البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

"بيروتشيما" والصندوق الأسود!


ما زالت لبنان متشحة بالسواد منذ "انفجار القرن" في مرفأ بيروت الذي خلف مئات الضحايا وآلاف الجرحى الذين تطايروا مع نيترات الأمونيوم والزجاج فكسوا بدمائهم البحر الذي فارق زرقته. هي بيروت الأبية تقاوم الخراب وتنتفض من الأنين تحاول أن تكنس دنس الظلام واللئام بعد أن أكلتها وحوش المرفأ وكسرت ضلوع أحيائها وأخرجت أحشاءها وعرت جدران بيوتها وشردت مئات الآلاف من أبنائها الذين أصبحوا بلا مأوى، لتصبح بذلك فاجعةً "بيروتشيما" ساكنة في مقلات العيون وفي قصص من ناموا في العراء على وجع، ومن طيرهم الانفجار فسبحوا في الهواء يبحثون عن الشطآن الآمنة إلى الأبد!
"ست الدنيا" تنتفض من ركام انفجار القرن ومن دفنوا تحته والذي يضاهي ما حل بهيروشيما منذ خمسة وسبعين عاما وتنتفض على ركام السلطة المتهاوية وواقع الأحزاب البائسة و تغوّل الطوائف وصراعها المجنون الذي يتجاوز حدود التنافس على خدمة الشعب والوطن إلى السعي لتدمير الأحزاب المنافسة و اللجوء إلى ورقة "الأرض المحروقة" و "علي وعلى أعدائي" في حالة الخسارة أو عدم الاستجابة للشروط غير المتوافق بشأنها. لكن من تحت ركامها وأطلالها تعلو أصوات منتحبة وتسأل عما يحويه "الصندوق الأسود" لهذه الجريمة الشنعاء وعن أي تحقيق "محايد وموثوق ومستقل" يطالب به مؤتمر المانحين في باريس في ختام أعماله اليوم إذا كان الأمن والقضاء في دائرة الاتهام؛ بل عن أي حصيلة مرجوة سيؤول إليها اضطلاع الجهتين بالتحقيق في انفجار بيروت إذا كانت السلطة السياسية قد دفنت رأسها في الرمال ونفضت يدها من مسؤولية تعطيل الصاعق الذي فجّر بيروت عندما تجاهلت ذلك التقرير الأمني الذي حذر من خطورة "انفجارِ مواد خطرة في المرفأ قد تؤدي إلى تدميره"!
الرئيس اللبناني ميشال عون اعترف بتلقيه معلومات قبل أيام قليلة من الانفجار حول الشحنات الخطيرة الرابضة في مستودع بالمرفأ وأحال الأمر للأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى لاتخاذ الإجراءات اللازمة، معللا ذلك بأن المرفأ لا يدخل ضمن سلطته. فأي تقاسم للسلطات تحت عنوان الديمقراطية الكاذبة يعفي رئيس دولة من إنقاذ شعبه من خطر يهدده وكيف يغفو وينام ويهدأ له بال ولديه هذه المعلومات الخطيرة؟! وكيف سكت رئيس الحكومة المكلف حسان دياب وقَرَّ عَيْنُه مع الكشف عن وثيقة رسمية تثبت أنه كان على علم بوجود شحنة الخراب والدمار رابضة في مرفأ بيروت منذ اليوم العشرين من شهر يوليو الماضي، بينما غسل يديه من الموضوع برمته بإحالته إلى وزيري العدل والأشغال مكتفيا بذلك دون أي تدخل أو متابعة جدية لتجنيب بيروت هذا الزلزال الكارثي المدمر.
إن أحدا من السلطات المتنازعة والمتقاتلة لم يحرك ساكنا إزاء التقرير الذي أعده جهاز أمن الدولة بتاريخ العاشر من ديسمبر من العام الماضي 2019 -والذي يرجح أنه ضاع أو أكلته فئران الدولة العاجزة- حيث حذر من شحنة الـ 2750 طناً من نيترات الأمونيوم منذ شهر يونيو 2014 ، لتستمر الفضيحة طيلة تلك السنوات الستة لحين وقوع الكارثة. التقرير الأمني تضمن أيضا تفاصيل ذكرت مراجعة خبير في الكيمياء والذي شدد على أن "هذه المواد في حال اشتعالها ستتسبب في انفجار ضخم وستكون نتائجه مدمرة لمرفأ بيروت" كما حذر من خطورة تعرض هذه المواد للسرقة حيث لا توجد أي حراسة للعنبر وهو ما يسهل عمليات السرقة لاستعمالها في صناعة متفجرات!
