستمرار، فإن الغريب هو أن حجم الاستثمار في قطاع البث المرئي والمسموع ازداد زيادة قياسية، وأسهم في ذلك تراجع التحكم الأمني الذي كان متبعًا في عهد مبارك بشأن إطلاق الفضائيات، وتراخي قبضة الإشراف الإداري على القنوات الخاصة.. ويتحدث ملاك قنوات فضائية عن إصابة عوائد الإعلانات بانتكاسة بالفعل. بل وصل الأمر بين بعض هؤلاء الملاك، ومن بينهم سياسيون، إلى درجة التلاسن على الملأ والتهديد بفضح ما يدور في الكواليس، أضف إلى ذلك تفجر كثير من الخلافات ذات الطعم السياسي بين أصحاب قنوات، وآخرين من أصحاب الشركات المعلنة، من بينها القول إن توقف الشركة الفلانية عن سداد ما عليها من أموال للقناة العلانية، سببه موقف تلك القناة من السلطة، سواء بالمعارضة أو بالتأييد.. ومع ذلك، وفي هذه الحالة الإعلامية المرتبكة، تجد قنوات جديدة تتأسس وتبث وكأنها غير معنية بحالة السوق.
وعكف المسئولون عن بعض القنوات الفضائية على اتخاذ إجراءات جديدة لدراسة خسائر قنواتهم ليتبع ذلك تخفيض رواتب مذيعى البرامج حسب التراجع فى شعبية الكثير منهم، وتكلف رواتب مقدمى البرامج الذين يتمتعون بشعبية كبيرة ما يزيد على المائة مليون جنيه سنويًا، حسبما صرحت بعض المصادر بقناة دريم وقناة أوربت وسى بى سى والمحور وقناة إم بى سى مصرية، وحسب هذه المصادر فقد وصل أجر الإعلامى عمرو أديب إلى 120 ألف دولار شهريًا يضاف إليها نسبة من حصيلة الإعلانات والاشتراكات، وبالنسبة لراتب مقدم البرامج المعروف محمود سعد فقد وصل إلى ستة ملايين جنيه سنويًا من عمله فى قناة النهار، وقد كان أجره من التليفزيون المصرى يزيد على العشرة ملايين جنيه، بالإضافة إلى نصيبه من حصيلة الإعلانات، ولميس الحديدى يزيد راتبها على ستة ملايين جنيه زائد حصتها من الإعلانات.
ويطالب بعض خبراء الإعلام بإنشاء جهاز لمعرفة مصادر تمويل الوسائل الإعلامية سواء كانت صحفًا أو قنوات فضائية أو محطات إذاعية أو مواقع إلكترونية بكلِّ وضوح، بجانب إصدار تشريعات تحمي المشاهد، بفصل الملكية المادية عن السياسة التحريرية لوسائل الإعلام، لكي لا يتحكم المالك بالمضمون كما يشاء، من خلال نقابات مهنية قوية للتحكم في مثل تلك المشكلات.
ويشترط البعض إعلان كل وسيلة إعلامية عن مصادر تمويلها بوضوح كامل، وإذا ثبت تلقيها أموالًا من جهات أجنبية، فإنه لا يوجد سبيل بعد التأكد من مصادر التمويل الأجنبية سوى إغلاق تلك الوسيلة بشكلٍ نهائي؛ لأننا لا نحتاج إلى وسائل إعلام لا تهدف سوى لإثارة الفتن، وإعاقة الوصول إلى الحكم الديمقراطي في مصر.
ويؤكد البعض أن ضبط ومنع التمويل الأجنبي من التدخل في الإعلام المصري يحتاج إلى عدد من الخطوات، منها: الاتفاق على ميثاق أخلاقي بين القائمين على تلك الوسائل بإعلان مصادر تمويلها؛ لأن مصر تحتاج إلى مئات القنوات الفضائية الوطنية، كما يتطلب من إدارة "النايل سات" عدم التصريح ببث أي قناة قبل التأكد من خلو مصدر تمويلها من أي شبهات خارجية وأجنبية.
