البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

أبناؤنا في الخارج


لقد كان لآبائنا الفضل في أن يجمعونا على موائد القرآن في الكتاتيب تأديبا وتهذيبا، وعلى منابر العلم والتعليم في مدارسنا وحول مدرسينا تربية وتعليما، وعلى الثقافة والتنوير من خلال ميكروفون الإذاعة العريقة، وما كانت تمثله من منارة ثقافية بروافدها الدينية، والأدبية والعلمية والاجتماعية، ومن خلال برامجها الشهيرة، نتذكر منها برنامج «أحسن القصص» لعلى ماهر ويوسف الحطاب، والذى كان يقدم القدوة الحسنة في سير الأنبياء والمرسلين، برنامج «زيارة لمكتبة فلان» للإذاعية القديرة نادية صالح في ضيافة نماذج مشرقة من علماء ونجباء مصرنا الحبيبة من رموز الدين والعلم والفن والسياسة، برنامج «لغتنا الجميلة» لفارس اللغة العربية فاروق شوشة، ومن خلاله يقدم اللغة العربية الغنية بمفرداتها ومعانيها شعرا وأدبا راقيا، برنامج «قال الفيلسوف» للرائعة سميرة عبد العزيز، ليقدم خلاصة وعصارة تجارب الحكماء في دقائق معدودات، برنامج «العلم والحياة» للعالمة القديرة د. أميمة كامل، والذى كان بمثابة موسوعة علمية مسموعة، ثم الحلقات الاجتماعية اليومية «إلى ربات البيوت» لرائدة الإذاعة المصرية المربية الفاضلة صفية المهندس، والذى كان يرصد الحياة اليومية داخل الأسرة المصرية بثوابتها الأصيلة من معتقدات وعادات وتقاليد تتلقاها الآذان وتتدارسها وتتوارثها الأجيال، هكذا تربينا وعلى هذا تشكل وجداننا دينيا وعلميا وثقافيا تحت عباءة الأسرة ووسط أحضانها الدافئة حتى استوت بنا الأقدام واشتدت منا السواعد.

