البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

ما تركه لنا حامل القنديل (1)


رواية «قنديل أم هاشم» للأديب الكبير يحيى حقى ؛ شأنها شأن الأدب العالمي، لا يحدهُ سياج المكان، ويتجاوز آفاق الزمن. هذه الرواية القصيرة، الفذّة فكرًا وبناءً، مكتوبة عام ١٩٣٩؛ على قِدَمها وقلّة عدد كلماتها، تشعر بطزاجة أحداثها وكأنها دارت اليوم، تقتحم جدليات قائمة حتى وقتنا هذا: العلم، الدين، الشرق، الغرب. ترتادُ الرواية كوامن النفس الخَفيّة وتغوص فى أعماقها، تدُّق نواقيس المسكوت عنه فتدوى كالنذير، لن تترككَ حتى تطبع فى نفسك سحرًا مُلهمًا، يبقى أثره ضاجًا بحياة ابتعثها لنا حامل القنديل - من روح العلم الذى هو من عند الله وحده، قد أبيَ أن يكتُب حرفًا واحدًا إلا وعَطّرهُ بزيت «قنديل أم هاشم». 
لا أتصور أبدًا، مواجهة مباشرة بين القارئ وبين «إسماعيل» بطل الرواية؛ وهو الناقم على وطنه المتأخر بعدما عاش فى أوربا، إلاّ وكانت مسبوقة بنْبذة عن حال العرب قبل حقبة الاستعمار الأوربي، وكأنها بمثابة شفاعة - ولو مؤقتة - للتصبُّر على إسماعيل فى: جموحه، ونزقه، وفسوقه، وصفاقته، ورعونته، وغروره، وكُفره بنواميس بلاده: المتأخرة رغم إيمانها بالله، المتهدمة رغم اعتدادها بمكارم الأخلاق. قبل محاكمة إسماعيل، علينا التفكر فيما دحرّج أوطاننا لذلك المنحدر الفكرى والثقافى ؛ ما أوجد آلاف أمثال إسماعيل، ممن باتوا لقمة سائغة بين براثن الحضارة الغربية البرّاقة. وهنا يقتضى بِنَا الحال أن يكون لنا وقفة ونظرة تأمل للتاريخ؛ فى عام ١٤٩٢ ميلادية سقطت إمارة غرناطة، ومعها تلاشت نهائيًا دولة العرب المسلمين فى الأندلس، ومن وقتها وعلاقة الشرق بالغرب مقطوعة تمامًا. انبرت أوروبا؛ القارة العجوز - منذ ذلك التوقيت - تُزيح عن كاهلها أثقال القرون الوسطي، شرعت تُبدد الجهل وتشجُب الخرافة. لم يردعها وازع الحق الإلهى للملوك فى الحُكم، بل لما وجدته عائقًا أمام مشروعها الأعظم، يشدها بأهدابه لرجعيّة العالم القديم، ثارت عليهم - الملوك - وأعدمت معهم كل المقدسات الروحية، ثم عكفت تُشَيِّد نهضتها المادية فوق أرضها المخملية.
وفى الجهة الأخرى من العالم ؛ يقبع العرب المنكوبون، سياسيًا وعسكريًا، تحت نير حكم المماليك، ومن بعدهم العثمانيون، لم يكتفيا بتجريدهم من السلاح، وعزلهم عن سُبل الارتقاء بالعلم، بل أحكما القطيعة الحضارية بينهم وبين العالم الغربى الآخذ فى التمدن؛ فهجع العرب إلى التردى والجمود، غطوا فى نوم طال أربعة قرون، لم يستيقظوا من غفلتهم إلا على هدير مدافع نابليون المتطورة - وهى تدُك حصون الإسكندرية الواهية. لتتلقى مصر- بحُكم دورها التاريخى - بالنيابة عن العرب أولى طعنات الواقع المُفزع. 
غادر «نابليون»، جاء بعده «محمد علي»، ليغرس بذور نهضة حداثية لم تُثمر؛ إذ اجتث الإنجليز- المحتلون الجدد - براعمها اليانعة. وهكذا وجد المصريون أنفسهم أمام مُستعمر أبيض لم يألفوه، قوى بسلاحه ومتعجرف بعلمه. الفجوة الحضارية كانت مريعة وعصيّة على الاستيعاب؛ فتعدّدّت النداءات ما بين أصوات بلعت بغير هضم ؛ فراحت تطالب باعتماد مِنهاج الحضارة الأوربية جُملة وتفصيلًا؛ للخروج من حيز التخلف والجهل، واللحاق بركب العالم المتقدم، وعقول أخرى تزمتت - بعَمد وجهل - وجاهرت برفض قبول الآخر، طالبت بالاستمساك بالتراث القديم ونبذ الفكر الأوربى الدخيل. إلاّ من بعض المفكرين - المدنيين والأزهريين - المخلصين النابهين، نادوا بالأخذ بالأسباب، بأن نستوعب كليهما، ثم الدمج بين محاسن هذا وفضل ذاك.. ومن قلب ذلك المعترك، تقدّم «صاحب قنديل العلم» بجسارة وإقدام، حاملًا إيّاهُ مشبعًا بزيت «أم العواجز» ليُشعله؛ فبعث فيه نورًا أنداح من قُبته المباركة، مضيئًا دهاليز العتمة المُستحكمة، ليضع الأديب والمفكر الكبير بين أيدينا حلًّا شافيًا لكُل هذه الإشكاليات الملتبسة