أحمد عرابي المفترى عليه "2"
توقفنا فى المقال السابق عند استغلال توفيق الفرصة لإقالة البارودى من منصبه كناظر للجهادية، بعدما فرضه عرابى وضباط الجيش الذين شاركوه حركته الإصلاحية، وعلى الفور قام توفيق بتعيين صهره داود يكن باشا بدلًا منه، فقابل عرابى وصحبه هذا التغيير بالانزعاج والتبرم، وتوجسوا خيفة من عواقب إبعاد البارودى الذى كانوا يطمئنون إليه، ويركنون إلى إخلاصه، وتوقعوا شرًا مستطيرًا من تعيين صهر الخديو على رأس الوزارة التى تملك ناصية الجيش. وما أن تسلم داود يكن الوزارة حتى أصدر أمرًا يحظر على ضباط الجيش الاجتماع ببعضهم فى بيوتهم أو فى المقاهى وإلا تعرضوا للاعتقال الفورى، فأثار هذا القرار الغضب مرة أخرى فى نفوس الضباط والجنود من المصريين الذين اجتمعوا مرة أخرى حول عرابى، والذى فوجئ بتأييد شعبى من العلماء والأعيان وعمد القرى ومشايخ العربان، وقد التقى عرابى هؤلاء تباعًا وطالبوه بالتحرك ثانية وإجبار توفيق على إنشاء مجلس نيابى، وعلى إقالة حكومة رياض، أما الجيش فقد أصبح فى قبضة يد عرابى بعد ما أمر يكن بترقية الضباط الشراكسة، وأخذ ينكل بكل من هو مصرى، وتم نقل الفرق أو الآلاى الموالية لعرابى إلى الأقاليم، ونقل كل الموالين للخديو إلى القاهرة، ولكن الفرقة الموجودة بقلعة صلاح الدين رفضت تنفيذ أمر نقلها إلى الإسكندرية، واعتصمت بثكناتها حتى وصل إليهم عرابى وقرر اصطحابهم فى مظاهرة عسكرية إلى قصر عابدين، ومطالبة الخديو بإسقاط الوزارة، وتأليف المجلس النيابى، وإلغاء قرارات داود يكن، وتحسين أحوال الضباط المصريين، وفى التاسع من سبتمبر ١٨٨١، احتشد أكثر من ألفين وخمسمائة جندى وضابط فى ميدان عابدين، ومعهم ما يقرب من ثمانية عشر مدفعًا، إلى جانب بعض البنادق والسيوف، ويروى اللورد كرومر فى كتابه «مصر الحديثة» ما حدث فى ذلك اليوم؛ حيث هرب توفيق إلى سراى الإسماعيلية –التحرير حاليًا– بمجرد علمه بقدوم الجيش إلى عابدين، واستدعى السير أوكلند كولفين المراقب المالى البريطانى فى الحكومة المصرية، ليقف إلى جانبه، وقد نصحه كولفين بالعودة إلى عابدين وإظهار الشجاعة أمام المتظاهرين، وقال له: «إن للخديو هيبة فى نفوس الناس والجند، فإذا ظهر إليهم هتفوا له»، وبالفعل عاد توفيق إلى قصر عابدين ودخله من الباب الشرقى بصحبة مجموعة من حراسه وأتباعه، وفى حوالى الرابعة عصرا خرج توفيق إلى المتظاهرين ونادى عرابى ليقترب منه، وكان مشهرًا سيفه فطلب منه أحد الحراس أن يغمد سيفه تأدبا ففعل، ولما وقف عرابى أمامه حياه التحية العسكرية، فخاطبه توفيق قائلًا: «ما أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟»، فأجابه عرابى: جئنا يا مولاى لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة، وكلها طلبات عادلة»، فقال له الخديو: وما هذه الطلبات؟ فأجابه: عزل رياض باشا، وتشكيل مجلس النواب، وإبلاغ عدد الجيش إلى العدد المعين فى الفرمانات السلطانية، وإلغاء قرارات داود باشا، فقال توفيق: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا خديو البلد وأعمل زى ما أنا عاوز. فقال عرابى: ونحن لسنا عبيدًا ولن نورث بعد اليوم، وهذا الحوار كما يقول عبدالرحمن الرافعى قد استخلصه من روايات عدة، معتمدًا فى الأساس على رواية أحمد شفيق باشا الذى كان شاهد عيان للواقعة، ورواية مستر بلنت التى ذكرها فى كتابه «التاريخ السرى للاحتلال».. وبلنت هو المحامى الذى انتدب للدفاع عن عرابى فيما بعد، ويؤكد الرافعى أن الرواية التى جاءت فى مذكرات عرابى، والتى زاد فيها على قول الخديو: «كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، وقول عرابى: «لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا، فوالله الذى لا إله إلا هو إننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم»، يؤكد الرافعى أن بها مسحة تحوير وتعديل بهدف تفخيم الكلمات والعبارات، وأما الرواية الأولى فهى صادقة، وفى رأيى أن الرواية الأولى لا تختلف كثيرًا عن الثانية، فالمعنى واحد حين يقول الخديوى: «أنا خديو البلد وأعمل زى ما أنا عاوز». وحين يرد عرابى: «ونحن لسنا عبيدًا ولا نورث بعد اليوم». وإذن فهناك مواجهة تمت بين الشخصين واجتمعت عليها كل كتب التاريخ تقريبًا، أما من يقول إن عرابى لم يلق توفيق ولو لمرة واحدة؛ فقد جانبه الصواب وحاد عن الحق وأراد النيل من عرابى دون سبب واضح، فما وجدت مرجعا واحدا يقول إن عرابى لم يلق توفيق، ونتيجة هذه المواجهة كان قبول توفيق مطالب عرابى، حيث دخل إلى القصر وتداول الموقف مع وزرائه وقرر الجميع أنه لا بد من الإذعان لمطالب الجيش، والذى بدأت أعداده تزداد فى عابدين حتى وصلت إلى ما يقرب من أربعة آلاف وصار القصر محاصرًا، ومع مفاوضات قصيرة مع عرابى تم تعيين شريف باشا رئيسًا للوزراء، وإعفاء رياض من منصبه، وإلغاء قرارات داود يكن بنقل اللواءات، ودخل عرابى إلى توفيق وشكره على الاستجابة لمطالب الأمة، وكان ذلك بحضور كولفين، والذى روى هذه الواقعة أيضا فى مذكراته، وأشار إلى أن توفيق أظهر تعاطفا مع عرابى، وأخبره بأن اعتراضه لم يكن على الطلبات، ولكن على الطريقة فقط، وهكذا عاد البارودى مرة أخرى وزيرًا للحربية وهدأت الأحوال مرة أخرى، وفى ٤ أكتوبر ١٨٨١، رفع شريف إلى الخديو تقريرًا بضرورة إجابة مطلب الأمة والجيش بإنشاء مجلس النواب، فوافق الخديو وأجريت الانتخابات فى جو ديمقراطي.. وللحديث بقية.