واليوم أتساءل: أين أبناؤنا؟ قديما كان أبناؤنا في الخارج تفصلنا عنهم حدود ومسافات وساعات من السفر الطويل سعيا منهم نحو مستقبل أفضل علميا ومهنيا وماديا، واليوم أصبح أبناؤنا في غربة وسط أفلاك التواصل المزعوم، ولا يفصلنا عنهم سوى جدران الحجرات وأبوابها المغلقة، لقد أصبح الفراغ وما بين أيديهم من تكنولوجيا الاتصال والتواصل تعويضًا عن الأسرة والعائلة، بل وعن المجتمع بأسره، وما صاحب ذلك من أضرار هائلة صرفت أبصارهم وعقولهم عن العلم النافع والعمل المفيد، وأودت بهم إلى أزمات نفسية وصحية بالغة الخطورة، إن ما كانت تشيده الأسر بعناء وصبر، وما كانت تسهم به المؤسسات التعليمية والتربوية من جهد بناء باتت تهدمه الاستخدامات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي وألعابها الافتراضية المدمرة.
عندما نفكر في المستقبل؛ فإننا عادة ما نفكر في أبنائنا بالدرجة الأولى؛ ماذا أعددنا لهم من عُدَّة لمواجهة الزمن القادم؛ وهل وصولهم إلى الزمن القادم مأمون، هل بإمكانهم المحافظة على هويتهم الدينية والوطنية، أم أن ما بين أيديهم من تكنولوجيا باتت كالرياح العاتية تذروهم كذرو الرماد، لقد تخلت الأسر عن مسئولياتها والمؤسسات التعليمية والتربوية والدينية عن رسالتها وتركت تقنية العصر تسير بالأجيال الحالية إلى المستقبل فوق حقول من الألغام، لقد تبدلت الصلات الاجتماعية والأسرية، والتى تشكل واحة الأمان واللبنة الأولى لتنشئة جيل قادر على مجابهة المخاطر والأزمات إلى وصلات مادية، وصلات للدش ووصلات للنت ووصلات للشحن ووصلات أخرى من السب والقذف والإسفاف عبر شاشات السينما والتلفاز ومكبرات الفن الهابط والبذيء. 
لقد بين رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - مسئولية كل منا سواء أسرة أو مجتمع تجاه أبنائنا وشبابنا حيث قال: (كلُّكُمْ راعٍ وكلُّكُمْ مسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، إن مرحلة الشباب هى مرحلة القوة ما بين الضعفين، ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، ولذلك تقاس قوة أى أمة بشبابها، لأن الشباب هم عصب الأمة وقلبها النابض فهم مستقبلها وصناع غدها، فإن صلحوا صلحت الأمة كلها وكُتب لها العزة والصدارة بين نظرائها من الشعوب والأمم، وإن فسدوا فسدت الأمة كلها وكُتب عليها الذل والهوان. 
إن تفوق الجيل الحالى في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي يتطلب مزيدا من الوعى والمتابعة والرقابة الأسرية من أجل توجيه الأبناء توجيهًا سليمًا يمكّنهم من الاستفادة من هذه الوسائل بشكل إيجابي، لقد غابت القدوة عن واقع الشباب وحلت محلها مسوخ من أهل الفن المزعوم ودعاة العنف ومروجى البذاءة والخلق الذميم، وإذا بحثنا بعمق لنتلمس عمن المسئول عما وصلنا إليه؛ فإن قلنا الفن لرد صناعه بأن الفن يعكس سلوكيات وسلبيات متواجدة بالفعل في المجتمع ويلقى الضوء عليها، وإن قلنا الإعلام لرد رواده إننا نناقش الحقائق ولا ننقشها، نكشف الواقع ولا ننشئه، ويطالعنا البعض بأنها سمة جيل وأخلاقيات مجتمع، وهنا يجدر بنا السؤال: أين دور الأسرة من ناحية ودور المؤسسات الرسمية والأهلية من ناحية أخرى، إنه ناقوس الخطر مما لا يسمعه ولا يدركه الكثير ولا يدرى أحد إلى أين سيؤدى بنا هذا المنحدر الخطير.
للأسف الشديد، إن الواقع يؤكد أن فئة الشباب في مجتمعنا قد أُهملت ماضيا وحاضرا بدرجة محزنة، وهذا الإهمال على مستوى الأسرة تربويا وعلى مستوى الدولة تعليميا وتنمويا، إهمال فرضه سعى الأسرة الدءوب نحو الأمور المادية وفرضته الكثير من الإجراءات والسياسات وغياب كامل لفقه الأولويات، إننا اليوم في حاجة عاجلة إلى مراجعة الكثير من التوجهات الحالية والخطط المستقبلية، بما يحقق سرعة تدارك خطر فراغ الوقت وفراغ الفكر لفئة الشباب حتى لا يُلقى بهم في عزلة تتخطفهم فيها يد الردى، فهذا التجاهل هو ما قد يدفع بهؤلاء الشباب باجتهاداتهم وتوجهاتهم كل حسب ثقافته وقناعاته إلى الحيد عن طريق الصواب، إن الواقع المحزن لحال هؤلاء الشباب يجب أن يذكرنا بأنهم أمانة كبيرة في أعناق الأسرة، ثم الدولة بكافة مؤسساتها الرسمية وتجمعاتها الأهلية، وهذا يتطلب سرعة التفكير العاجل من خلال مراجعة الكثير من جوانب خطط التنمية لإشراك الشباب (الجميع وليس فئة بعينها) كعنصر فاعل في منظومة العمل والبناء والمبادرة بتنفيذ ما يمكن من برامج وخطط ومشاريع تكفل لهؤلاء الشباب الاستفادة من فراغهم وتنمية قدراتهم وإمكاناتهم بما يضيف إلى المجتمع لا أن يخصم منه.
أبناؤنا اليوم في الخارج بأفكارهم وهم بين أيدينا بأجسادهم، يأملون في تعليم أفضل يؤهلهم للتنافسية والتميز، ينشدون إعلام يسمو بهم يناقش قضاياهم، ويسعى لأن يذلل لها الصعاب والعقبات، يسعون لعمل يُلبى متطلباتهم وتطلعاتهم، يأملون في غد أفضل للتعبير عن آرائهم بحرية كاملة ومشاركة مجتمعية فاعلة، ينشدون وطنا يعلو بهم ويعلو لهم. 
أبناؤنا في الخارج فمن يعيد إلينا أبناءنا؟