تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
وبرغم كل شيء يبقى البعض متمسكًا بهذا الوهم ليس عن عشق وإنما عن مصلحة. فهذا الوهم يمنحهم وهمًا أكبر.. هو إمكانية وصولهم للسلطة، وأن يصبح أميرهم أو مرشدهم ليس مجرد مرشد لجماعة كبرت أو صغرت، وإنما أمير للمؤمنين جميعًا وفي شتى أقطار الأرض. وفي كتابه “,”الكامل في التاريخ“,” أورد ابن الأثير ما قال إنه حوار دار بين عمر بن الخطاب في أول أيام خلافته وبين المغيرة بن شعبة.. فقال:
ناداه المغيرة: “,”يا خليفة الله“,”، فرد عمر: “,”ذاك نبي الله داود“,”. فقال المغيرة: “,”يا خليفة رسول الله“,”، فأجاب عمر: “,”ذاك صاحبكم المفقود (يقصد أبا بكر)“,”، فقال المغيرة: “,”إذن أناديك: يا خليفة رسول الله“,”، فقال عمر: “,”ذاك أمر يطول“,”، فما كان من المغيرة إلا أن ناداه: “,”يا عمر“,”. فقال عمر: “,”لا تبخس مكاني شرفه.. أنتم المؤمنون وأنا أميركم“,”.
ومن ساعتها ناداه المسلمون “,”يا أمير المؤمنين“,”.
ولنا على ذلك الحوار ملاحظتان، الأولى هي أن هذه التسمية صناعة إنسانية أتت عبر حوار، وأخذ ورد، وربما كان للحوار أن يتواصل إلى تسمية أخرى. أما الملاحظة الثانية فهي أن هذا المنصب ما لبث أن تحول، وبعد رحيل ابن الخطاب إلى موقع سياسي تصارعت له قوى سياسية وقبلية، كلق أراده لنفسه أو لجماعته. ولأن الخلاف على الخلافة كان تعبيرا عن مصالح بشرية فقد نسي أصحابه أي طابع ديني له وتباروا في صراعات مريرة خلت من أي وازع ديني، وإن ظلت تستخدم الدين طلاء لذات الأفعال المنافية للدين.
وكانت الثمار مريرة، فالخلفاء الأمويون كانوا 14، والعباسيون 22، أي أن مجموعهم تقريبا 36، سبعة عشر منهم قتلوا غيلة، لكن الأكثر مرارة هو أن غالبيتهم كانوا من الأقارب والأبناء والإخوة.. سعيًا وراء المنصب، بل إن أمًا قتلت ابنها في هذا الصراع المرير والدائم على السلطة. الأمر الذي دفع بالصحابي الزاهد أبو ذر الغفاري إلى القول: “,”والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي من كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقًا يُطفأ، وباطلا يحيا، وصدقًا مكذبًا وأثره يغير تقي“,”.
وفي خضم هذه الصراعات التي تذكرنا بصراعات القصر في كل مكان وجدت فيه سلطة مطلقة في العالم ظل اسم “,”أمير المؤمنين“,” مستخدما بالحق وبالباطل. وتمسك به، أو بالدقة تمسح به، حكام لولايات صغيرة، كل منهم، وأيًّا كان اقترابه من الدين أو ابتعاده عنه، أسمى نفسه “,”أمير المؤمنين“,”. ففي إمارات الشام والعراق، وحتى الأندلس ظلت هذه التسمية مستخدمة.. ولم تزل حتى عصرنا الحديث تستخدم، برغم إصرار كبار الفقهاء على رفض فكرة الخلافة، وعلى رأسهم في العصر الحديث الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده الذي قال: “,”إن الإيمان بالله يرفع الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، وهي دعوى القداسة والوساطة عند الله، دعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، فالمؤمن لا يرضى أن يكون عبدًا لبشر مثله“,”.
ومع ذلك، وحتى بعد أن اختفت دولة الخلافة العثمانية، ظل موضوع الخلافة محل جدل، بل وحاول البعض إقامتها تبعًا لذات الفكرة التي أوحت لحاكم مدينة صغيرة أن يسمي نفسه أميرًا للمؤمنين.. كل المؤمنين في كل العالم.
ولعلنا نذكر محاولة صالح سرية للاستيلاء على السلطة في مصر ببضعة طلاب من الكلية الفنية العسكرية. فهو قد لقَّن هؤلاء الطلاب في كتابه المسمى “,”رسالة الإيمان“,” بأن التآمر “,”القومي“,” و“,”الوطني“,” مع “,”الاستعمار الغربي والماسونية قد حطم الخلافة العثمانية.
