السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

محمد.. النبى المصرى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وقفت مصرية عجوز أمام قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاشعة خاضعة متبتلة، دموعها تبلل خديها، شق صمتها صوت واهن موجهة كلامها لصاحب القبر والمقام بعامية شفافة: أنت ليه ما نزلتش عندنا فى مصر. لم يكن لدى هذه السيدة العجوز وقت لتشرح فيه سبب سؤالها ورغبتها، قالت كلمتها ومضت، كاشفة عن حالة من الوجد تربط المصريين جميعا بالنبى محمد، وجد يتجاوز حدود المكان والزمان والجنسية، ويتخطى حدود الإرادة الإلهية التى اختارت مكة موطنا لنبيها، ولأننا لم ندرك الرسول، فقد أكرمنا آله. فعندما ضاقت الأرض بعترة النبي، قتلوا الحسن بالسم، وذبحوا الحسين ذبحا بلا رحمة، خرجت بقايا الرسول مولية وجهها شطر مصر، ففتحت لها أرض الطيبة ذراعيها، وحتى لو خرج علينا باحثون ليقولوا إن رأس الحسين ليس موجودا فى قبره بمسجده الذى تزدان القاهرة به، نرفضالبحث والمنطق والعلم، ونتمسك ببركة وجوده بيننا، حتى لو كان الوجود مجرد وهم.
 نحن فى مرآته الكريمة أصحاب ذمة ورحمات  كنا أهل جدته الكبرى السيدة هاجر وزوجته السيدة مارية وأخوال ولده إبراهيم  لن تجد شعبًا فى الأرض يحتفى بالنبى مثل المصريين ولن تجد شعبًا «غنى» للنبى مثلما غنينا «فالورد كان شوك من عرق النبى فتح»
تتمسك الذهنية المصرية بحالة التكريم الإلهى والنبوى لمصر، وأرضها وشعبها، فقد ورد ذكرها فى القرآن الكريم خمس مرات، واحتفى النبى بها وأوصى بأهلها خيرًا، فنحن فى مرآته الكريمة أصحاب ذمة ورحمات، كنا أهل جدته الكبرى السيدة هاجر عليها السلام، وأهل زوجته السيدة مارية القبطية، وأخوال ولده إبراهيم الذى لم يفرح به، الذى أطلق صرخته كمدا عليه: إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
لكن هذه الذهنية لم تكتف بحالة الحفاوة، فأصرت على أن تبحث عن وجود مادى للرسول على أرضها، وبالفعل هناك إشارات تاريخية، إلى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ زار مصر، بارك سيناء بزيارته وصلى فى دير سانت كاترين.
لا توجد دلائل قوية على هذه الزيارة، لكن هناك إشارات لها فقط تحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق. وقد وردت فى أكثر من مرجع تاريخي، وقد حاولت البحث وراء هذه الرواية لدى أساتذة التاريخ الإسلامى منذ سنوات، لكنى لم أجد توثيقا لها، لكنى ارتضيت بها، فمصر تمنح الجميع روحها وشرعيتها، وليس بعيدا أن تكون قدما الرسول الأكرم وطأتها، فهى أرض الأنبياء المخلصة، وليس كثيرا عليها أن يزورها الرسول الأعظم ليمنحها بركته، وليقف إلى جوار الأنبياء الذين نزلوها، إبراهيم عليه السلام ويوسف الذى سكنها وموسى الذى كلم الله من على جبالها، وعيسى الذى هربت به أمه إليها طالبة الحماية.
  أورثت حالة الوجد التى تربط بين النبى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين المصريين تراثا هائلا من المحبة والحفاوة، تراثا عبر عن المحبة يجعل يوم مولد النبى عيدا نحتفل به، ولأنه عيد بهجة فقد جعلنا «حلاوة المولد» رمزا مقدسا له.
وأعتقد أن أحد مشايخ السلفية الذى أفتى بأن حلاوة المولد ليست مرغوبة، وتمثل تجاوزا فى حق الرسول، لم يفهم جيدا علاقة المصريين الخاصة بالنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحدث بغلظة وجلافة عن طقس مميز، يعبر به المصريون عن فرحتهم بمولد نبيهم.
لو كان يعى كيف يحب المصريون نبيهم، لالتزم الصمت الذى هو فريضة عظمي، ولو كان يفهم رغبة المصريين فى الاحتفاء بنبيهم العظيم أعظم احتفاء لابتلع لسانه، لكن هذه مشكلة من يدعون وصلًا بالرسول، ويتمسحون بثوبه معتقدين أنهم يتحدثون باسمه، ونصبوا أنفسهم وكلاء عنه.
هذه الفتوى مردودة على صاحبها، قالها غيره كثيرون، تدخلت جهات رسمية أكثر من مرة، لمنع طقوس الاحتفال بمولد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن المصريين لم يمتنعوا ولم يتراجعوا، زادوا فى حفاوتهم، وواصلوا الاحتفال، متجاهلين تماما كل من يريد أن يعكر صفو العلاقة الشفافة الروحية الراقية والرائعة بينهم وبين النبي.
  
