الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"في دماغي"..!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جاء الفتى الصعيدى إلى الثغر طلبّا للرزق فى أوائل الستينات وبواسطة أولاد عمومته، عرفت أقدامه أبواب المينا.. وبدأ يومه الأول عامل "ظهورات" وكل عدته "شوال" من الخيش يضعه على كتفه أثناء تحميل البضائع على عربات النقل بعد التفتيش.
ولأنه "شيال" مستجد كان كثيرّا ما يخطئ فى اتباع قواعد "الشيالة" الصحيحة وفقّا لنصائح القدامى وتعرض بسبب ذلك لأوجاع شديدة كانت توقفه عن العمل فى اليوم التالي، لكن إرادة أبناء الصعيد والخوف من سخرية أولاد العم جعلت "المستجد" يعانى آلامه ويقف فى أول طابور "الظهورات" فى اليوم التالي.
وقبل الغروب جلس مع أقاربه يتناول وجبة الغذاء مع الجبنة القديمة والخبز الناشف.
توقف عن شرب الشاى الثقيل عندما ظهرت أمام عينيه سفينة ضخمة تتبختر على صفحة المياه الزرقاء.. وسرح "الفتى" بخياله وتمنى أن يملك يومّا ما ولو "صندل" صغير لنقل البضائع.
عندما حكى حلمه لأولاد العم لم يسلم من لسانهم عدا الذي نظر إليه باهتمام وقال كل شيء بأمر الله..
كانت المينا وقتها "حديد فى حديد" وهو مصطلح أطلقه كبار التجار تعبيرّا عن عدم رضاهم عن تلك السفن التى تحمل المعدات الثقيلة والآلات.. لم تكن مصر قد عرفت بعد سنوات الانفتاح والسفن التى تحمل عجين البيتزا والهمبورجر وزجاجات "السفن أب".
فى اليوم الثالت للفتى الصعيدى طردت سلطات الميناء مقاول الأنفار.. واضطر صاحبنا للجلوس فى بيت أقاربه.. وفى المساء حضر إليه صاحب مقولة "كل شيء بأمر الله"، وقال له "سيبك من شغل الشقا فى الشيالة وتعال معايا فى شغلة تأكلك الشهد.. وتحول الفتى الصعيدى من شيال إلى مهرب.
وتبدأ رحلة المليون بالقبض على صاحبنا الصعيدى فى نوفمبر 1962، لدخوله المينا بدون تصريح لكنه لا يستسلم.. وبعد سنتين تضبطه سلطات المينا أثناء تهريبه عشر كراتين سجائر.. ولا يتوقف الفتى عن الحلم بامتلاك "الصندل" وينقل نشاطه من السجائر إلى المخدارت.. وترصده عيون ظباط المكافحة ويتحول اسم الفتى إلى رقم 1820 فى ملفات مكتب المخدرات.
كانت مصر تنزف دمّا بعد هزيمة يونيو 67، وكان صاحبنا ينقل السموم إلى كل مكان.. لم ترمش له عين وكان يؤكد أنه يخدم البلد.
ويرحل عبد الناصر ويأتى السادات وتأتى معه سنوات "الشهد" لصاحبنا الصعيدى ويطلب رئيس الجمهورية فى خطاب علنى أن تخرج الفلوس من تحت "البلاطة" ويلبى صاحبنا النداء وتخرج أرباح المخدرات وتغسلها الحكومة فى دفاترها تحت اسم شركات متنوعة ترتبط بأعمال الموانئ ويمتلك الفتى "الصندل" ويذهب إلى مكة حاملّا اللقب.. الحاج أوى.
وفى أواسط التسعينات كانت ضربة الحظ الكبرى.. اشتعلت النيران فجأة فى الأخشاب على الأرصفة.. وتحولت الميناء إلى كتلة حمراء وسادت الفوضى على الأبواب.. فى زحمة عربات الإطفاء والسيارات المشتعلة خرجت "تريلا " تحمل أطنانّا من السموم.
ويتحول الحاج إلى شهبندر للتجار ويلتهم بعد قليل أرصفة الميناء ويلتقى بكبار رجال الدولة.. وينال كرسى البرلمان ويصبح من أقطاب حزب الحكومة وفى غمضة عين، يغير الله من حال إلى حال.
يومّا ما قال له رئيس الجمهورية وصفق له النائب "خلى بالك من إسكندرية" عندها ترشح للبرلمان، وعندما سأله الجمهور فى مؤتمر انتخابى "مافيش دورة مياه فى المينا"، نظر إلى منظم المؤتمر بغضب، وقال المشخخة فى دماغى.
والآن هل يعود أبناؤه بعد أن تحول إلى غول فى أوروبا وشارى نص خشبها؟
كل سنة وأنتم طيبين.