شواطئ .. السياسة المصرية والتوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط (1)
يتمثل الهدف الرئيس للتوازن الإستراتيجي في ترسيخ حالة من الاستقرار والسلام بين الوحدات السياسية في النظام الدولي وفي الأنظمة الإقليمية، وتقييم السياسة الخارجية لأية دولة بمحصلة تفاعلاتها مع القضايا والأزمات وملفات الأمن والسلم الدولي والإقليمي، ومن ثم فالسياسة الخارجية للدول هي التي تؤسس لمواقع هذه الدول في خريطة التوازنات الاستراتيجية في النسق الدولي أو الإقليمي.
والمتأمل لمفهوم التوازن الاستراتيجي يدرك أنه مفهوم جامع لمفهومي "التوازن"، و"الاستراتيجية"، ويرتبط مفهوم "التوازن" في العلاقات الدولية بحالة تعادل نسبي بين القدرات الشاملة للدول طرفي معادلة التوازن، ويرتبط مفهوم "الاستراتيجية" القومية أو الشاملة للدولة بالاستخدام الأمثل لهذه القدرات في إطار تفاعلاتها السياسية، ومن ثم يتشكل واقع "التوازن الاستراتيجي" في النسق الدولي أو الأنساق الإقليمية من محصلة تفاعل القوة الشاملة للدول الفاعلة في هذا النسق وما حققه هذا التفاعل من نفوذ ومكانة دولية وإقليمية للدول الأطراف في معادلة هذا التوازن، وارتباطا بموقف القوى العظمى والكبرى وباقي دول النسق وتفاعلاتها مع أطراف هذه المعادلة.
ينظر إلى السياسة الخارجية على أنها محصلة للتفاعلات والنشاط الخارجي للدولة وتعكس سلوكها وإرادتها الوطنية في بيئتها الخارجية لتحقيق الهدف السياسي الاستراتيجي، وتعد مسألة توازنات القوى والتوازنات الاستراتيجية من الأمور المهمة والحيوية في دراسة العلاقات الدولية، وقد تأسست مدارس فكرية ونظريات سياسية منذ عقود طويلة على مفاهيم هذه التوازنات واعتبرها العديد من المفكرين والسياسيين من الركائز الأساسية التي تبنى عليها السياسات الخارجية للدول وهيكلية النظام الدولي والنظم الإقليمية. من هنا تأتي أهمية كتاب "السياسة المصرية والتوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط" للباحث في العلاقات الدولية والمحلل الاستراتيجي البارز لواء دكتور أحمد يوسف عبد النبي والصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وتستمد هذه الدراسة أهميتها من منطلق الدور المؤثر الذي يمكن أن تلعبه السياسة الخارجية المصرية في تشكيل واقع التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط في ظل حالة الضعف في النظام العربي، والصراعات التنافسية للقوى الإقليمية، وتدخلات القوى الدولية لفرض تحالفات مع القوى الفاعلة في المنطقة لتحديد أطراف هذا التوازن، بالإضافة إلى حقيقة استراتيجية مهمة، وهي أن التوازن الاستراتيجي والمبني على تبادل المصالح هو الركيزة الأساسية لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وصياغة علاقات إقليمية تحقق المصالح الحيوية والأهداف القومية للأطراف الإقليمية والدولية.
لقد تبوأت السياسة الخارجية المصرية مكانًا بارزًا بتوجهاتها حيال قضايا وملفات الأمن والسلم والدولي والإقليمي والعربي في ظل التحولات التي شهدتها البيئة الدولية والإقليمية وفي المحيط العربي، وتأثرت بها وأثرت فيها بنسب متفاوتة ارتباطا بتاريخ الدولة المصرية ومكانتها العربية والإقليمية والدولية وتماسها مع معظم القضايا والأزمات والصراعات في الشرق الأوسط.
يمثل عام 1990 وبداية عقد التسعينيات من القرن العشرين إحدى ركائز التحول في بنية وهيكل النظام الدولي، وهو ما يستدل عليه بسقوط حائط برلين 1990، وتصفية الهيكل العسكري والسياسي لحلف وارسو مارس 1991، وانهيار الاتحاد السوفيتي ديسمبر 1991، وتحول "الجماعة الأوروبية" إلى "الاتحاد الأوروبي" بموجب معاهدة "ماستر يخت" ديسمبر 1991، ويمكننا القول إن هذا العام مثل على الصعيد الدولي نهايات "للحرب الباردة"، و"للكتلة الشرقية"، و"للاتحاد السوفيتي"، و"للقطبية الثنائية"، مثلت هذه النهايات تفاعلات جوهرية في البيئة الدولية غيرت نتائجها اللاحقة الكثير من ملامح وخصائص النظام الدولي.
ولعل أبرز التحولات المؤسسة لشكل وطبيعة النظام العالمي، هي القطبية الأحادية للنظام العالمي والتعدد الدولي الجنيني، فالولايات المتحدة الأمريكية، تعتبر نفسها القوة العظمى الوحيدة التي تستطيع أن تسيطر على القرارات العالمية، وتوجهت في سياساتها نحو فرض هيمنتها على العالم طبقا لاستراتيجياتها من أجل تحقيق مصالحها الحيوية، واستندت في ذلك إلى التواجد العسكري الأمريكي في معظم المناطق المهمة، وفي بؤر الصراع الإقليمي، ومن خلال شبكة علاقات استراتيجية وتحالفية واتفاقات أمنية مع التكتلات الدولية، والدول الفاعلة في الأنساق الدولية والإقليمية، إلا أن هناك تحديات لهذه القطبية الأحادية من القوى الصاعدة في النظام العالمي، ويرى الدكتور أحمد يوسف أحمد أن النظام العالمي يمر بمرحلة "التعدد الدولي الجنيني"، ويؤكد ذلك التحول في مراكز القوى الدولية.
وللحديث بقية.