الدكتور بشير نافع هو أستاذ كبير للتاريخ فى جامعة أكسفورد ببريطانيا، وأحد الملفات التى تحتل ورناً وأرجحية هائلين فى اهتمامات هذا الرجل هو ذلك المتعلق بأوضاع السُنة فى العراق، فإذا أدركنا أن كل أوضاع السُنة سواء كانت السياسية أو التصويتية أوما يرتبط بالعلاقات الإقليمية والدولية تعتبر بمثابة نتيجة أو رد فعل (التعداد) أو لوزنهم السكانى(الديموغرافى).
وقد كتب الدكتور بشير نافع (أياً كانت ارتباطاته السياسية أو التنظيمية)عدداً من البحوث والأوراق والكتب التى تؤكد - جميعا - أن هناك تزويراً ممنهجاً وطويل المدى فيما يتعلق بأرقام أعداد سُنة العراق، وأن أحداً لا يستطيع إثبات صدق الادعاء بأن أعداد السُنة أقل من الشيعة فى بلاد الرافدين، وقد استعرض بشير نافع فى عدد من مؤلفاته تاريخ عمليات إنقاص أعداد السنة فى الإحصائيات والاستطلاعات المختلفة منذ الاحتلال البريطانى فى العراق فى مطلع القرن الماضى، وحتى غزو ٣٠٠٢.
كلام الدكتور بشير - الذى التقيته أكثر من مرة - يشير إلى أن التصعيد التعسفى لأعداد الشيعة العراقيين فى الاستطلاعات والإحصاءات كان جزءاً من مخطط يتكرر من أجل طمس عروبة، العراق، وجعل ارتباطه القومى أقل حضوراً من ارتباطه الفارسى أو الإيرانى.
وحين بدأ الاحتلال الأمريكى تنفيذ خطته بإعداد العراق للتقسيم عن طريق دستور يقوم على (المحاصصة) وقبله مجلس انتقالى ينبنى على نفس الفكرة بدا واضحاً أن اللعب (الديموغرافى) فى العراق يستهدف إظهار أعداد السُنة بوصفها أقل وبما سيرتب لهم حقوقاً قليلة فى كعكة العراق السياسية.. وسرعان ما ظهرت نتيجة أخرى لتلك الأوضاع تتمثل فى تلك الإجراءات العنصرية / المذهبية التى تسببت فيها سيطرة الشُيعة على الجهاز التنفيذى، إذ قامت الحكومة الشيعية برئاسة نورى المالكى بمجموعة من الإجراءات التمييزية تصل إلى مشارف أو عتبات التطهير العرقى أو المذهبى ضد السنة، وقد شمل ذلك إبعادهم عن الوظائف الحاكمة فى الجيش والشرطة والإدارات الحكومية، فضلاً عن اعتقالات واسعة فى صفوف السنُة، وعمليات متناقضة بتسليح الصحوات والعشائر واستخدامهم فى ضرب عناصر القاعدة، ثم العمل على ضرب تلك العشائر بعدما أتمت مهمتها.
الآن - وفى ظل المواجهة مع تنظيم داعش الإرهابى - تتأخر السلطة التنفيذية العراقية (حتى بعد إبعاد المالكى وتعيين حيدر العبادي) عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والسيادية وبالطريقة التى تعالج اختلال بنيتها نتيجة تغليب الشيعة على السنة فى تشكيلاتها وقيادتها، ومن جهة أخرى فإن القوات النظامية عمدت إلى التمهل والتلكؤ فى نجدة بعض المناطق السنية مثل ديالى والأنبار، والتى تواصلت صرخات استغاثاتها تطلب إمدادات بالسلاح، فى حين كانت بغداد تجيبها بأن العتاد موجود فى المطار وإذا أردتم تعالوا وانقلوه لأننا لا نملك وسيلة لنقله، وبالطبع كانت النتيجة مذابح مخيفة لأفراد عشيرتى (البونمر) و(البوفهد) سقط فيها المئات من المدنيين، (وذلك - طبعا - قبل وصول وحدات الجيش والحشد الشعبى إلى مطارات الأنبار وقبل سفر زعماء العشائر لمفاوضات مع واشنطن).
وحين تريد سلطة بغداد مواجهة داعش، فإن ذلك يكون بواسطة قوات الحشد الشعبى والميليشيات الشيعية مثل عصائب أهل الحق وجيش المهدى والدعوة وغيرها، وبما يؤدى إلى إقرار أوضاع على الأرض هى - فى التحليل النهائى - لصالح الشيعة وعلى حساب الخريطة السكانية أو الديموغرافية للسنة، بعبارة أخرى فإن التقسيم صار حتمية سياسية ومزاجية ونفسية فى العراق، ومن هنا فإن الحكومة العراقية صارت تعمل لتحقيق أوضاع شيعية أفضل إذا ما جرى ذلك التقسيم، يعنى ينتزع الشيعة أراضي أكبر ويتوغلون فى مناطق السنة باسم مواجهة داعش ليتحصلوا وجوداً فى تلك المناطق يؤسس لأوضاع يصعب - كثيراً - تغييرها بعد ذلك.
والحقيقة أن هناك من يعترض داخل جهاز الحكم التنفيذى فى العراق مثل نائب رئيس الوزراء صالح المطلك (سُنى) على تلك الأوضاع، ولكن اعتراضاته لا تفضى إلى تغيير يذكر، وإنما هى تنصرف إلى التنبيه لخطورة الوضع واحتمالية أن يؤدى إلى إشعال حرب أهلية فى البلد.
المبدأ الغريب الذى صار يحكم العمليات فى العراق هو أن القوة المحلية التى تقوم بتحرير قطعة من الأرض يصبح لها حق فيها، وهنا تزيد مرارات السنة وعلى نحو ربما كان أحد أبرز تجلياته عند بدء المواجهة مع داعش، ذلك الشكل السلبى الذى تعاملوا به مع الانتشار العنكبوتى للتنظيم الإرهابى، وأدى إلى سقوط مناطق واسعة بين أيادى مقاتليه المتوحشين.
وأذكر أننى التقيت قبل الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة مجموعة من قيادات كتلة (متحدون) السُنية فى أحد مراكز البحوث التابعة لجهة سيادية وحاضرتهم حول التسويق السياسى وتقنيات الحملات الانتخابية، وأتاح لى وجودى بينهم لأيام، والفترات الفاصلة بين المحاضرات أن أتجاذب معهم أحاديث مفيدة ومثيرة حول محنة السُنة فى العراق وما يتعرضون له من اضطهاد منظم.. وقد قال لى أحدهم (ويعمل طبيباً) إن أسباب كل ذلك الاضطراب الذى يزيد من عدم استقرار بيئة سياسية غير مستقرة فى الأصل والأساس، هو التزوير المتعمد لأعداد السُنة ومحاولة إظهارهم بأنهم أقلية ليس لها سوى حقوق الأقليات إن تحصلتها.
وتردنى تلك المقولة إلى دراسات الدكتور بشير نافع التى تتحدث عن نفس الفكرة وترى أن مصير العراق هو إلى التقسيم وإلى تلاشى عروبته ما لم يتم إحصاء دقيق موضوعى ومحايد لعدد سكان كل فصيل أو عرق أو مذهب أو ملة من تلك التى تعيش بين ظهرانيه.