البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

القاهرة فيها سم قاتل


كثيرًا كتبنا عن معاناتنا في القاهرة ورغبتنا في حياة أكثر انسانية بعيداً عن زحامها وضجيجها وإجهاد الجميع فيهم حتى أصحاب الحياة الكريمة الذين يعانون أيضاً بشكل مختلف فثقافة الزحام والقبح والعشوائية وإهدار الوقت والصحة والكرامة أصبحت تخنق كل المضطرين للحياة بالقاهرة،، كثيراً تمنينا الحياة بعيداً كي نحيا فعلاً، منا من تمني السفر للخارج، منا من تمني حياة ريفية بسيطة في أي قرية أو حتي صحراء بعيدة، منا من عشق السواحل وتمني الإنتقال اليها، رغم أن القاهرة هي المغناطيس أو النداهة التي تخطف الجميع للعمل والاستثمار والفن والإعلام وكل شئ، لكن لكل شئ ثمن وتحمل توحش هذة المدينة الساحرة المجنونة هو الثمن.
وجدت مقالاً موجعاً للكاتب محمود عبد الظاهر يعبر عما بداخل معظمنا تجاة شراسة القاهرة مع اختلاف المعاناة واختلاف المكان والمكانة، لكنه للأسف سرد واقعاً يعتصر فئات عديدة حتي لو شاهدوه من بعيد.. كتب عبد الظاهر عن تجربته قائلاً:
في مثل هذه الأيام من العام الماضي اصبح لي سكن ثابت في القاهرة، صحيح أنني علي مدار السنوات العشر الماضية لم اكن انقطع عن زيارتها، ولكني كنت أعد ضيفا، أقيم في فندق أو لدى صديق، ذلك جعل إقامتي مهما طالت لا تزيد على أسبوعين.
خلال العام الماضي رأت عين الساكن في المدينة الملعونة خلال عام ما لم تره عين الضيف خلال عشرة أعوام.
افتح عيني يوميا علي قسوة.. قدر غير محدود من القسوة يكسو وجوه البشر وتصرفاتهم، في البداية كنت أفزع لرؤية رجل ضخم الجثة يصارع سيدة مسكينة أو عجوز للظفر بمقعد في الميكروباص الوحيد المتاح، وأقول في نفسي ما لهذا المجنون عديم الرحمة، ولكن وجدت ذات السيدة تدفعني للخلف لتفوز هي بالمقعد التالي.. لا تعني بفرق القوة بيننا، وتجاهد كي تدفعني، فاتنحى لها مندهشا.
مع الوقت فهمت.. ذلك الرجل هائل الحجم لديه أطفال صغار لو تأخر عن عمله فيعني ذلك ببعض العمليات الحسابية المعقدة نقص في عدد الأرغفة المتاحة لصغاره، هو يدافع عن بقائه وبقاء نسله لا أكثر، لقد نزعت عنه اسمال التحضر فصار من الضواري يخوض يوميا حرب بقاء، وكذلك هي السيدة التي دفعتني.. جزء ضعيف من حلبة صراع الجبابرة الكبرى المقامة بحجم القاهرة.
هذا هو اللفظ الصحيح إذا: حرب بقاء.. هناك بضع ملايين من البشر يعيشون معا في تلك البقعة البائسة ويتصارعون علي مواردها المحدودة المتمثلة في رغيف خبر وكوب ماء ووسيلة انتقال.
لم أخرج سلميا من حرب البقاء وتعلمت بدوري أن أتجاهل الأيدي الممدوة لي، فإن أعطيت كل يد وإن عطفت علي كل حالة إنسانية اقابلها لما كفاهم ولا كفاني ما أملك، على مدار عام تعلمت إن أصير "مثلهم" ودربت نفسي علي تجاهل كل المشاهد المؤذية التى أمر بها في طريقي إلى العمل وأكمل يومي بشكل طبيعي.
وماذا عن الأذى؟؟ سلوك إنساني آخر يفرض نفسه في القاهرة ، أنت تمارس الأذى فقط لأنك تستطيع ذلك، دون مبرر دون منطق، شر خام يخرج من شوارع تلك المدينة وغالبا ما يوجه ضد الفئات الاضعف وتحديدا النساء، حوادث التحرش التي أراها يوميا في القاهرة لا يمكن فهمها إلا في اطار الاذى المجرد لا شبهة افعال جنسية ها هنا.
وللسيطرة علي ملايين الوحوش التي تعيش معا في بقعة واحدة تستخدم الدولة نوعين من الضواري .. رجال الشرطة والبلطجية والاثنين يعملان معا في تكامل وتناغم تام، فتجد نفسك انت المواطن مسئول عن حماية نفسك من الصراع في حرب البقاء ومسئول ايضا عن حماية نفسهم من النوعين سابقي الذكر من الضواري.
الحقد على كل ما هو جميل وإنساني صفة أساسية للمدينة القاتلة... هل رأيت ذلك الفديو الذي يصور شاب وفتاة يظهر عليهما أنهما غائبين في نظرة حب طويلة علي اعتاب أحد عربات المترو ... حسنا لقد قام مجموعة شباب بصفع هذا الشاب بقسوة ولاذوا بالفرار قبل ان يغلق المترو ابوابه، في أحد ليالي الصيف سمعت ضجيجا عاليا لتصفيق وصفير فنظرت من النافذة لأجد مجموعة من حوالي 11 شاب تحيط بشاب وفتاة يعبران الطريق .. كان يمسك بيدها في خوف وقهر وقد أثر الصمت وادرك أن خروجها وخروجه سالمين يقتضي بالا يلتفت لهم حفاظا علي سلامة جسدها وجسده ولكني ادركت أن كرامته لن تخرج سليمة من تلك الواقعة... تذكرت ما قاله أمل دنقل يوما: كيف تنظر في عيني امرأة.. أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟؟
في حرب البقاء هناك الكثير من النصابين حتى انك تجد صعوبة في تصديق الحكايات المسأوية التي يرويها لك المتسول وسائق التاكسي وعامل المقهي ... هل فعلا تصدقهم وتقرر مشاركتهم بما تملك من مال اما انك صرت منيعا من التأثر بفضل ما وقعت ضحيته من عمليات نصب سابقة؟
تشبه القاهرة الان "مدن ما قبل المحرقة" .. انها المدينة التي ستستيقظ غدا علي الانفجار العظيم أو انتشار الوباء المهلك أو تحول ساكنيها إلى زومبي.. اننا الآن بالضبط في الليلة التي تسبق العاصفة المرعبة... لابد لكل هذا الشر من نهاية تليق به.
الشر يقيم في هذه المدينة بين اهلها كانه واحد منهم، وانا الذي ولدت وعشت في بيئة قاسية تقدس العنف والدماء اجد نفسي اتضائل أمام قسوة هذه المدينة ... لدينا شر وعنف ولكنهما مبررين، اما هذا الشر المطلق فجديد علي تماما..... للشيطان مدن كثيرة انا الآن أعرف واحدة منها.
تأكل القاهرة ارواحنا وشئنا ام ابينا سنصبح جزء من حروب البقاء وسننازع علي المعقد الخالي في الحافلة والرغيف الأخير وكوب الماء المتبقي.
اهربوا بإنسانيتكم خارج هذه المدينة فهي تقلتها في بطء.