تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أصاب الرئيس عبدالفتاح السيسى كبد الحقيقة، عندما تحدث عن حاجتنا إلى ثورة دينية، ثورة على الموروث من الأفكار العقيمة، التي أدت -وما زالت تؤدى- إلى مزيد من الكراهية والغل والحقد، الذي تحول إلى قتل وتفجير، وإرهاب للآمنين، من كل الأديان والأجناس، بما في ذلك المسلمون أنفسهم.
أصاب الرئيس كبد الحقيقة، ليس فقط لأننا أمام أزمة فكرية دينية حقيقة، ولكن لأن أي إصلاح سياسي أو اجتماعي أو ثقافى لن يكتب له النجاح بدون تحقيق الإصلاح الدينى كخطوة أولى وضرورية.
ولا بد أن نشير، قبل أن ندخل في موضوع قضايا التجديد، إلى أن تزايد نفوذ الخطاب الديني في مصر والعالم العربى هو نتيجة منطقية لتصاعد الدور الذي لعبته بعض حركات وجماعات الإسلام السياسي في تشكيل الوعي الجماعى، وتحديد توجهاته واختياراته، طوال العقود الخمسة الأخيرة، فأساءوا إلى الدين بقدر إساءتهم إلى أوطانهم ومجتمعاتهم.
الولاء والبراء
ولعل من أهم الأفكار التي يجب التصدى لها كأولية أولى،- ونحن نناقش مفهوم ومحددات مشروع التجديد الدينى- تلك الرسالة أو العقيدة المسماة بـ«الولاء والبراء»، الركيزة الأساسية التي بنى عليها الفكر المتطرف مجمل أفكاره ومواقفه، و«الولاء» هنا يعنى حب المؤمنين، و«البراء» يعنى التبرّؤ من الكافرين.
ويحصر أصحاب تلك العقيدة «الكافرين» في ثلاث فئات:
الفئة الأولى: هم «اليهود والنصارى وحكام المسلمين من الطواغيت الذين تركوا الحكم بغير ما أنزل الله، ووالوا الكفار، وكذلك أعوانهم من العلماء الرسميين والصحفيين والإعلاميين والكتاب والمفكرين، وغيرهم من الموظفين الرسميين الذين يتلقون رواتبهم في مقابل نصرة الباطل وتزيينه ومعاداة أهل الإيمان وتشويههم».
والفئة الثانية: «دعاة التصالح الموهوم»، وهى الفئة التي تدعو إلى التصالح مع الحكومات الخارجة على الشريعة لمقاومة أعداء الأمة»
والفئة الثالثة: هم «مجاهدو أمريكا»، ويقصدون بهم «بعض الجماعات والقيادات المنتسبين للحركات الإسلامية الذين يوالون الأمريكان»، وهؤلاء جميعا في نظر أصحاب عقيدة «الولاء والبراء» خارجون عن عقيدة الإسلام يجب محاربتهم، محاربة الأعداء، إعلاء لكلمة الحق وتمكينا للدين.
ويستشهد هؤلاء ببعض الأكلشيهات المحفوظة والمكررة لـ«ابن تيمية» تلك التي وضعها إبان هجوم التتار على أرض المسلمين وارتكابهم جرائم في حق مواطنى تلك الدول، يشيب لها الولدان، ليلبسها على الواقع الراهن، فيعلن الكراهية لكل من لا ينتمى للإسلام وعدم موالاته، دون تفرقة، كما يفعل العلماء الثقات، بين الموالاة التي تتضمن الإعانة على الكيد للمسلمين والوقوف في صف المعتدين، وهؤلاء الودعاء المسالمين، سواء من يعيشون في بلاد غير بلادنا، أو إخواننا الذين يشاركوننا الأرض ولقمة العيش.
وعند هؤلاء لا يجوز تولية الذمى مناصب مهمة، ولا يجوز بناء كنائس في ديار الإسلام، مستشهدين بعدة وقائع منسوبة للخليفة الثانى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- تلك التي تصدى لها العلامة الشيخ عبد المتعال الصعيدي، في كتابه«القرآن والحكم الاستعماري»، حينما قرر أن الأصل في معاملة أهل الذمة هو ما فعله الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وليس أحد غيره مهما علا شأنه، شارحا الأسباب التي دعت ثانى الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه وأرضاه- لمعاملة بعض أهل الذمة في حينها، معاملة فيها شىء من التمييز، وذلك على أساس أن الرقعة الجغرافية التي مارس فيها عمر بن الخطاب هذه الممارسات كانت تعتبر معسكرا للجندية، لا يجوز أن يلبس فيها ملابس الجند سوى الجنود، وهو ما يحدث الآن، حيث تجرم معظم الحكومات من يقوم من المدنيين بارتداء ملابس العسكر، وقدم الشيخ منهجا عظيما في كيفية معاملة أهل الكتاب في ديار الإسلام، ليس هنا المجال لشرحه بالتفصيل، ولكنه أشار بدقة بالغة إلى مفهوم الوطنية، البديل عن مفهوم الذمة، ذلك المفهوم الذي يسوى بين المواطنين في الحقوق والواجبات، باعتباره مفهوما إسلاميا لا يصطدم بدين أو مذهب أو عقيدة.