كما سجل التقرير معلومات دقيقة عن وجود فجوة في "الباب رقم 9 للعنبر المذكور نتيجة تعرّضه لصدمة من الوسط مما أدى إلى إبعاده عن الحائط بشكل يسمح لأي شخص بالدخول إلى داخل العنبر وسرقة المواد المذكورة". أشار التقرير كذلك إلى معلومات في منتهى الخطورة تكشف عن الزج بكمية تقدر بـ 10 أطنان من المفرقعات في العنبر 12 جبناً إلى جنب مع شحنة القنبلة النووية المصغرة، محذرا من خلو العنبر من أي تجهيزات للإنذار أو الحريق أو الإطفاء. وهكذا فإن التقرير الأمني كان بمثابة جهاز الإنذار الذي أبطل مفعوله ليظل الخطر نائما في أكياسه لحين انفجاره.
ويروي بعض المقربين من أعضاء لجنة التحقيق المحلية التي تقبع حاليا على كتابة تقرير حول الحادث قولهم إن الانفجار الهيروشيمي الذي ضرب بيروت لم يكن نتيجة اشتعال الـ2750 طناً من نيترات الأمونيوم بل جزء منها فقط لاغير وإلا لكانت طارت بيروت عن بكرة أبيها، في ضوء الفرضيات التي ترجح تلف أجزاء من الكمية الهائلة للشحنة نتيجة سوء التخزين وتهريب أو سرقة كميات أخرى من العنبر الذي كان خال من أي حراسة، ويتيح الدخول اليه والخروج منه بسهولة ودون عقبات. ولعل أكثر المعلومات المثيرة في "الصندوق الأسود" لانفجار بيروتشيما هي تلك التي تشير إلى استقدام المسؤولين عن المرفأ ثلاثة عمال سوريين للقيام بعمليات اللحام للفجوة التي تم التنبيه لها في التقرير الأمني والموجودة بالباب رقم 9 من العنبر 12 وأنه خلال اللحام تطايرت شرارات ووصلت إلى أطنان المتفجرات من نيترات الامونيوم وهو ما تسبب في الكارثة. ولا أحد يدري صحة التسريبات حول ما أدلى به المسؤولون العشرون الذين هم رهن التحقيق حاليا والتي تشير إلى وجود مستودع أسلحة وذخائر من أيام الحرب اللبنانية عام 1975 والذي يرجح انفجارها في الزلزال الهيروشيمي يوم الرابع من أغسطس وهذا إن صح يعيد طرح الشكوك حول متورطين في هذا الفساد والتآمر على "ست الدنيا".
ولعل من يعرف لبنان واختلط جيدا بشعبها و نخبها يدرك أن المحنة اللبنانية لن يكون الانفجار المدمر لبيروت و مرفئها آخر فصولها كما أن الأزمة الاقتصادية والسياسية الخانقة و المستفحلة لن تتوقف بالمساعدات وقرارات الدعم والمساندة من مؤتمر المانحين الذي انفض لتوه، لكنها تتعمق وتتشعب أكثر فأكثر بسبب تضارب مصالح القوى الإقليمية والدولية التي حولت لبنان إلى ساحة للصراع المفتوح على حساب استقرار الوطن واستقلال قراره وسلامة شعبه. فالوضع في لبنان ومن خلال تجارب الماضي المريرة يؤكد أن دولة الطوائف مسرح للقوى الخارجية التي تحاول ممارسة ضغوطها لحماية مصالحها بالدرجة الأولى قبل مصلحة لبنان المتمثلة في بنائه ودعم اقتصاده ونسيجه الاجتماعي. والساحة اللبنانية مجهزة كأفضل ما يكون الآن لهذه القوى في ظل غياب القرار العربي القوي والموحد خاصة وأن قليلة هي الدول العربية - مثل مصر- المؤمنة بأن لبنان رئـة العالم العربي وأوكسيجين حياته وأن من يعتدي على لبنان ويصفع اللبنانيين فإنما يؤذي العالم العربي ويصفع العرب جميعهم وأن تفجيرات بيروتشيما هي جزء من مخطط آثم لتغيير خارطة الشرق الأوسط! فمتى نستفيق يا عرب، وكم بيروتشيما نحتاج لنفض الغبار عن هذا التشرذم العربي وتحويل المحنة اللبنانية إلى وحدة الصف وتغليب مصلحة الشعوب والأوطان؟!
olfa@aucegypt.edu