البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

المعرفة الخرافية


حين يعترى الإنسان العجز ويسيطر عليه اليأس يسارع بطرق أبواب الخرافات والخزعبلات علَّه يجد خلفها حلولًا لمشكلاته. إن كثيرًا من الناس يلجأون- حتى يومنا هذا- إلى المنجمين وقرَّاء الطالع يستشيرونهم فيما انغلق عليهم من أمر، وما طرأ عليهم من هَمٍّ، ويطلبون إليهم أن يكشفوا لهم حجب الغيب وما يُخبِّئه المستقبل لهم. وتنشر الصحف اليومية وكثير من المجلات الأسبوعية ما تتنبأ به النجوم عن مستقبل كل فرد، وما يُخبِّئه لـه القدر. 
ومن الناس من يتشاءم من البوم والغربان، أو القطط السوداء، أو عواء الكلاب، أو من رؤية بعض الأشخاص، أو يتوجس من جملة تطرق آذانهم من طفل صغير أو عابر سبيل لا يوجه الحديث إليهم، وقد لا تربطه بهم صلة. وهناك من يعتقد في أن الجن والعفاريت يسكنون المقابر والبيوت المهجورة، ويتشكلون بأشكال مختلفة أغلبها في صورة قطط وكلاب، ولذلك يتجنب الناس ضرب هذه الحيوانات ليلًا، أما اعتقاد زواج الجن والإنس فهو متفشٍّ بشكل كبير في مصر، وهناك الأحجبة التى تُسْتَخدم في أغراض كثيرة مثل الحماية من المرض، وإبطال تأثير العفاريت، واستمالة قلب المحب، والنجاح في العمل... إلخ، فهناك «الأعمال» و«الربط» اللذان يسببان العجز الجنسي، وهما شديدا الانتشار في مصر للانتقام من العريس!! وكذلك التوسل للأولياء. وإذا أردنا مواصلة سرد كافة الخرافات المنتشرة في مجتمعنا فلن ننتهي. 
ومن الناس من يعتقد أن ما يصيبه من مرض أو خسارة أو مصيبة إنما يرجع إلى العين والحسد، ويؤمن بأن العين تستطيع بقوة خاصة خارقة أن تفلق الحجر، وكثيرًا ما نسمع عن تفسيرات- منتشرة بين الناس- للظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين والبرق والرعد، تتعارض مع تفسيرات العلم لها؛ إذ إن هناك من يعتقد أن الزلازل والبراكين مثلًا إنما هى نتيجة لغضب الآلهة على أهل الرجس والشيطان. كل هذه الاعتقادات تندرج ضمن الخرافات، والسؤال الآن: كيف نشأت في حياة البشر؟ وكيف شاعت هذا الشيوع، وتسللت إلينا عبر القرون والعصور؟ وكيف ظلت باقية بيننا حتى اليوم تحتل عقول كثيرين، وتوجه سلوكهم؟ وكيف أخفقت العلوم، رغم ما أحرزته من تقدم كبير، في القضاء على هذه المعتقدات قضاءً كليًا؟ وهل هناك ثمَّة أمل في التخلص من هذه الخرافات؟ 
للإجابة عن مثل هذه الأسئلة علينا أولًا أن نميّز بين الأسطورة والخرافة. والواقع أنه يصعب على المرء أن يضع حدًّا فاصلًا دقيقًا بين الأسطورة والخرافة، ولكن لو شئنا الدقة لقلنا إن التفكير الأسطورى هو تفكير العصور التى لم يكن العلم قد ظهر فيها، أو لم يكن قد انتشر إلى الحد الذى يجعل منه قوة مؤثرة في الحياة، وفى طريقة معرفة الإنسان للعالَم، فالأسطورة كانت تقوم بوظيفة مماثلة لتلك التى أصبح يقوم بها العلم بعد ذلك، وكانت هى الوسيلة الطبيعية لتفسير الظواهر في العصر السابق على ظهور العلم. أما التفكير الخرافى فهو التفكير الذى يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه، أو يلجأ- في عصر العلم- إلى أساليب سابقة على هذا العصر. وقد لا يكون هذا التحديد للفارق بين لفظى «الأسطوري» و«الخرافى» دقيقًا كل الدقة، ولكنه يفيد على أية حال في التمييز بين هذين اللفظين اللذين يختلطان، في كثير من الأحيان في أذهان الناس، ونستطيع أن نضيف إلى ذلك فارقًا آخر، هو أن الأسطورة غالبًا ما تكون تفسيرًا «متكاملًا» للعالَم أو لمجموعة من ظواهره، على حين أن الخرافة «جزئية»، تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة. ففى العصور البدائية والقديمة كانت الأسطورة تمثل نظامًا كاملًا في النظر إلى العالَم والإنسان، وكان هذا النظام يتسم، في كثير من الأحيان، بالاتساق والتماسك الداخلي. أما الخرافات فتتعلق بالتفاصيل، وقد تكون متعارضة أو متناقضة فيما بينها، لأن أحدًا لا يحاول أن يوفق بين الخرافات المختلفة ويُكوِّن منها نظامًا ونسقًا مترابطًا. ومع ذلك فمن الواجب أن نعترف بأن اللفظين يُسْتَخدمان في أحيان كثيرة بمعنى واحد أو بمعنيين متقاربين، وإن كانت الدقة العلمية توجب التمييز بينهما. (د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، سلسلة عالَم المعرفة، رقم 3، الكويت، 1978، ص ص 61 – 62).
لكن ما تعريف الخرافة؟ ورد في لسان العرب أن الخرف هو «فساد العقل بسبب الكِبَرِ»، والخرافة هى «الحديث المستملح من الكذب». وفى معجم أكسفورد ورد معنى أكثر دقة للخرافة، وهو أنها «المعتقد غير العقلاني، أو الذى لا أساس له». 
ولقد ازدهرت الأساطير في عصور ما قبل العلم حين كان الإنسان يعيش في أحضان الطبيعة، ويشاهد ظواهرها المختلفة، فتبهره وتثير في نفسه شتى الانفعالات. ولعل أشد هذه الانفعالات تأثيرًا في نفوس البشر هو الشعور بالذعر، بل الرهبة من هذه الظواهر، وبخاصةٍ ما كان منها عنيفًا؛ كالريح العاتية والرعد والزلازل والبراكين. كانت هذه الظواهر وغيرها تثير فزع الناس واضطرابهم، وتثير في الوقت ذاته رغبتهم في الاستطلاع لمعرفة أسبابها، فالإنسان بطبيعته يميل إلى تفسير الظواهر المحيطة به والكشف عن أسبابها. وفى العصور القديمة لم يكن في وسع الإنسان الوصول إلى تفسير صحيح للظواهر، لأن العلوم لم تكن قد ظهرت بالقدر الذى يسمح للمرء بتفسير هذه الظواهر ومعرفة أسبابها الحقيقية، ولذا كان الخيال يحل محل التفسير العلمي، ويقدم نوعًا من التفسير يشبه النزوع إلى العمومية عن طريق إرضائه بتشبيهات ساذجة. وعندئذ كان يشيع الخلط بين التشبيهات السطحية، ولا سيما التشبيهات بالتجارب البشرية، وبين التعميمات، وكانت الأولى تؤخذ على أنها تعميمات، وهكذا تتم تهدئة الرغبة في الوصول إلى العمومية عن طريق تفسيرات وهمية.
ولعل قائلًا يقول: وما ضرر هذه المعتقدات الخرافية ما دامت تريح صاحبها وتُزيل عنه الهموم ولو إلى حين؟ والجواب عن ذلك أنها مجافاة للحقيقة، ونسبة الأمور إلى غير أسبابها الحقيقية. ثم إن الشخص الذى يبنى سلوكه واختياره للأمور ونظرته إلى المستقبل على أساس واهٍ من الأوهام وضعيف، جدير بأن يخطئ، وأن تصرفه هذه الأوهام عن أبوابٍ قد يكون فيها خير، وتسوقه إلى أبوابٍ قد تكون فيها خسارة وهلاك. كما أن اعتناق الخرافة لو أصبح سلوكًا اجتماعيًا عامًا، فإن هذا سوف يؤدى إلى تخلف المجتمع؛ لأنه سيصرفه عن الأخذ بأسباب العلم التى هى ركيزة أى تقدم.