لن تجد شعبًا فى الأرض يحتفى بالنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلما يحتفى المصريون به، ولن تجد شعبًا غنى للنبى مثلما غنينا وتكفى الصورة الرائعة التى نسجها الخيال الشعرى حوله «فالورد كان شوك من عرق النبى فتح».. إلى هذه الدرجة يتعامل المصريون مع الرسول، على أنه من يحول الألم إلى بهجة، من يكسر حدة الشوك ويحولها إلى رائحة تمنح الحياة روحا وبريقا ورونقا.
ولن تجد صدقا مثل صدق المصريين فى طلب المدد من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم يعرفون جيدا حقيقة الدين الإسلامى الذى لا يضع بين الله وعباده واسطة.
ففى الفلسفة القرآنية تظهر حقيقة العلاقة، كل الآيات القرآنية التى تسجل الأسئلة، تبدأ الإجابة فيها بـ«قل».
ويسألونك عن الروح.. قل الروح من أمر ربي، ويسألونك عن الجبال، قل ينسفها ربى نسفا.. ويسألونك عن المحيض، قل هو أذي.
لكن عندما وصل السؤال إلى الله وذاته تغيرت، الله، أخرج الله رسوله من المعادلة «وإذا سألك عبادى عني فإنى قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعاني». لا يريد الله واسطة بينه وبين عباده، لكن المصريين لا يلتفتون إلى هذه الفلسفة، ويصرون أن يجعلوا الرسول بينهم وبين ربهم، طالبين منه العون والمدد، فهم يطلبون من الله ما يريدون دافعين بين يدى الطلب قولهم «وحياة حبيبك النبي».
  
لا أنكر أن كل الشعوب المسلمة تغضب إذا ما تم الاعتداء على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى فيلم أو مقال أو رسم كاريكاتيري، لكن المصريين هم الأشد غضبًا طوال الوقت، على استعداد فعليًا أن يضحوا بأنفسهم حتى لا يلمس أحد طرف النبي، يعتبرون الدفاع عنه قضيتهم الشخصية.
يمكن أن تجد مصريا غير ملتزم تماما، يأتى من الخطايا والذنوب ما لا يستطيع أحد حصره، لكنه فجأة يدافع عن النبي، ويخرج فى مظاهرة ليندد بما جرى له ومعه، فهو يعتبر حبه للنبى شفاعة ومنجاة له من النار، حتى لو لم يكن حافظا للآية الكريمة، «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله»، فهم يحبون النبى لذاته ولقناعتهم الكاملة أنه يستحق ذلك.
ولأن تجار الدين يعرفون جيدا أن الهجوم على النبى والإساءة إليه، هى مفتاح إغضاب المصريين، فإنهم يتهمون من يختلفون معهم، بأنهم يسيئون إلى الرسول، هذه الكلمة وحدها كفيلة بأن تشعل النار فى الجميع وتحول السكون إلى بركان هادر، وكم من معارك وهمية افتعلها هؤلاء الشيوخ بحجة أنهم يدافعون عن الرسول، وكم من ضحايا سقطوا لمجرد الإشارة إلى أنهم يسيئون إلى الرسول الأكرم، مع أن الإساءة للنبى الأعظم فى عُرف المصريين كبيرة من الكبائر، ولا يجرؤ أحد على أن يرتكبها.
الرسالة الواضحة التى يحملها المصريون لكل من يتاجر بالنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي: خلوا لكم بضاعتكم الفاسدة ودعونا نحب نبينا على طريقتنا الخاصة.
  
لقد أكرم الله نبيه، احتفى به، وأذكر وأنا أواصل حفظى للقرآن الكريم أن سألنى أحد المشايخ: يقولون إن القرآن فيه كل شيء، فأين تجد فى القرآن الكريم «المثل الشعبي»، «لأجل الورد ينسقى العليق»، لم أستطع الرد، فقال: ألم تقرأ قول الله عز وجل، «وما كان الله معذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون»، فمن أجل النبى فإن الله لم يعذب قومه.
لم أهتم كثيرًا بالرياضة القرآنية التى كان يمارسها هذا الشيخ، فكثيرا ما كنا نمارسها، لكنى توقفت عند هذا المعني، والذى كرره المصريون مرة أخرى مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فنحن نحب آله كرامة له، ونقدر صحابته، لأنهم جلسوا معه ودافعوا عنه، فمن أجل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمكننا أن نفعل كل وأى شيء.
والآن نقتحم القلب بسؤال واضح وصريح وهو: ماذا لو كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصريا، لن ألتفت كثيرا لما يقال عن التغيير الذى كان سيحدث فى بنية القرآن الكريم، وما سيحدث فى توصيف الجنة، فلو كان النبى مصريًا لما كان فى حاجة للحديث عن الأنهار والظلال الممتدة، ولكنى أتحدث عن الأثر الحضارى الذى كان سيضاف إلى الرسالة العظمي.
أقدر أن الإرادة الإلهية اختارت أرض مكة للرسالة الأخيرة، لأن تأثيرها سيكون أوضح، فحالة الجهالة والتخلف التى ألمت بها كانت فى حاجة إلى نبى، كى يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو إنجاز وحده جعل النبي الأمى على قمة البشرية، وهو ما لم يكن ليتوفر إذا نزلت الرسالة فى مصر، أرض الحضارة التى كانت ستمنح الرسالة روحا وبريقا لا تفتقده، لكنه كان سيزداد أكثر فأكثر.
لا نعترض على إرادة الله بالطبع، لكنها كانت ولا تزال وستستمر أمنية أن يخرج النبى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيننا، فالأرض التى جادت على البشرية بأنبياء التوحيد منذ فجر التاريخ، كانت ستزدان به أكثر ولا يمكن لأحد أن ينكر علينا رغبتنا أو يستكثرها، فاستمتعوا بحالة الوجد التى تربطكم بنبيكم، فهى الأبقى والأخلد، وهذا يكفينا جدًا.