نحن والمصطلحات (1)
المصطلح هو أساس المفهوم والإدراك؛ ولهذا يحاول خصوم العقل والفهم المستقيم للأمور التلاعب بالمصطلح فهمًا وعملاً؛ لتقتاده بعيدًا عن منطقة الضوء، كي يستقر الظلام في عقول الكثيرين.
· العقل : أشاع الكثير ممن أسموا أنفسهم فلاسفة، وعلى امتداد أجيال متعاقبة، فكرة أن العقل هو النفس، وأن النفس أمارة بالسوء؛ ومن ثم فإن الإسراف في استخدام العقل قد يقود صاحبه إلى الخروج من الملة، ناسين أن الإنسان المصري البسيط استخرج من الفهم الصحيح للدين عبارة تلازمنا ونرددها دون التوقف أمام معناها: “,”ربنا عرفوه بالقعل“,”.
العقل هو حالة من الإدراك أو الاتهام الذي يُظل النفس البشرية بمعرفة ما يتداخل فيها من عوامل أخرى ليست متجسدة مثل الضمير أو المصلحة؛ ولأن المصلحة التي سادت والتي تسود لدى الكثيرين هي مجاراة الحكام فيما يفعلون، فإن ثمار العقل تأتي سلبية في كثير من الأحيان، وتكون -حسب كم ما بها من مهارة- قادرة على طمس الحقيقة وإلباسها ثياب الخطأ، وهو ما أفزع منذ وقت مبكر أبا ذر الغفاري، الذي فزع من فعل الاتجار بالشريعة وتفسيرها، بتفصيلها على مقاس المصلحة، فقال: “,”والله حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني أرى حقًّا يُطفأ، وباطلاً يحيا، وصدقًا مكذبًا، وكذبًا مصدقًا، وأثرة بغير تقى“,”.
ولعل أكثر من توقف أمام العقل، وراوغ به وبفهمه، الإمام الغزالي، الذي سجل سيرته مع العقل في كتابه الشهير “,”المنقذ من الضلال“,”، وتحدث طويلاً عن محاولته فهم مكنون العقل النفسي والروحي، وتشكك في قيمة العقل ذاته، منتهيًا إلى أن “,”الحقيقة موجودة فقط عند السادة الصوفيين“,”، ونعرف أن الصوفيين ينسجون فهمًا روحيًّا لا علاقة له بالواقع. وقد كرس الغزالي كثيرًا من جهده الفكري في محاولة مواجهة التأثيرات الأفلاطونية واليونانية على الفكر الإسلامي، رافضًا كل من يحاول أن يلبس العقيدة الإسلامية ثوبًا عقليًّا. وحاول الغزالي البحث عما أسماه “,”العلم اليقيني“,”، مؤكدًا أن العقل البشري لا يمكنه إدراك حقائق الإيمان، أي الأوامر والنواهي الإلهية، وقضايا التوحيد والبعث والثواب والعقاب، بالدلائل الأولية والعلوم المكتسبة، إلا إذا أضيفت إليه أنوار علوية: “,”فاكتشاف العلوم للعقل يأتي كنور الشمس، وهو إلهام يحمله أحد الملائكة“,”، “,”فجبريل هو الذي يوصل المعرفة إلى عقولنا، فكل معرفة تأتي إلى العقل تأتيه عبر ملاك إن كان الداعي خيرًا، فإن كان شرًا يأتيه عبر الشيطان“,”.
ويقول الغزالي في كتابه “,”إلجام العوام عن علم الكلام“,” إن الوجود كله ينقسم إلى ثلاث عوالم: عالم الملكوت، وهو علم الحقائق الأزلية التي لا تُدرَك إلا بالحدس الصوفي، وعالم الجبروت، وهو لا يُدرَك أيضًا إلا بالحدس الصوفي، وعالم المُلك ويُدرَك بالحواس. وهكذا فإن العقل عنده لا يدرك شيئًا من العوالم المكونة للوجود. وإذا كان العقل يسعى إلى المعرفة والعلم، فإن العلم “,”لا يدركه ولا يسعى إليه إلا الأفاضل الذين يستقون العلم من معلم معصوم“,”، دون أن يوضح لنا من يكون المعلم المعصوم وما هي مواصفاته. ويمضي الغزالي: “,”أما العوام فلا مكان لهم في مسألة العقل والعلم“,”.
وفي كتابه “,”رسالة أيها الولد“,” نقرأ: “,”أيها الولد، أي شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلام والنحو والتصريف غير تضييع العمر؟! أيها الولد لقد علمت أنك لا تحتاج إلى تكثير العلم، والآن أبين لك ما يجب على سالك سبيل الحق، فاعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرب ليخرِج الأخلاق السيئة منه ويجعل مكانها خلقًا حسنًا“,”، وهكذا أغلق الغزالي الباب أمام الناس لإعمال العقل والسعي نحو المعرفة والتعلم؛ فهذا تضييع للعمر فيما لا يفيد! إن غاية مراده أن يسعى إلى من يُجبر قسرًا على اتباع الأخلاق الجيدة وليس من يقتنع بها.
وبهذا المفهوم أصبح العقل مطارَدًا، وغير مرغوب فيه.. وعلى مر الزمان، وحتى الآن، لم يزل العقل مطاردًا، بينما العقل هو معيار الحقيقة.