البابا تواضروس.. بين الكنيسة والدولة
يحتفل المواطنون المصريون الأقباط اليوم بالجمعة العظيمة، ذكرى صلب المسيح، ويليه سبت النور، ثم أحد القيامة، وهذا هو العيد الأول “,”الكبير“,” للبابا تواضروس الثاني، الذي كتب عليه تحمل مسئولية الكنيسة في ظروف مختلفة، وفيها إعادة بناء للدولة في سياق الثورة، التي بدأت ثم سارت في طريق معاكس.. الأمر الذي انعكس على الكنيسة، والوطن، والدولة.
وهكذا يحاول البابا تواضروس الثاني، منذ أن ابتُلي بصليب الجلوس على كرسي ماري مرقص، اتباع منهج محاولة الفصل بين الكنيسة والسياسة.. وربما كانت رؤية البابا صحيحة نظريًّا، ولكنها تحتاج إلى مراجعة في ضوء المتغيرات المصرية والعولمية؛ لأن إعادة إنتاج الماضي في سياق “,”القطيعة المعرفية“,”، التي أحدثتها الفوضى، أقرب إلى دخول سباق سيارات بحصان عربي أصيل!!
ولذلك لا بد من حل بضعة إشكاليات، وفي مقدمتها الثابت والمتغير في جدل العلاقة بين الكنيسة والوطن، وليحاللني ويتسع صدر صاحب القداسة، فإن أولى خطوات الفهم والإدراك هي الإجابة على سؤال: ما الفرق بين الخطاب الوطني للكنيسة والخطاب السياسي لها؟
وطنية الكنيسة جزء من التقليد الإيماني، وهي من الثوابت.. أما الخطاب السياسي فهو إما أن يكون منبثقًا من الرؤية الوطنية للكنيسة، التي تنطلق من التقليد والخبرة التاريخية للكنيسة، بغض النظر عن المتغيرات، أو أن ينفصل عنها؛ فينفصل رويدًا رويدًا عن الوطنية الإيمانية للكنسية؛ مما يؤدي إلى تحول الكنيسة من عمود من الأعمدة التي ترتكز عليها الدولة إلى جزء من النظام، هذا ما حدث للكنيسة في العشرين سنة الأخيرة!!
وهكذا لا بد من إعادة الهرم المقلوب إلى وضعه الصحيح، أي أن يكون السياسي منبثقًا من التقليد الوطني الكنسي، بغير اختلاط أو اندماج أو تغيير.
أما الإشكالية الثانية، التي تطل برأسها وتعاني منها الكنيسة، فهي أن مصر بعد 25 يناير تشهد انهيارًا لـ“,”الأبوية“,”، وكنيستنا العتيدة تأسست على الأبوية؛ ومن ثم: كيف يمكن إدراك كيفية إعادة صياغة التعليم الكنسي ليجمع بين الحرية الداخلية (التي تتسق مع الأبوية) والحرية الخارجية (التي تتسق مع العقلية الثورية)؟ تلك الإشكالية لن تحل إلا بتكوين “,”آباء“,” من الثوار الجدد، وهذا لا بد أن يمر بمرحلة انتقالية لا بد أن تتوفر فيها سعة الصدر والحوار، والانتقال من “,”ابن الطاعة تحل علية النعمة“,” إلى “,”ابن نعمة الحوار تحل علية الطاعة“,”.
والإشكالية الثالثة هي أن الكنيسة عمرها ألفا عام، والدولة الحديثة لا يتجاوز عمرها مائتي عام، وللكنيسة تقليد عريق في العلاقة مع الدولة الحديثة؛ حيث شاركت مع أسرة محمد علي في بناء الدولة، كما أنها ساهمت في ثورة 1919 في صياغة وبناء الأمة، ومفهوم“,” الجماعة الوطنية“,”. لذلك فإن دفاعها عن الدولة المدنية والنسيج الوطني للأمة جزء لا يتجزأ من التقليد الإيماني، وفي نفس الوقت فإن رؤية الحاكم الجديد عكس ذلك، سواء في “,”دسترة“,” ما هو ديني (المواد 4 و 219)، على سبيل المثال؛ ولذلك فإن التوافق في ظل التناقض في الرؤية بين الكنيسة و“,”مشروع دولة الإخوان“,” تناقض وضع المواطنين المصريين الأقباط في المعارضة الجذرية لذلك المشروع الإخواني.
وهكذا لا تستطيع الكنيسة أن تلعب دور المعارضة الجذرية (مثل الكنيسة الروسية إبان الحكم الشيوعي)، ولا تستطيع أن تنفصل عن “,”شعبها“,”، وإن لم تدرك ذلك سريعًا فإن عوامل التفكك الهيكلي سوف تجعلها -لا سمح الله- إلى منسق لتجمعات مهاجرين.
يبقى أن نلفت النظر إلى نقطة لم يلتفت إليها أحد من قبل، وهي أن تحرر الأقباط من “,”الجزية“,” كان 1856 في عهد الخديوي سعيد، وارتبط ذلك بدخولهم الجيش، أي أن تأسيس المواطنة للأقباط ارتبط بالخدمة في الجيش، وبدون ذلك المنطلق لن يفهم أحد العلاقة المصيرية بين الأقباط والجيش، (وقف الأقباط والكنيسة مع عرابي وناصر رغم إيمانهم بالمدنية).
كل تلك الإشكاليات تحتاج إلى دراسات معمقة وجماعة تفكير (think tank) وآفاق أرحب للرؤية، ما بين دعاة التغيير والمحافظين، ما بين الأكليروس والعلمانيين.. من له أذنان للسمع فليسمع.. ومن له عينان للنظر فلينظر.