الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ضرورة و صعوبة التوافق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ترى لماذا تهدد كوريا الشمالية بإشعال حرب نووية؟ لم لا تتصالح الكوريتان وهما شعب واحد؟ لماذا لا تتصالح الصين وفرموزا؟ بل لماذا لا تتصالح فتح و حماس؟ إن الأطراف المتنازعة جميعا تعلن ليل نهار عداءها للتدمير و يقينها بأن التوتر قاتل للتنمية فلم تشتعل المواجهات، ويغيب التوافق؟.

و يفيض خطابنا السياسي هذه الأيام بمصطلح التوافق، و بلغ بنا الإسراف في استخدام المصطلح دون الوقوف على دلالته الدقيقة أن أصبح بعضنا يري في القبول به خيانة للمبادئ، كما أصبح يعني لدي البعض الموافقة، أي أن توافقني على ما أرى، في حين يراه البعض في صورة حسابية باعتباره نقطة في الوسط بالضبط يتفق عليها الجميع، كما أسرف البعض في الدعوة للتوافق و ضرورته إلى حد اعتباره فضيلة أخلاقية. 

التوافق يعني من الناحية العلمية أن يتنازل كل طرف عن جزء مما يعتقد أنه حقه القانوني أو التاريخي أو العقائدي أو الوطني أو المالي في سبيل تحقيق ما يراه مكسبا نسبيا ممكنا أو تجنبا لخسارة مؤكدة، و التوافق بهذا المعنى المحدد سواء اتخذ شكل التفاوض أو المساومة أو المصالحة أو إبرام المعاهدات إلي آخر تلك الوسائل و الأشكال لا يخضع بحال للنوازع الأخلاقية وحدها، بل يتوقف على الحسابات الواقعية للقوى المتصارعة على الأرض، و التسليم باستحالة حصول طرف على كل ما يريد و هزيمة الطرف الآخر هزيمة ساحقة أو القضاء عليه قضاء مبرما.
لم يعرف التاريخ توافقا اختياريا تم بين جماعات متصارعة قبل استنفاذ جولات من الصراع الواقعي عبر صناديق الانتخابات، أو عبر قتال فعلي ربما تسيل فيه الدماء و تهدر الأموال؛ ويتوقف حجم تلك التكلفة علي قدرة أطراف الصراع علي سرعة الحساب الموضوعي لموازين القوى قبل الانغماس في مزيد من الاستمرار في تصارع تلك القوي ميدانيا.
و لعل النموذج المثالي الذي يجسد ذلك هو حرب الثلاثين عاما التي مزقت أوروبا بين عامي 1618 و1648 و التي كانت في بدايتها صراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت سرعان ما اتخذ أبعادا سياسية، و تم خلال تلك الحروب تدمير مناطق بأكملها، وانتشار المجاعات والأمراض وهلاك الملايين من السكان حيث أدت الحرب إلي انخفاض سكان ألمانيا علي سبيل المثال من عشرين مليونا إلى ثلاثة عشر ونصف مليونا، وأخيرا انتهت الحرب بمعاهدة مونستر وهى جزء من صلح وستفاليا الأوسع عام 1648.
ليس منطقيا ولا متوقعا أن يقدم طرف من أطراف الصراع طواعية للتنازل عن جزء مما يراه حقا له بصرف النظر عن مشروعية أو قانونية اكتسابه لذلك الحق، إن إبرام الاتفاقات العربية مع إسرائيل على سبيل المثال بدءا من اتفاق هدنة 1948 إلى معاهدات كامب ديفيد وأوسلو إلى آخره لم يتم إنجازها إعلاء لفضيلة السلام أو تفضلا من طرف علي آخر، ولكن نتيجة حسابات واقعية أفضت إلى إدراك كل طرف استحالة هزيمة الطرف الآخر هزيمة ساحقة في الوقت الراهن على الأقل.
و الأمر بالمثل فيما يتعلق بمفهوم التحالفات و هو مفهوم وثيق الصلة بمفهوم التوافق، التحالفات أيضا لا تتم اختيارًا بل اضطرارًا و هى أيضا لا تنعقد بين من تتطابق رؤاهم أو أهدافهم، بل على العكس من ذلك تماما، و تعد الحرب العالمية الثانية نموذجا يجسد ذلك إذ شهدت تحالفا بين دول عريقة في رأسماليتها و بين الاتحاد السوفييتي قلب الاشتراكية و رأسها آنذاك، و لم يكن ذلك التحالف يعني بحال تخلي أي من أطرافه عن توجهاته الفكرية أو الاقتصادية، لقد أقامت أطراف التحالف تحالفها علي قاعدة القبول بالتعاون مع "العدو" الأقل عداء في مواجهة الأكثر عداء و شراسة، و لم يرفض الاتحاد السوفييتي أن يكون طرفا في صراع يدور بين دول يجمع بينها المنهج الرأسمالي باعتبار الرأسمالية كيانا واحدا، مفضلا أن يحتفظ بنقائه "الثوري" بعيدا عن "أدران الرأسمالية"، كما أن أيا من دول الحلفاء لم تجد حرجا في التحالف مع دولة تكاد تقدس البيان الشيوعي الذي يبشر بإنهاء النظام الرأسمالي من أساسه، لقد تحالف الجميع في مواجهة خطر الفاشية التي تعتمد على عنصرية تذهب إلى حد تكفير الآخر و إبادته. و قد تم إبرام ذلك التحالف عبر جولات ممتدة من المفاوضات و الشد و الجذب .
لقد عرضنا لأمثلة من تلك الصراعات الدولية لأنها الأكثر وضوحا، و لكن الآليات التي حكمتها هى بذاتها التي تحكم عمليات التحالف و التوافق بين الأحزاب و القوى السياسية الداخلية المتصارعة في بلادنا و غيرها.
و السؤال هو: ترى هل قامت القوي السياسية في بلادنا بإجراء حساباتها وفقا لهذا الأساس العلمي؟ هل تساءل كل فصيل من فصائل أنصار الدولة المدنية أي الفصائل أقرب إليهم و لو نسبيا من التيارات السياسية الأخرى بما فيها تيارات الإسلام السياسي و هل وضعت الأطراف جميعا في اعتبارها أن التحالفات لا تتم اختيارا كما أنها لا تتم فورا بل إن إبرام مثل تلك التحالفات يعتبر في حد ذاته معركة في حد ذاتها؟ و هل استوعبت الأطراف جميعا حقيقة استحالة حصول تيار واحد بأغلبية ساحقة تسمح له باستبعاد الآخر أو تخوينه أو مقاطعته أو رفض الحوار معه؟ و أخيرا هل استوعبنا جميعا حقيقة أن شعار فلنتحالف جميعا دون أن نستبعد أحدا يعد ضربا من الخيال لا معني له.