الإثنين 01 يوليو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

المعركة الوهمية ضد العلمانية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الحياة وفق المشهد الديني، أيّ دين، تتحول إلى لون من التأمل النظري الميتافيزيقي، في عالم غيبي لا ينبئنا بشيء بقدر ما هو شاشة بيضاء يضع المتأمل عليها تصوراته، كالناظر إلى تضاريس القمر فيرى عليه أرنبًا أو رجلًا أو وجه حبيبته، وهذا اللون من الحياة يميل إلى الكسل عن الفعل الجديد والتكاسل عن بذل أي جهد لأنه لا طائل وراءه، ما دامت كل الأمور مقدّرة سلفًا في المشيئة الإلهية. وهنا يلزم لظروف مصر اليوم، وفي زمن تجاوز في تطوره العلمي العالمي ما يجعله مفارقًا لزمن الغيوب، أن نتعلم كيف يكون المواطن علمانيًّا أي عالمًا وعارفًا بأن الحياة الأرضية بحاجة إلى أسئلة تناسبها، ويضع لها إجابات من ذات الواقع الحي ولا علاقة لهذه الأسئلة والإجابات بالدين، لأن أسئلة الدين وإجاباته خاصة بهذا الدين وحده وتحديدًا، واهتمامها يتعلق بعالم غائب يعرفه كل منا على طريقته، لكن كل طرائق المواطنين تلتقي عند العمل للدنيا بأدوات الدنيا، والعمل للآخرة بأدوات الآخرة، واستعداده لتحمل أعباء العمل المنتج، فالمواطن الديني يفكر بعقل غيره الذي مات ورمّ منذ قرون، أو بعقل غيره في العالم الغيبي، أو عقل رمزه الديني من دعاة وزعماء فرق وجماعات، أما العلماني فيفكر بعقله الإنساني البشري، لذلك لا يرى الحاكم أميرًا من الكُفر الخروج عليه من شعبه، بل هو يفضح الحاكم إذا أخطأ عبر الأحزاب والإعلام الحر، ويقوم القانون العلماني الوضعي بعزله، وقوانين العلمانية التي تم التوافق عليها تصلح قيمة معيارية لكل المختلفين حكامًا ومحكومين، والعلمانية ليس لها هيئة كهيئة رجال الدين لأنها مشترك المجتمع كله وهدفها البشر في المجتمع وضمان العدل والمساواة للجميع، ومن ثم لا تجد لها هيئة منتفعين يتاجرون بآلام الناس وفقرهم، وإن كان هذا لا ينفي وجود الفاسدين وبائعي الضمائر في ظل العلمانية، وهو شأن طبيعي في دنيانا، لكن العلمانية التي ترفض مبدأ الستر في الابتلاء لا تلبث بأدواتها أن تكشفه وتفضحه وتحاسبه.
ويبدو أن العلمانية قد شكلت صداعًا مؤلمًا للمنتفعين بالدين، فقاموا يكفّرون العلمانيين لأن العلمانية تساوي بين رجل الدين وأي مواطن آخر، لذلك يفتش دُعاتنا المسلمون في عيوب الدول العلمانية وعيونهم المحرومة النهمة لا ترى منهم سوى العُري والخمر واللهو وانهيار قيم الأخلاق.. إلخ، بينما الأحوج لنا هو التفتيش في عيوبنا لنتخلص منها، ويَصِمون العلمانيين بالكفر والإلحاد، بينما العلمانية لا ترفض الدين ولا المتدينين، فللمواطن كامل الحق في الإيمان بالله وبأن هذا الإله قد خلق قوانيننا في الفهم بما يتفق مع قوانين الطبيعة، وأعطانا عقلًا لنبحث عن هذه القوانين فنعرفها ونستثمرها في تيسير معاشنا، ويؤمن أن نجاحات البشر في اكتشاف هذه القوانين ما كانت لتحدث دون موافقة الرب وإرادته، وبجملة موجزة “,”العالم هو موضوع العلمانية والعلم وسيلتها ولا علاقة لها بالدين لأنه غيب لا يصلح للبحث والمعرفة“,”، والقوانين التي اكتشفها العلم العلماني هي من خلق الله وليست من خلق الشيطان، وموقفها من الدين يعطيه استقلاليته عن الحكومة والدولة وتحرره من سطوة الحاكم، وهي ذات يقين واحد يتفق حوله كل البشر على اختلافهم، فلا أحد يختلف على قوانين الفيزياء ولا الرياضيات ولا الكيمياء بينما الأديان يقينيات متصارعة ومذاهب متقاتلة حتى داخل الدين الواحد، أما العلمانية فتضع مشتركًا يقبله الجميع بانطلاقها من المساواة بين الجميع في وطن للجميع فهي صيغة تصالحية ولا يوجد نص ديني يكفّرها أو نبوءة دينية تحذّرنا منها.
