البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

تخلي وتحلي.. التصوف في زحام العلوم

يتساءل الكثيرون عن ما إذا كان التصوف علمًا ندرسه في الكتب أو عملًا نمارسه في الحياة، وقد يختلط عليهم الأمر في كثير من الأحيان؛ نتيجة الأفكار والشائعات من قِبل المعترضين على هذا المذهب، وفي هذا الأمر نقول: إن التصوف عِلْم وعمل بالأدلة والبراهين الشرعية والكونية معًا، فعند النظر إليه من زاوية العِلم نجده اشتمل على كل الأركان التي تجعله علمًا يمكن دراسته أيضًا.
وإطلاق كلمة عِلم على محتوى مُعيَّن أمر ليس سهلا، ووجب قبل إطلاقها التحقُّق أولًا من توافر كل الجوانب التي تؤهله لذك. وفي هذا المقال سوف نتناول بعض هذه الجوانب والأركان، إذ إنَّ كل علم يحتاج إلى إدراك، والإدراك يعني حدوث صورة الشيء في الذهن، والشيء إما أن يكون مفردًا أو مركبًا؛ لذلك قسَّمه العلماءُ إلى نوعين، هما: التصور، والتصديق، الأول للمفرد، والثاني للجملة المفيدة، وكل علم لا بد من وجود مصطلحات ومسائل له، وهنا نقصد العلوم الشرعية، كل هذا موجود في التصوف بوصفه عِلمًا.
أي علم لا بد أن تشتمل أركانه على مبادئ العلوم العشر، والمَبْدأ في اللغة هو مصدر ميمي يصلُح للدلالة على المكان والزمان والحدَث، وهم يُشيرون إلى مكان البدء ونفس البدء "الحدث" وزمان البدء، وقبل تعلُّم أي علم يجب أن نبحث فيمن ألَّفَه، ونقول: إن واضع هذا العلم هو فلان؛ حيث إنه في بعض الأحيان يأخذ العلم في التطور والاستقرار وفي التأليف البسيط حتى يأتي شخص يُؤلف فيه شيئًا فيُحوِّله من مجرد أفكار متناثرة إلى عِلم.
وإذا بحثنا عن أول مَن وضع عِلم التصوف نجد أن البعض يقول: إنه الحكيم الترمذي والبعض الآخر يقول: إنه أبو عبدالرحمن السلمي؛ إذْ ألَّف طبقات الصوفية، وهناك من يقول: إنه الإمام عبدالكريم القُشَيري، كل هذه الآراء جائزة إلا أننا إذا قرأنا للحكيم الترمذي ولأبي عبدالرحمن السلمي سنجد شذرات هنا وهناك بخلاف الإمام القُشيري الذي ألَّف الرسالة القشيرية التي شملت كل جوانب عِلم التصوف.
وعن تعريف التصوف، ذكر أبو نُعيم الأصبهاني في حِلية الأولياء أكثر من 800 تعريف للتصوف، منها: أنه عِلم اهتم بدراسة مرتبة الإحسان الذي ذُكر في حديث جبريل كما في حديث جبريل، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال‏:‏ «‏الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا‏»، وسأله عن الإيمان فقال‏:‏ ‏«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيرِه وشرِّه‏» (‏رواه الإمام مسلم في ‏‏صحيحه‏) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏، وهو جزء من حديث جبريل الطويل‏‏‏.‏
 

أهداف التصوف 

يعلمنا التصوف كيف ندرس مرتبة الإحسان، وكيف يَعبد العبدُ الله كأنه يراه، وكيف نستطيع أن نصل إلى هذه الدرجة العالية في التعامل بيننا وبين الله سبحانه، وكأن جبريل نزل خصيصًا بأمر إلهي لتعريف المسلمين بهذه المرتبة؛ فالصحابة كانوا لا يسألون النبي بموجب النهي عملًا بالآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم»، وفي الآية الأخرى: «قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ»، فلم يسأل الصحابة النبي سوى 13 سؤالًا، وجاءت كلها في القرآن الكريم، مثل: «ويسألونك عن المحيض».... إلخ، والأصل عدم السؤال، كما قال ابن عباس: "كان الصحابة يقولون: كنا نحب الأعرابي العاقل، يأتي فيسأل الرسول فنتعلم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "اتركوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك الذين من قَبْلِكم كثرةُ أسئلتهم لأنبيائهم، ثم أصبحوا بها كافرين".
ولعِلم التصوف موضوع كسائر العلوم، وموضوع العِلم هو ما يُبحث فيه عن عوارض ذلك الموضوع الذاتي، بمعنى أنه على سبيل المثال الفقه موضوعه (فعل مُكلَّف) مثل الصلاة والصوم والسرقة وغير ذلك، كل هذا نأتي به ونبحثه؛ فالصلاة واجبة والسرقة حرام، وكلها أفعال، وعندما نصفها نقول: واجب، مُباح، حرام.

وعلى هذا نقول: إن أي فعل من أفعال البشر له حُكم، وذلك بالنسبة للعلوم الشرعية، وعندما نعطي مثالا في العلوم الأخرى مثل الطب، فموضوع علم الطب هو جسد الإنسان من حيث الصحة والمرض، يمرض بكذا ويصح بكذا، أما موضوع عِلم التصوف فهو أعمال القلوب، فالكِبر عمل من أعمال القلب لكنه مَكْروه، أما الحب فهو محبوب، فهو يوصل إلى مرتبة الإحسان بعد التخلي عن القبيح والتحلي بالصحيح، ويُصنَّف من العلوم الشرعية لدراسته أعلى مراتب الوصول إلى الله وهي الإحسان.

وعن مصدر التصوف نجد أنه استُمِد من الكِتاب والسُّنة كما قال الإمام الجُنَيْدي: "طريقنا هذا لا بد أن يكون مقيدًا بالكتاب والسُّنة"، ونستمد الجانب العملي من التجرِبة الإسلامية الإنسانية، فالصحابة ذكروا الله، وحدثت لهم أحوال، فعبادة ابن الصامت كما جاء في صحيح البخاري كان يسمع سلام الملائكة، فعندما نظر لحال عبادته نجد أن مصدرها من الكون وليس من الشريعة، فليس في الشريعة أن مَن يذكر الله يسمع سلام الملائكة، وعندما اكتوى عُبادة بن الصامت لم يسمع سلام الملائكة، ولما ترك الكي بدأ يسمعه من جديد.

اعتماد التصوف على التجربة الإنسانية الإسلامية مبني على أن الشرع الحنيف جعلنا نأخذ أحكام الشريعة من الوحي ومن الوجود معًا حتى يكون هناك دليل، فقال سبحانه: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، فهنا أشار ربُّ العزة إلى الكون، ثم رجع فقال: «اقرأ وربك الأكرم الذي علَّم بالقلم»، وهنا يشير إلى الوحي، فتكون مصادر المعرفة الوجود والوحي؛ لأن الكون والقرآن صدرا من الله، والكون من عالم الخَلْق، أما القرآن من عالم الأمر فهو غير مخلوق، ولا يختلفان أبدًا؛ لأن المصدر واحد، وقال سبحانه: «ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين».
أما عن العمل فنقول: إن العِلم يكون مقابله العمل، فقال صلى الله عليه وسلم: «من عَمِل بما يعلم أورثه اللهُ عِلْم ما لم يَعْلَم»، ويقول رب العزة سبحانه: «واتقوا الله ويعلمكم الله»، فلو أننا تعلمنا فقط، ولم نطبق هذا العِلم ونترجمه لعمل كان ذلك خللًا، فلا بد بعد العلم أن يكون العمل.