ومن ثم فقد هاجم كتابه كل رموز الوطن والوطنية وسماها طقوس الشرك الجديدة ويقول: في كل الحكومات اليوم طقوس تعيد إلى الأذهان طقوس عبادة الأصنام ومنها: تحية العلم، حيث يقوم أفراد الجيش والشرطة والطلاب بأداء التحية لقطعة قماش تسمى علم الدولة، ويصبح العلم في هذه الحالة كأنه صنم تجري عبادته“,”. وبذات المنطق قام صالح سرية بتكفير السلام الجمهوري أو الملكي أو الأميري وتحية قبر الجندي المجهول. وبهذا المنطق أيضًا أدان بالكفر كل من وقف في مواجهة دولة الخلافة، فالقومية العربية وأي قومية أخرى كفر، والديمقراطية كفر. ثم يقول: وكل من اشترك في حزب عقائدي فهو كافر لا شك في كفره، فالأحزاب الاشتراكية والشيوعية والبعثية والقومية، والاتحاد الاشتراكي كلها كافرة، وكل من انضم إليها كافر، وكل من دعا للاشتراكية أو الرأسمالية كافر. وعلى أنقاض هؤلاء جميعا، أوطانا وأحزابا وحكاما، ستقوم دولة الخلافة، أما سلاح دولة الخلافة فقد كان ثمانية عشر طالبًا من طلاب الفنية العسكرية، رسم لهم خطة ساذجة للاستيلاء على السلطة؛ ليتوج نفسه بهم أميرًا للمؤمنين. والمثير للدهشة أنه صدَّق نفسه، صدقها إلى درجة أنه ضبط معه عند القبض عليه بعد فشل المحاولة بيان يقول فيه: “,”أيها الشعب الحبيب، أيتها الأمة المجاهدة الصابرة، لقد نجحنا والحمد لله صباح اليوم في السيطرة على الحكم واعتقال جميع المسئولين عن النظام السابق“,”.
ومثله أيضًا شكري مصطفى، وكان مسجونًا من جماعة الإخوان وتتلمذ على أفكار الأستاذ سيد قطب وأسس تنظيما سماه “,”الجماعة المسلمة“,” (التكفير والهجرة)، وهو لم يكتفِ فقط بالدعوة إلى دولة الخلافة، بل نصّب نفسه أميرًا للمؤمنين وسمى نفسه “,”أمير آخر الزمان“,”، وأنه أمير “,”الفرقة الناجية“,”، وهو يؤكد في كتابه “,”التوسمات“,” الذي تركه مخطوطا ضن مخطوطات أخرى (لأن المطبعة عتاد كافر) أن الإسلام اختفى من الأرض إلا من أعضاء جماعته وأنه (الإسلام) سيعود إلى الأرض مرة ثانية، سيعود كما بدأ وبنفس الطريقة التي بدأ بها. ويتمادى شكري مصطفى في توسماته، فيرفض مبدأ التعلم من أجل إعمار الدنيا، “,”وأي علم ليس من أجل الآخرة هو عبث وشرك“,” وحتى في القتال من أجل إقامة “,”دولة خلافة“,” التي سماها “,”دولة آخر الزمان“,” فإن القتال يكون كما فعل الرسول: بالسيف، والخيل، وسوف يحارب برجاله صفا، فالقتال في الصف متعلق بمحبة رسول الله. أما الطائرات والدبابات والقنابل الذرية والمناورات الحربية “,”فكلها أصول جاهلية أتت نتاجًا لمعصية الله، وأعدت بأموال كافرة وأصول كافرة، وقد صنعتها الجاهلية بجاهليتها وليست بإيمانها وتقواها“,”. لكن المثير للدهشة أنه عندما اختطف الشيخ الذهبي قتله بعتاد كافر وهو المسدس.
وينسج شكري مصطفى قصصًا خرافية عن اقتراب موعد خلافته على العالم أجمع، فعلامات القيامة تتحقق. ثم يكون المسيح الدجال وهو أعور وله علامات حددتها كتب السنة.. وبعدها يكون ظهور “,”جماعة الحق“,”.. “,”جماعة آخر الزمان“,” وأميرها أمير آخر الزمان هو السيد شكري مصطفى.. لكن أمير آخر الزمان يقبض عليه، ويعدم.
لكن وهم الخلافة يبقى، بل ويتحقق لأمير آخر في أفغانستان هو الملا عمرو، وهو طالب الدين الذي لم يتم تعليمه، أما المولوي فهو الطالب الذي أتم تعليمه وتخرج عالماً في الشريعة. نحن إذن إزاء مجرد طالب في مدرسة دينية، ومع ذلك سمى نفسه رسميا “,”المجاهد الأكبر، خادم الإسلام، أمير المؤمنين ملا محمد عمر المجاهد“,”. وقد أسس ملا عمر إمارته على أنقاض المتصارعين على السلطة في أفغانستان من “,”المجاهدين“,” بعد انسحاب الجيوش السوفيتية، وكان صراعهم وحشيًّا. وقد بدأ حركته في قرية “,”كشك نخود“,” حيث أخذ قطعة من قماش أبيض كتب عليها “,”لا إله إلا الله محمد رسول الله“,” ورفعها على أحد مباني القرية معلنًا قيام حركته التي تجمع حولها خمسون طالبا.. وبهم أسس دولة الخلافة التي تزايد عدد جنودها ليصل إلى 313.
