يمكن أن نستوعب تماما ما جرى فى تسريب مقاطع صوتية من حوار ياسر رزق مع السيسى، لكن لا يمكننا بأى حال من الأحوال أن نستوعب تسريبات لحوارات جرت فى مكتب وزير الدفاع.. وتسريبات أخرى للقاءات يتحدث فيها السيسى مع رجاله داخل قاعات القوات المسلحة.
التسريب الأول الذى حاول الإخوان اصطياد السيسى منه فى أكثر من موضع يتحمل مسئوليته ياسر رزق كاملا، يمكن أن نقبل اتهام بعضٍ ممن حوله بالخيانة والتورط فى التعاون مع جماعة الإخوان لفضح السيسى ورجاله، ويمكن أن نقبل حالة الاستخفاف الشديدة التى تم التعامل بها مع الحوار الأول الذى أجراه السيسى بعد «٣٠ يونيو»، والذى يمكن اعتباره التقديم الأهم والأكبر للسيسى، فقد تحدث فيه عن حياته وأفكاره وعائلته وأشار إلى طموحه السياسى.
كان ياسر رزق وقتها رئيسا لتحرير «المصرى اليوم»، تربطه علاقة قوية بالسيسى، فهو محرر عسكرى منذ سنوات طويلة، يعرف المؤسسة العسكرية جيدا، ويعرفه رجالها جيدا، كانت هذه العلاقة التى أورقت بينهما ثقة هى الدافع لأن يتحدث السيسى إلى جريدة خاصة، ويرجئ طلبات صحف حكومية أراد رؤساء تحريرها إجراء حوارات معه.
ترك ياسر رزق الحوار فى يد ٦ من المحررين يقومون على تفريغه، أحد مسئولى الجريدة حصل على نسخة من الحوار على كارت ذاكرة «فلاشة» بحجة أنه يريد أن يسمعه، ولذلك تفرق تسريب الحوار بين القبائل! تم اتهام المسئول بالجريدة الذى كان مقربا من ياسر جدا بأنه حصل على ٨٠٠ ألف جنيه مقابل بيع التسجيل لـ«الجزيرة»، لكنه لم يثبت، ولم يكن أمام إدارة الجريدة إلا الاستغناء من المتهم، وقامت جهة سيادية بالتحقيق مع المحررين الستة، وفتشت أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، لكن لم يصل التحقيق إلى شىء.
ما جرى كان فضيحة مدوية بالفعل، لكن حدتها خفّت -فيما أعتقد- على هامش الرغبة فى عدم منح جماعة الإخوان فرصة التشهير بالنظام، خصوصا أن «الجزيرة» حاولت أن تنسب للسيسى ما لم يقله.
حدث هذا تحديدا فى المقطع الخاص بحمدين صباحى، إذ قام أحد المتعاونين مع قناة «الجزيرة» بتسريب معلومة عبر صفحته على «فيسبوك» بأن السيسى قال إن حمدين طلب الجلوس مع السيسى، لكنه رفض وقال: أنا أقعد مع الخمورجى ده.
ظلت المعلومة متداوَلة لما يقرب من ٢٤ ساعة وأصبح راسخا لدى الجميع أن السيسى خاض فى سيرة حمدين صباحى بما لا يليق، وعندما تمت إذاعة المقطع المقصود وجدنا السيسى يتحدث بمنتهى الاحترام عن حمدين، بل ويسبق اسمه بالأستاذ، لكن الأثر الذى أراده الإخوان حدث.. وأصبح المقطع مجرد تحصيل حاصل.
كان من المفروض أن يتم التحقيق فى تسريبات حوار «المصرى اليوم» مع السيسى وأن تعلن نتائجه بشفافية مطلقة. لكن شيئا من هذا لم يحدث، وربما يكون ما حدث مع التسريب الأول من إهمال وتجاهل هو ما أغرى ذئاب الإخوان لنشر تسجيلات أخرى.
بعد تسريب حوار السيسى بدأت لعبة التسريبات تدخل مرحلة جديدة وبدأت الفيديوهات التى يتحدث فيها السيسى مع رجاله فى الجيش تحظى بأعلى نسب مشاهدة.
