البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

"أمسيةٌ صيفية"


في قريتنا كانَ للصّيفِ حضوره، ولياليهِ الحِسان مذاقها الحُلو، حتى وإن تكالبت الدُّنيا على أهلِها، وحتى وإن تناوشتهم بأتراحها، يبدأ الفلاحُ يومه مع بزوغِ الشّمس يَكدحُ في حقلهِ، تَصحَبه في رحلتهِ الشّاقة رِفقةٌ تعودته وتعودها، أصدقاءٌ قدامى لا يجحدوا المعروف، فأسه ودوابه، يظلّ على حالهِ إلى أن يعودَ أدراجه مع المغيب، يُودِّع يومه، يُمني نهاره المنقضي بلقاءٍ يتجدد في غدهِ، تتفتح معهُ آمال، في عالمٍ لا يحسب لشيءٍ فيِه حساب. 
هناك في قُرانا البعيدة، كانت أحلام أهلها لا تتعدى جدرانها الطينية التي شيدتها يد الحاجة ، ورَصّ لبناتها الحرمان ، ورغم ذلك لا تتململ جنباتها عن أهلها أو تتمرد ، بل تَلهجُ وهي الهامدة في قيودِ الفقرِ ، بحمدِ الله تشكرهُ على نعمائهِ ، حتى وإن كُتِبَ أن تحيا على الفتاتِ .
في ذاك الزمان توحّدت القلوبُ كما توحدت صِبغة الوجوه .
ومع مقدمِ الصَّيف تتغيرُ الحياة في القريةِ ، تتبدل الأرض غير الأرضِ والسماوات، أمّا السّماء فتُكَشِر عن أنيابها، حين تتخلى شمسها المُلتهبة عن رحمتها، فلا تأخذها رأفةً ولا هوادة ببني الإنسان ، من المُعدمين الذين ساحوا في ملكوتهِ طالبين مواطن فضله، تكفيهم في هاتِه الساعات نسمة من الهواءِ ، يستقبلونها مبتهجين استقبال الغائب َالعزيز ، العَائِد بعد سفرٍ طويل ، يُردِد الكبيرُ والصغير فيّ نفسٍ واحد : الله .. الله.
أمّا الأرض فقد كانوا احرصَ على ترضيتها واخماد ثورتها ، تراهم وقد تعاهدوا إراقةَ ما جلبوه من ماءٍ ، أمام الأعتابِ والمصاطب ، فالحمدُ للهِ الذي حبا المنقطعين إليهِ ، بالترعِ والمصارف ، تلفهم من كُلّ صوبٍ ، فلولاها لهَلَكَ في هذا الحرّ من في الأرضِ جميعا .. 
وشيئا فشيئًا تنكسرُ حِدة الحَرّ ، وتضعف سطوة الشمس بعد أن أَذِن لها خالقها سبحانه ، أن تلملم بقايا خيوطها وتحتجب .
ومع اقتراب ساعاتِ المساء الأولى ، يعودُ أهل الحقول من أشغالهم ، عندها تمتلئ الدّروب بالضَجيجِ ، تتسلّط على البيوتِ ومن فيها رحمات ربك ، ينسابُ الهواء رقيقا فاترا ، إيذانًا بميلادِ ليل القرية الجديد، ومعلنا دخولها بسلامٍ بينَ أحضانِ السّمر .
قديمًا في قريتنا لم يعرف الناس من الحياة إلا أن يطلبوا من ربهم السّتر ، كنتُ وأنا صغيرٌ أجوبُ الدّروب ، اتساءل بيني وبين نفسي عن السّتر ِ، متى سيأتي ، كُلّما استفزتني هذه العبارة التي تخرج على سجيتها ، حين انظرُ داخلَ البيوت فلا اجدَ إلا قِطع البطيخ ، تتخطفها الأيدي في ابتهاجٍ ، تغيبُ الحنُوك في لحاها، تَمتصُ من حلاها السائل ، ثم تختفي الأصواتُ قبل أن يتجشأ رب البيت بصوتٍ عال ، مُعلنا انتهاء الأكل ، وهو يضربُ بكفيهِ قائلا : الحمد لله .. الستر من عندك يا صاحب الستر .. 
في أيامنا تلك ، كان البطيخ صديق الصيف المخلص ، وضيفه الذي لا يخطئ مجيئه ابدا ، كنا نُحبه بمقدارِ كراهيتنا للحرِ ، لا يخلو بيت في القرية منه ، نأكله ليل نهار ، ليس عن رفاهيةٍ ، ولكنه فاكهتنا الوحيدة التي لا نعرف سواها .
ومع ساعاتِ الظّلام الأولى ، تضرب البيوت موجة باردة ينتفض لها الناس ، تتقاطرُ جموعهم من داخلِ البيوتِ ، تفترشُ أرضَ الدروب والطرقات ، يتراص النسوة حول الأعتابِ ، يتبادلن في همسٍ تحايا النساء الرقيقة .
في دربنا ألِفَ رجاله ُالسّمر ، تراهم وقد تحلّقوا في دكانِ بقالٍ صغير ، هو ناديهم الليلي المُفضل ، الذي تُنصب فيه جلستهم، يتبادلون أطرافَ حديثهم عن كل لونٍ من ألوانِ الحياة ، على وقع كركرة الجوزة، ومشروبات الصيف الرائجة في ذاكَ الزمان كالكاكاو والكركديه ، والتسالي من لبٍ وسوداني ، وقد يستبدّ بهم الحماس ، فيفرطوا في لعب الورق تسلية وتمضيةً للوقتِ .
في قريتنا كان الليل ستار ، حنون على المساكين الذين افترشت لحومهم سفوحَ الجدران ، استسلموا لبرودةِ الأرض فتمددوا قانعين ؛ علّهم يجدوا فيها العِوض بعيدًا عن وهجِ الحرِّ المتسلِّط ، فينعموا بساعاتِ راحة .
امتلكتُ وأنا صغيرٌ شكارة كبيرة من الخيشِ، انضحها بالماءِ نهارا ، وفِي المساء تكونُ فراشي الوثير الذي يحسدني عليه أندادي .
هناك نامَ الناس أمام البيوتِ في أمانٍ حتى مطلع الفجر ، لا يخشون ما يخشونهُ اليوم من رعونةِ سائقٍ ، أو استهتار عابر . 
مع المساء تُنصبُ أندية الناس ، هنا حكايات الحقول ، وهناك طبخٌ وخبيز ، وهناك شكوى مريض يتوجع ، وفي نهاية الشارع أمٌ تُعنِف صغيرها وتعاتبه، وأخرى أعدّت براد الشاي بالنعناع ، تهمسُ في أذنِ زوجها المسجّى على الأرضِ ، بعد أن سلبت طراوة المساء منه وعيه.
وبعد سويعات تمتد يدٌ فتديرُ مؤشِّر لمبة الجاز نمرة عشرة ، فتخفت ذبالتها المتراقصة ، ويغيب الدَّرب في ثباتٍ عميق ، وغطيط هانئ حتى تَِلد السماء شمس نهارها الجديد .
لتشب الحياة في القريةِ ، وينشط أهلها ليومٍ من أيامِ الكِّد والعملِ .