ونطالع بعض معلومات عن هذه الإمارة وردت في كتاب “,”طالبان.. العمائم والمدافع والأفيون“,” لمؤلف مصري هو الأستاذ عبدالحليم غزالي، وربما كان هذا الصحفي أحد القلائل الذين تلقوا “,”بشارة“,” اللقاء مع الملا عمر وأجرى معه حوارًا، ويعتقد الطلبانيون أن من يقابل الملا ولو مرة واحدة لن يدخل النار مهما فعل. والمعلومات والمواقف كل منها مثيرة للدهشة، وفي هذا الكتاب نقرأ: “,”.. عارف الله العارف نائب وزير الاقتصاد لم يدرس الاقتصاد وليس لديه أي إحصائيات أو أرقام. وعندما سأله الصحفي عن رأيه في “,”العولمة“,” قال إنها أول مرة يسمع فيها هذه الكلمة. وملا محبوب الله رئيس فرع البنك الوطني في قندهار لم يدرس الاقتصاد ويقول ببساطة: ذهبت إلى كابول وتعلمت كيف تحفظ الأموال. وهو لا يعرف معنى كلمة تضخم. أما مبادئ الإمارة فهي ترفض الانتخابات فهي بدعة نصرانية، وكذلك الديمقراطية، والأمير يستمع لأهل الشورى لكنه في نهاية الأمر يعمل برأيه هو إعمالا لقوله تعالى: “,”فإذا عزمت فتوكل“,” (لا يجوز تصوير ما فيه روح)، الغناء والموسيقى ممنوعان، وقد سمح الأمير بزراعة الأفيون والإتجار فيه، وتحصل الإمارة على زكاة الزروع من منتجيه وهي العشر، ويقدر تقرير للأمم المتحدة أن إنتاج الأفيون قد زاد بنسبة 84% في ظل حكومة طالبان، أما عن دور أسامة بن لادن في هذه الإمارة فهو معلوم بما يحتاج إلى مزيد من الإيضاح.. وكذلك مصير دولة الخلافة ومصير أميرها المجاهد الأكبر خادم الإسلام أمير المؤمنين.
وتمثل جماعة الإخوان أحد أهم القوى المعاصرة التي تنادي بفكرة الخلافة وضرورة بعثها، وقد امتازت بأنها أقامت تنظيما دوليًّا على نمط الخلافة المنشودة.. وتقول الوثيقة المعنونة “,”النظام العام للإخوان المسلمين“,” “,”الإخوان المسلمون في كل مكان جماعة واحدة تؤلف بينها الدعوة ويجمعهم النظام الأساسي“,”.
أما المادة الثانية فتقول: “,”الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة تعمل لإقامة دين الله في الأرض“,”، ونواصل القراءة في أهداف الجماعة منها: “,”تحرير الوطن الإسلامي بكل أجزائه.. والسعي إلى تجميع المسلمين جميعا حتى يسيروا أمة واحدة“,”، (ونلاحظ وطن إسلامي واحد وأمة واحدة على نطاق العالم). وتهدف الجماعة إلى “,”إعداد الأمة إعدادا جهاديًّا لتقف جبهة واحدة.. تمهيدًا لإقامة الدولة الإسلامية الراشدة“,”. توضح الوثيقة الهيكل التنظيمي الذي يقف على رأسه المرشد العام ومراقب عام في كل قطر والمراقبون أعضاء في مجلس الشورى العام“,”، ويتشكل مكتب الإرشاد العام من 13 عضوا، ثمانية أعضاء من مصر، وخمسة يراعى في اختيارهم التمثيل الإقليمي. والجميع في كل الأقطار ملزمون باتباع تعليمات مكتب الإرشاد العام حول الأهداف والسياسات العامة ومواقف الجماعة من مختلف الاتجاهات والتجمعات والقضايا المتنوعة، أما التفاصيل فمتروكة لإخوان الأقطار فأهل مكة أدرى بشعابها..
وهكذا أقامت الجماعة خلافتها الخاصة بها على امتداد وجودها في مختلف الأقطار سعيًا وراء إقامة دولة الخلافة، ويبقى أن هذا التنظيم الدولي الذي يمنح الجماعة نفوذا وتمويلاً واتساعًا في مجالات الحركة، يمثل في ذات الوقت أعباء لعل أقلها أنه يقف بالجماعة في مواجهة القانون المصري الذي يحظر حزبًا يكون فرعًا أو مركزًا لتنظيم دولي. كما يضع الجماعة وحكمها في موقع الالتزام بما قد يؤثر على التزاماتها المصرية مثلما يجري الآن من مجاملات لحركة حماس متمثلا في الانفاق التي تعبث بالسيادة المصرية وتعبئ من أرض سيناء قوى إرهابية تهز أركان السيادة المصرية هناك وتهدر أمن مصر كلها.
بدلا من الخاتمة
إذا زرت يا مولاي قبر محمد
وقبلت مثوي الأعظم العطرات
فقل لرسول الله يا خير مرسل
ابنك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهف في عميق سبات
أحمد شوقي