عكست التسجيلات الجديدة جانبا من شخصية السيسى، فهو حازم يتحدث مع رجاله بقوة، يتحدث عن الاستهلاك الترفى للمحمول، يقول إنه لكى تحصل على خدمة لابد أن تدفع ثمنها، وأشار إلى أنه لن يعطى أحدا دون أن يعمل، وعندما طلب منه أحد الضباط أن يقف وقفة حازمة مع الإعلام، فليس معقولا أن يقول الإعلام ما يريده، أوضح السيسى أن البلد تغير بعد «٢٥ يناير» ولابد أن يستوعب الجميع هذا التغيير.
أخذ أتباع الإخوان من هذه التسجيلات جملة واحدة قالها السيسى عن المتحدث العسكرى أحمد على، عندما قال إنه جاذب للستات، وقارنوا بين ما قاله وما كان يقوله مرسى من ضرورة الحفاظ على النساء، فى إيماء إلى أن السيسى يتساهل فى الأمر، رغم أن هذا يخالف الحقيقة تماما، فالسيسى رجل محافظ والمعايير الأخلاقية عنده تأتى فى المرتبة الأولى.
كان السؤال الأهم هو: كيف خرجت هذه التسجيلات لتصبح فى حوزة شبكة «رصد» الإخوانية؟ وكانت الإجابة الأقرب إلى المنطق هى أن جماعة الإخوان خلال السنة التى حكم فيها محمد مرسى ومن خلال جهاز مخابراتها استطاعت أن تخترق كل شىء فى مصر، وأنها وصلت إلى المؤسسة العسكرية، واستطاعت أن تسجل لقاءات السيسى مع قادة القوات المسلحة، وهو ما أشار إليه خيرت الشاطر عندما قال بعد مذبحة الاتحادية، إنهم رصدوا تسجيلات تفضح مؤامرة على الرئيس محمد مرسى، وقد سلمنا بهذا التفسير.. لأننا لم نجد تفسيرا آخر، ولم تخرج علينا أى جهة رسمية لتقول لنا كلاما آخر.. لنصدقه ونتعامل معه على أنه الحقيقة.
كان هناك تفسير آخر قد يبدو أكثر منطقية.. وهو أن جهات سيادية هى التى قامت بتسريب فيديوهات السيسى للرد على التسريبات الأولى، خاصة أن حديث وزير الدفاع يصب فى مصلحته، ويرسم له صورة مختلفة تكشف جوانب جديدة من شخصيته.
التسريبات حتى هذه المرحلة لم تكن قد دخلت فى مرحلة الجد.
الجد حدث عندما قامت قناة «الشرق» الإخوانية التى تبث من تركيا بإذاعة تسجيلات تؤكد اختراق مكتب وزير الدفاع عبدالفتاح السيسى، فقد ظهر فيها صوت مدير مكتبه اللواء عباس كامل.
التسجيل الأول كان يخص مسألة احتجاز محمد مرسى بعد ٣ يوليو، حيث طلب اللواء ممدوح شاهين ضرورة تعيين ملامح المكان المحجوز فيه مرسى، حيث احتجز فى قاعدة عسكرية رغم أنه المفروض قانونا أن يكون فى مكان تابع لوزارة الداخلية.
التسجيل الثانى خاص بمقتل سجناء عربة الترحيلات المعروفة إعلاميا بـ«سيارة ترحيلات أبوزعبل»، ودار الحديث حول التحقيقات الخاصة بالقضية، وتم الوعد بالاتصال بالقاضى.
التسجيل الثالث يخص الكاتب محمد حسنين هيكل، حيث طلب من عباس كامل التدخل لرفع اسم ابنه حسن من قوائم ترقب الوصول، حيث خرج من مصر وهو يحاكَم فى قضية التلاعب فى البورصة، واتهم معه فيها جمال وعلاء مبارك وياسر الملوانى.
قبل التعامل مع هذه التسجيلات بالرصد والتحليل لابد أن ننتبه إلى تسريب آخر خاص بأحد القضاه حيث اهتمت مواقع الإخوان بصفحة أحد القضاة بما يطعن فى موقفه السياسى، ثم سربت هذه الصفحات صورا تخص من قالوا إنه نائب لرئيس مجلس الدولة، وهى صور تطعن فى سلوكه الشخصى.