ويطالب البعض بوضع سياسات حاكمة من قبل الحكومة المصرية تمكن الجميع من الاطمئنان على سلامة تمويل المنابر الإعلامية باعتبارها أحد أهم ما يتعرض له الرأي العام في أي دولة؛ حتى نستطيع أن نتجنب الأموال المشبوهة، التي تمثل أجندات خارجية لتحطيم الرؤية المصرية، والعودة بها إلى الوراء في عصر التبعية السياسية.
إن الإعلام المصرى بشقيه الحكومى والخاص يأتى فى الواجهة بين مشاهد الأزمة التى تعيشها مصر منذ سقوط نظام الإخوان، فرغم المطالب المتزايدة بإعادة هيكلة الإعلام المسموع والمرئى المملوك للدولة، فإن تكريس الوضع السابق لا يزال قائمًا، بل إن عودة منصب وزير الإعلام فى ذاته، ثم إلغائه، ثم التفكير في إحيائه يؤكد أن عقلية التعامل مع الإعلام الحكومى كما هى، وهى إبقاء الإعلام الذى يمتلكه الشعب فى حظيرة النظام، أيًا كان هذا النظام.
أزمة إعلام الدولة تلك تتواضع فى تأثيراتها السلبية كثيرًا أمام حالة الانفلات والعشوائية المخططة من قبل الإعلام الفضائى الخاص، الذى يعتقد الكثيرون ومن خلال مجمل مواقفه أنه يسعى بجدية لمحاصرة ثورة 25 يناير وتفريغها تدريجيًا من مضمونها.
إن هذا الوضع يدفعنا للبحث عن مخرج لحالة الإعلام المصرى الحالية، إذا كنا راغبين حقًا فى إنجاز منظومة إعلامية حقيقية تخدم بحق مصالح الوطن وطموحات ثورته ومستقبل أبنائه، وذلك عبر تبنى الخيارات التالية:
• قيام الأجهزة الرقابية المختلفة بالبحث والتحرى فى حجم الأموال التى يتم استثمارها فى الفضائيات ومعرفة مصادرها وملاكها وأهدافهم الحقيقية منها.
• مواجهة الاحتكار الإعلامى فى مصر وتشجيع قيام أشكال تعاونية تضم العاملين فى وسائل الإعلام وتمكنهم عبر سلسلة من التسهيلات من تملك القنوات التليفزيونية التى يعملون بها أو تملك نسب كبيرة منها.
• إصدار قوانين تضمن فصل الإدارة عن رأس المال فى القنوات الفضائية.
• إنجاز مشروع نقابة مستقلة للإعلاميين فى الإذاعة والتليفزيون الحكومى والفضائيات الخاصة بما يكفل الحفاظ والحماية لحقوق الإعلاميين.
• تشكيل إدارة أو جهاز لتنظيم البث الإعلامى المرئى والمسموع.
• إصدار ميثاق شرف ينظم أداء الإعلام المصرى، ويضع ضوابط مهنية وأخلاقية، وجزاءات رادعة تطبق بحزم وبمساواة على كل المخالفين على أن يتم إنجاز هذا الميثاق بعد حوار مجتمعى لممثلين عن الشعب المعنى أساسًا بالرسالة الإعلامية وخبراء وأكاديميين وقادة نقابة الإعلاميين المزمع إنشاؤها بالإضافة إلى آراء وتصورات القنوات الفضائية واتحاد الإذاعة والتليفزيون ومنظمات المجتمع المدنى والأحزاب.
• اتخاذ جميع التدابير الخاصة بكسر احتكار عدد محدود من شركات الإعلان لحصيلة الإعلانات فى الفضائيات المختلفة.
• أهمية إصلاح حال اتحاد الإذاعة والتليفزيون وإعادة هيكلته ليكون بحق جهازًا مملوكًا للشعب بجميع طوائفه ويعبر عن جميع توجهاته دون تمييز.
• تشجيع إنشاء مراصد إعلامية هدفها مراقبة أداء وسائل الاعلام، ونشر مخالفاتها، والحفاظ على حق المواطن فى تلقى خدمات إعلامية متنوعة.