والعداء السافر المعلن للعلمانية وتكفير أصحابها، لأن العلمانية تساوي بين جميع المؤمنين، ولا تجعل لأحدهم ميزة على الآخر فتعطيه حقوقًا أعلى من غيره بسبب دينه أو مذهبه أو مركزه الديني أو الطائفي، إنها تساوي أدعياء المشيخة مع غيرهم من آحاد الناس، بل وتُسلط عليهم مجهر المتابعة والفحص وتضعهم تحت عدسة النقد وترفع أيديهم عن عقول الناس، وكعلماني أتذكر جيدًا كيف كان رجال الدين مرنين مع كل شيء، إن أراد الحاكم عدلًا اجتماعيًّا جعلوا النبي أول الاشتراكيين وإن أراد اقتصادًا حرًّا طبقيًّا قالوا إن الله خلقنا درجات، وإن أراد حربًا حوّلوا الرب إلى زعيم مقاتلين يعطي أوامر القتال والتكتيف وطريقة الضرب للبنان والرقاب، وإن أراد سلمًا جاؤوا بآيات “,”وإن جنحوا للسلم فاجنح لها“,”. رأيتهم دائمي “,”التلون الحربائي“,” مع كل شيء، إلا حرية المواطنين وحقوقهم، وهو مناط اهتمام العلمانية الأساسي والأول.
وإذا كان التكفير للعلمانية مصدره الدين نفسه، وليس كما نزعم أن مصدره غضب رجال الدين لمصالحهم، فلماذا لا يأتوننا بنص ديني يكفّر العلمانية، بينما المواطن العلماني المسلم يعلم أن ربه كان عارفًا بيقين عن العلمانية، وأنها ستوجد على أرضه ذات يوم آت كطريقة تُيسِّر الحياة للعباد، ولم يتدخل فيها بقول ليتركنا نختار، ورغم كل الدعوات بكفر العلمانية فإن هؤلاء المكفرين تركوا بلاد الإسلام هربًا بجلودهم لينعموا بالسلام والحرية في البلاد العلمانية، ولم يحدث أن قضت العلمانية على أي دين أو ناصبته العداء في البلدان التي أخذت بها وطبقتها، فهل يرى الملتحون الرافضون لها أن الإسلام هو الأضعف من بين جميع الأديان حتى تقضي عليه العلمانية؟ أم أن المسألة تتعلق بمركز رجل الدين ووجاهته الاجتماعية ودخله المادي؟ وأنه يكره العلمانية لأنها تكشفه وتمنعه من استخدام الدين انتهازًا لمصلحته حتى لو دمرت مصلحته مصلحة المجموع والوطن، حتى لو تفكك الوطن، المهم الريالات والدنانير والعيش في البلهنية.
يصفونها بالإلحاد لأنهم لا يملكون قدراتها، ولا حيلة لديهم لمناقشة مبادئها وإلا سقطوا في جُب انعدام الأخلاق والإنسانية، ولأنهم فاسدون وفاشلون، لقد أتقنت العلمانية وظيفتها فخلقت الفاكسين والطعوم ضد الأمراض واختفت الأوبئة التي كانت تأكل البشرية كل موسم دون أن يستطيع دين واحد مقاومتها، بينما أهمل رجل الدين دينه وانشغل بالربح والوجاهة ففسد خلقه ومات ضميره وفشل سعيه، فلا هو وضع حقًّا من حقوق الإنسان ولا هو اخترع ما يفيد البشرية، ولا هو تارك الناجح يكمل مسيرته.
إن العلمانية لا تأخذ بمبدأ الستر ومداراة الأخطاء ولا تعمل بمبدأ “,”إذا بُليتم فاستتروا“,”، وتحارب من ستر مسلمًا أو مسيحيًّا أو بهائيًّا أو لا ديني كمشارك ومتواطئ على الجريمة، مبادئها الشرف والشفافية لتنظيف المجتمع والكل عندها في ذلك سواسية، ومن يرفض العلمانية عليه أن يتخلى عن مُنْتَجها علاجًا ومسكنًا ومواصلات واتصالات ورفاهية، عليه بالبغال والحمير والحمام الزاجل وبساط الريح السليماني، إن العلمانية لا تصنع مؤامرات وتثق بقدراتها فتترك كل مواطن يختار باب الجنة الذي يريده، ولن ترفع عليه قضية لتحبسه ولن تكفّره ولن تهدر دمه، ولم يحدث أن أرسلت رسائل تهديد للإخوان أو السلفيين، لأن من يهدد هو الناقص المعيب.