وينطلق هؤلاء من عقيدة «الولاء والبراء»، إلى مفهوم «الجهاد»، حيث يحضون المسلمين في كل أنحاء العالم أن يهبوا للجهاد في وجه الصليبيين، ومن والاهم من حكام المسلمين الذين يكفلون لهم المساعدات اللوجستية، من أجل تسهيل حربهم على المسلمين، وبعيدا عن تفسيرنا السياسي للموقف الراهن، وما فعله الإسلاميون من تحالف واضح مع الأمريكان، في إطار مخطط واسع لتقسيم الدول العربية والإسلامية، ضمن إطار «شرق أوسط واسع».
فقد سقط هؤلاء -للمرة المليون- في خطأ التعميم على مفهوم الجهاد، دون تفرقة بين «جهاد الطلب» و«جهاد الدفع»، وعدم ذكر ما خلص إليه العلماء، وعلى رأسهم الدكتور «محمد سعيد رمضان البوطي»، والشيخ «حسين فضل الله»، والدكتور «محمد سليم العوا»، وعدد كبير لا يحصى من العلماء والمفكرين المستقلين، الذين لا يتلقون رواتب من أي دولة، ولا يعملون لدى أي جهة حكومية، فقد أجمع هؤلاء العلماء على أن «جهاد الطلب» -طلب الأعداء في بلادهم- شُرع من أجل منع الحيلولة دون الوصول برسالة الإسلام إلى الناس وتبليغها لهم، وأنه متى استطاع المسلمون الوصول إلى الناس ودعوتهم إلى الإسلام وشرح مبادئ دينهم في يسر دون أن يتعرضوا لأذى من أصحاب الأديان الأخرى، فقد سقط هذا الحق، وأشار العلماء إلى أن العصر الحديث يحمل من الوسائل الحديثة، فضلا عن الاتصال المباشر المأمون من: «إنترنت، وصحافة، وأجهزة إعلام مرئية ومسموعة»، ما يسمح للمسلمين بتوصيل دعوتهم إلى جميع بقاع الدنيا دون أن يتعرضوا لأذى، ولم يكتف العلماء بذلك، وإنما قرروا بأن أفضل الجهاد بعد جهاد النفس هو الجهاد بالكلمة، حيث خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- واصفا هذا الجهاد بالكبير عندمل قال جل وعلا: «وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا» أي بالقرآن، ولم يبق أمامنا سوى جهاد الدفع، وهو فرض عين على كل مسلم تتعرض بلاده ووطنه إلى اعتداء خارجى، بقصد احتلاله أو فرض إرادة مغايرة لإرادة الأمة عليه، وهذا لم يختلف فيه الفقهاء ولا آحاد المسلمين، شريطة تحقق شروطه، من توفر القدرة عليه، وعدم ارتداد سهامه إلى نحر المشروع الوطنى للأمة، والاستعداد له جيدا، وعدم الاعتماد على نوع أو وسيلة واحدة منه وهى رفع السلاح.. إلخ.
لقد حصر هؤلاء المخادعون جمهور المسلمين بين أمرين، إما أن نقاتل بالسيف والبندقية النصارى والأمريكان والأوربيين، ومن في الأرض جميعا ممن لا ينتمون إلى «الإسلام»، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإما أن نكون من الموالين لهم المستحقين لحكمهم بوصفنا قد أصبحنا منهم، مجموعة من الكفار.
هذه هي أهم الركائز التي اعتمد عليها أصحاب فكر التكفير من أبناء الإخوان والدواعش، فأين أزهرنا الشريف من هذه العقيدة «عقيدة الولاء والبراء»؟ وهل نسمع صوتا من عقلائهم يرد بالحكمة والرأى الراجح على تلك الأفكار؟
وللحديث بقية…