وإذا قمنا بمد الخط على استقامته سنجد أن هذه التسجيلات والتسريبات لا تطعن فى النظام بقدر ما تطعن فى منظومة القضاء، ويسعى من قاموا بنشرها وبشكل واضح للتشكيك فى القضاة والتحريض عليهم، وهو ما يدعو إلى الخروج على القضاة والطعن فى أحكامهم وعدم احترامها.
ورغم أن الهدف واضح بالنسبة لى من هذه التسريبات فإننى أضع بعض الملاحظات التى أعتقد أنها مهمة على هامشها.
أولا: طبيعة ما جرى فى هذه المكالمات - هذا لو افترضنا صحتها بالكامل وأنه لم يتم التدخل فيها إلكترونيًّا - لا يطعن فى النظام على الإطلاق، فقد تمت على خلفية ثورة أطاحت بنظام كان يرغب فى بيع البلد كله ومصادرته لمصلحته الخاصة، ولابد أن تكون هناك إجراءات استثنائية، ولا أحد يمكنه أن يطعن فى هذه الإجراءات قانونيًّا، خاصة أنه كانت هناك حالة من الارتباك القانونى سيطرت على الجميع.
ثم إنه -وهذا هو المهم- لا يستطيع مَن يدافعون عن الإخوان أن يتحدثوا عن مخالفة القانون، فقد كانت الجماعة أول من خالف القانون، بداية من إصدار قانون العزل السياسى لاستبعاد عمر سليمان تحديدا من الانتخابات الرئاسية، ونهاية بكتابة بلاغات ضد رجال نظام مبارك بأيديهم ثم إجبار ضباط مباحث الأموال العامة على كتابة تقارير تخدم هذه البلاغات، من أجل ابتزاز رجال الأعمال والحصول على ثرواتهم، ولذلك فالحديث عن التلاعب باسم القانون غير مقبول من الأساس.
ثانيا: رغم أن التسجيلات مزعجة بالفعل، فإن رد الفعل عليها كان عاديا جدا، فلم يتفاعل معها الشارع المصرى، وذلك لأن الثقة معدومة فى جماعة الإخوان، وفى كل ما يفعلونه، فالرأى العام المصرى يحمل كل ما تقوم به جماعة الإخوان وأتباعها وحلفاؤها على الكذب والتزوير والتلفيق، ولذلك ضاع أى أثر لها، ولم ينفعل بها إلا من يصدقون الجماعة وهم قليلون.
ثالثا: كان للتسجيلات أثر سيئ جدا، لا أقول إنها أفقدت الرأى العام الثقة فى رموز النظام الذين لا يستطيعون السيطرة على أسرارهم، ولكنها جعلتنا نقف أمام سؤال مهم وهو: كيف تم الاختراق؟ وهل من السهل أن تحصل أى جهة على تسجيلات مهمة وخطيرة لحوارات تدور فى مكتب وزير الدفاع؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يأمن الناس العاديون على أسرارهم؟ وبالطبع لم نجد إجابة منطقية أو حتى غير منطقية عن هذا السؤال المرتبك.
رابعا: ستظل قضية التسريبات غامضة، لأن كل الأطراف المشتركة فيها تلتزم الصمت، ويكتفى بعضها بتجريس بعض، وهو ما يعنى أن الحرب ستظل مفتوحة، لأنه لا أحد يريد أن يحقق أو يتحقق، ولذلك فنحن أمام جولات لن تنتهى، أثق أن الدولة لن تهتز، لكنها تتأثر فى النهاية، والجماعات الإرهابية لن تنتصر، لكنها تحقق مكاسب تتنفس من خلالها لتؤكد للجميع أنها لاتزال موجودة.
لا يمكن أن نستوعب تسريب حوارات جرت فى مكتب وزير الدفاع وأخرى بين «السيسى ورجاله» حوار ياسر رزق.. كان مفترضًا أن يجري تحقيقاً فى التسريب وتعلن نتائجه بشفافية لكن شيئاً من هذا لم يحدث «تسريب الإعلام».. هناك تفسير يقول إن جهات سيادية تقف وراءه رداً على حوار «المصرى اليوم» تسريبات «مرسى - أبوزعبل» استهدفت الطعن فى القضاء لكن إذا افترضنا صحتها فإنها «طبيعية» فالثورة تحتاج إجراءات استثنائية