البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

أزمة التجديد وغيبة المدارس الفكرية 2


حريّ بي توضيح أن خطاب "عبد المتعال الصعيدي" في تجديد الفكر الديني الموجه إلى الصفوة لم يكن من اليسير على البيئة الأزهرية المحافظة تقبله، ولاسيّما بعد وفاة الأستاذ الإمام "محمد عبده" وظهور الأحزاب السياسية المصرية (عام1907م) وما تبعها من ذيوع الاتجاهات الفلسفية الغربية وتأثر قادة الرأي بها، وعقد العديد من المناظرات العقدّية بين دعاة التحديث الغربي وأعلام الاتجاه الجامد الرجعي، ذلك فضلًا عن المجادلات الكلامية بين الأزهريين والسلفيين المحدثين والصوفية، وحملات المستشرقين وجماعات الإلحاد والمحافل الماسونية ودعاة "الديانة البهائية" وفرقة "الإخوان المسلمين".
أضف إلى ذلك كله تزايد أعداد الجامدين من شيوخ الأزهر، الذين لم يترددوا في قدح وإقصاء وتكفير مخاليفهم، ولاسيّما بعد تشكيل هيئة كبار العلماء (عام 1913م) من معظم أولئك الشيوخ الإطاحيين، وقد عبر عن ذلك تمردهم وشجبهم لكل حركات الإصلاح وتطوير نظام التعليم بالأزهر، وعلى الرغم من وجود بعض تلاميذ الأستاذ الإمام داخل المؤسسة الأزهرية من أمثال "الشيخ مصطفى المراغي(1881م-1945م)"، "الشيخ الأحمدي الظواهري(1878م-1944م)" إلا أن صوت الرجعيين كان الأعلى ومصاولاتهم كانت هي الأعنف.
الأمر الذي عطل مشروع "الصعيدي" في تجديد العلوم الأصولية وإصلاح المناهج التعليمية الأزهرية، والوقوف بينه وأفكاره دون ان تصل لشبيبة الأزهريين أو تكوين مدرسة لتفعيل ما كان ينادي به وتحقيق مقصده.
الأمر الذي دعاه إلى توخي الحذر في الاجتهاد، وذلك عن طريق حشد الحجج وترتيب البراهين تبعًا لطبيعة المسألة وبنية القضية المطروحة مسار الخلاف، ذلك فضلًا عن توضيحه المقصد والمآل وإفصاحه عن العلل والأسباب ــــالتي تأنى في دراستها قبل إدلائه باجتهاده ـــــ.
وذلك يتضح في اجتهاداته في تجديد علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الحديث وتحديث أليات فقه الحدود وفقه المعاملات.
كما إتسمت كتاباته بالمجاهدة والمصابرة في تحمل تبعة آراءه، والوقوف بشجاعة في وجه المعارضين لمشروعه ووجهته في التجديد والإصلاح غير عابئ بالأضرار المادية والمعنوية التي أسفرت عنها معاركه المختلفة وصولاته المتباينة، ومع ذلك كله فكان ينحاز دومًا للبراهين الواضحة والأدلة الثابتة أيًا كان مصدرها مادامت لا تخرج عن سياج صريح المعقول وصحيح المنقول، وذلك بعد تعديلها وتطويعها وفق مشاعره ورؤيته الخاصة.
وكان رحمه الله يردد بيت "لأبي العلاء المعري (973م-1075م)"
حظي كدقيق يوم ريح نثروه..... وجاءوا بحفاة فوق شوك يجمعوه.
كما إلتزم بالاعتماد على المنهج الاستنباطي والاستقرائي في اختبار الآراء والحجج قبل قبولها، ويبدو ذلك في مراجعته للقضايا الفقهية بداية من التحليل الدلالي للنص القرآني أو الحديث الشريف، ومقابلته باستنباط الأحكام المستخلصة منها، ثم استقراء نتائج تطبيقها في الواقع والتعويل بأبعاده الثلاثة (العقل، الواقع، الشعور) في الحكم على مقاصد اللغة، واعتمد أيضا على المنهج الفونولوجي وغايات الاجتهادات، والمنهج التأويلي (الهرمونتيقا) في حديثه عن حرية المرأة وقضية السفور والحجاب وقضية الخلع والطلاق الرجعي والطلاق ثلاثة ومخالفته في الكثير من المسائل جمهور الفقهاء، أضف إلى ذلك حديثه عن حجية الإجماع والناسخ والمنسوخ، وحد الردة وموقف الإسلام من الفنون الجميلة وتولي المرأة القضاء والعمل بالجيش وجواز ولايتها الولاية الكبرى،
الأمر الذي عرضه إلى الخصم من راتبه تارة والفصل تارة أخرى وعدم ترقيته تارة ثالثة.
التصريح بأن الخطابات الكاملة هي تلك الخالية من الاضطراب والنكوص - فيما تطرحه من أفكار- والقادرة على توصيل مضامينها للرأي العام القائد فيحميها، والرأي العام التابع ليتقبل تطبيقها، فالخطابات المعادية للسلطات القائمة (الحاكم، أصحاب النفوذ، الرافضين للمذهب أو الوجهة) سوف تواجه بالرفض والتسفيه من شأن أصحابها، أما الخطابات التي لا تلقى استحسانًا من الرأي العام التابع فيصعب استحالتها إلى مشاريع والوصول إلى مقاصدها، ويعني ذلك أن "الصعيدي" قد فطن إلى أن علة نجاح خطاب "محمد عبده" في ميدان التجديد والإصلاح يرجع إلى كثرة تلاميذه الذين حملوا الرسالة جيلا بعد جيل للوصول إلى الغاية المنشودة، لذا نجد "الصعيدي" يأسف على خلو عصره من المدارس الفكرية، وتعملق الأقزام، وشهرة المجترئين، وذيوع الآراء الفاسدة الشاغرة من الحجج العقلية والبراهين العلمية، وعلى الجانب الآخر تجاهل العلماء وانزواء ذوي الدربة والدراية خوفًا من بطش ذوي السلطة أو اتهامهم بالكفر من قبل الخصوم أو تطاول الجمهور عليهم.
وللحديث البقية.