البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

نبوءة قلب العالم


عام 1901 م، جلس إدوارد السابع على عرش المملكة المتحدة، واستهل حُكمه بتحديث الأسطول البريطانى؛ باعتباره نبراس المملكة وسلاحها الفعّال، لكن أستاذ الجغرافيا السياسية الإنجليزي؛ السير «هالفورد ماكندر»، كان له رأى آخر؛ إذ عرض نظريته - قلب العالم «Heart of land» على مدار الأعوام (1905- 1919) أشار خلالها إلى أن: للعالم منطقة جغرافية - معينة - بمثابة قلبه، ومن يَبسط نفوذه عليها سيطر على العالم، افترض أن منطقة «قلب العالم»؛ المساحة البَريّة الممتدة، من جبال الهمالايا حتى محيط الجليد الشمالي، وما بين نهر اليانغتسى ونهر الفولجا، وأمّا مفتاح قلب العالم، فيبدأ من أوروبا الشرقية «Eastern Europe». 
هدف ماكندر؛ لم يكن بالطبع دعوة الإنجليز، للمبادرة بغزو أوروبا الشرقية؛ فإمكانات القوات البَريّة الإنجليزية، أضعف من القيام بعمل كبير مثل هذا، إنما لقَرع ناقوس الخطر فى أُذن «إدوارد السابع» ومن بعده «جورج الخامس» وتحذيرهما إلى أن: أوروبا الشرقية - مفتاح قلب العالم - تدور فى فلك ألمانيا الموحدّة (الرايخ الألمانى - أوروبا الوسطي)، أما روسيا فتمتد عرضًا لحوالى نصف مساحة العالم، ويُعدّان أكبر قوتين بريتين على ظهر الأرض، ويميل معها ميزان الحرب، إذا ما تمكنتا من حماية الموانئ والنتوءات البحرية. 
نظرية قلب العالم - فى حد ذاتها ؛ نبوءة كابوسية للتاج البريطاني، تحققت بشكل دراماتيكى كالميثولوجيا (الأساطير) الإغريقية. تأكد ماكندر من تلاشى الإمبراطورية البريطانية الشاسعة قريبًا؛ ليشرح بأنه مِنْ المنطقى أن: تغزو ألمانيا أوروبا الشرقية، وتحتل روسيا أو اليابان، الصين وحوض البَلقان، ثم يحدث تحالف سياسى بينهما؛ وفى هذه الحالة يصيران قوة قارية هائلة، وقتها ستتحوّل بريطانيا العظمى لمجرد مملكة تابعة، وتفقد ميزة أساطيلها التى تجوب العالم بحرية، وترضخ تحت رحمة قوة أسطورية، قادرة على الإطاحة بها فى أى وقت. 
لم تطبع نبوءة ماكندر أثرًا، لدى قيادات دولة تعتمد على قوة البوارج البحرية. إنما تلقّفَ هذه الفكرة الضابط الألمانى؛ كارل هاوسهوفر، ليؤسس معهد «ميونيخ للجغرافيا السياسية»؛ الذى صار بوصلة ألمانيا النازية «الجيوستراتيجية» فى الحرب العالمية الثانية. عمل المعهد وفق خطة دقيقة تعتمد علي: توحيد ألمانيا (وسط أوروبا) أولًا، ثم السيطرة على شرق وشمال أوروبا، بالتبعية سيكون تدمير الأسطول الإنجليزى هو الأمر الأسهل فى تلك المتوالية الاستراتيجية، ثم تلافى الدخول فى حرب - لا داعِ منها - مع روسيا؛ فالسيطرة على أوروبا الشرقية سيُقلص الامتداد الطبيعى للجغرافية الروسية، ويصيبها تلقائيًا بضيق التنفس، فتُجبَر على التفاوض مع ألمانيا لحكم العالم - وبناء على ذلك؛ وقّعَ هتلر، وستالين زعيم الاتحاد السوفيتي، معاهدة عدم التعرض عام 1939. 
فى ضوء إرشادات الجغرافيا السياسية، نفَخَ هتلر بوق العاصفة النازية فى وجه أوروبا وانتصر- حتى عام 1942. وبعدما غرتهُ الانتصارات، المرتهنة بطبيعة مدارات الجغرافيا الأوروبية، وكاسحات القوة البريّة للجيشِ الألمانى؛ ارتكب خطيئته الكبري، متعجلًا بحرق المراحل الجيوستراتيجية المعتمدة لدى معهد ميونيخ، ووضع خطة - حربية بحتة - بديلة أسماها «الخطوات المرحلية لإخضاع العالم»، بأن قرر غزو الاتحاد السوفيتى! حشد لأجله أضخم عملية عسكرية فى التاريخ «باباروسا»؛ حيث استهدف غزو 1800 ميل عن طريق 6 ملايين عسكري. حاد الفوهرر عن بوصلة الجغرافيا السياسية، وبات لا يُعَانِّد الواقع الجغرافى والمنطق العسكرى فحسب، بل يتحدى التاريخ أيضًا. فلم يكن فى احتياج للبربابروسا، بإمكانه التفاوض المجحف مع الروس، بعدما ابتلع أوروبا كاملة كقطعة الجُبن، أو تعبئة الفيلق الأفريقى بقيادة «روميل»، بعدما احتل فرنسا، ورصّ قواته بامتداد بحر الشمال، وقبعت طوربيدات غواصاته فى عمق القنال الإنجليزي. 
بعد الحرب العالمية الثانية، أطلق تشرشل على منطقة قلب العالم «الستار الحديدي»، بعدما سيطر عليها الاتحاد السوفيتي، ليُحكم قبضته على العالم القديم، ليثبت ماكندر مجددًا صحة فرضياته؛ رغم انتصار بريطانيا وفرنسا - المهين - فى الحرب، تقزمتا أمام السوفيت - ورثة هتلر - أسياد مساحة «قلب العالم». بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ومساهمة الترسانات النووية للدول، على اندثار فكرة التمَدد الجغرافى خارج الحدود؛ يعتبر الشرق الأوسط الآن - هو قلب العالم الجديد، إذ يتحكم فى أهم المسارات الجوية والبحرية والجوية، يربط ثلاث قارات، مساحته حوالى 8 ملايين كم مربع، 400 مليون نسمة، به أهم مصادر النفط والغاز والطاقة الشمسية. وما زال الشرق الأوسط، يُهدر أهمية دراسة وفهم الجغرافيا السياسية!