بعد ألف عام أو يزيد
مولد "أم اليتامي".. يفقد بريقه

الساعة تُشير إلى منتصف الليل، تتلاشى خطوات المارة فى شارع باب الخلق، لتخلق حالة من السكون التام، يتخللها صوت لسيارة تعبر قلب الشارع بين حين وآخر، خطوات قليلة إلى الداخل تكشف عن تمتمات صوفية تحملها نسمات هواء باردة تأتى من مكان ما قريب، على جنبات الشارع تبدو الأنوار فى ازدياد، يزداد معها عدد المحال التى ما زال أصحابها يُصرون على محاربة الصقيع بالمناداة على بضاعتهم وهم يرددون «كل سنة وأنت طيب».
خطوات أخرى إلى الداخل أيضًا، لتكتمل أمام عينيك صورة تتنافى مع حالة الهدوء التى سيطرت على بداية الشارع، تختلط فيها أصوات المنشدين عبر الميكروفونات، بأصوات باعة يروجون بضاعتهم، بأصوات أطفال يلهون بين الشوارع الجانبية، بأصوات أخرى تأتى من كل حدب وصوب، لتخلق حالة من الدفء والسلام الروحى، هنا.. دراويش يسبحون فى رحاب حب آل بيت النبى، أُناس يلقون بأجسادهم تحت خيام، يأكلون ويشربون ويستمعون إلى ما تيسر له الوصول إلى آذانهم من كلمات المنشدين، هنا لا فرق بين غنى وفقير، ملابس مختلطة بين «جلابية وعباية وقميص وبنطلون»، وجوه مارة سارحة فى ملكوت وعالم آخر تبحث عن الراحة والسكينة، هنا فى الدرب الأحمر.. الليلة الكبيرة بمولد السيدة «فاطمة النبوية»، أم اليتامى والمساكين.

ما إن تبدأ دخول الباب المؤدي إلى ضريح السيدة فاطمة النبوية، ابنة الحسين وحفيدة الرسول، إلا وتجد مجموعة من المشاهد أمام عينيك، تكاد تكون متكررة على أبصار الزائرين لمولد أم اليتامى باختلاف السنوات والأيام.. من يقوم بتقبيل أرضية المدخل تبركًا بحفيدة النبى وأم اليتامى، ومن يقوم بتوزيع كاسات مياه الشرب على زائري الضريح، ومجموعة أخرى من الأشخاص يكونون بجوار المقام، ممسكين بكُتب تواشيح، يرددون ما تحتويه من قصائد فى حب النبى وحب آل بيته فى صوت متناغم، وكأنها خلفية موسيقية لازمة لأجواء الزيارة والزائرين.
أم الیتامى.. فاطمۀ النبویة
هى الابنة الثالثة بين ثلاث أخوات و٦ إخوة من أبناء الإمام الحسين بن على، قدمت إلى مصر بعد استشهاد أبيها الحسين فى كربلاء العراق، حسبما ذكرت الروايات العربية، وتزوجت السيدة فاطمة مرتين، الأولى من ابن عمها الحسن بن الإمام الحسن السبط بن على المعروف بـ «الحسن المثنى» وأنجبت منه «عبدالله» المُلقب بالمحض لإخلاصه فى العبادة لله، والحسن المثلث «لأنه الحسن بن الحسن بن الحسن». والمرة الثانية، كانت من الإمام عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكان ملقبًا بـ «المطرف» لوسامته، وأنجبت منه القاسم ومحمد المُلقب بـ «الديباج» لجماله، وتوفى الإمام عام ٩٦ هجرية.
وقد توفيت بعد أن عمرت حتى قاربت الـ ٩٠ سنة، وقيل إن وفاتها بين عامى ١١٦ أو ١١٨ هـ، وشرفت بمقامها فيها أرض مصر ولها بالدرب الأحمر مسجد جليل وضريح عظيم عليه من المهابة والجمال والأسرار والأنوار ما يسر قلوب الناظرين صلوات الله وسلامه عليها وعلى آل البيت أجمعين. عُرفت السيدة فاطمة النبوية بأم اليتامى والمساكين، لأنها كانت تعطف على اليتامى والمساكين، ولعل أشهر ما روُى عنها هى قصة رعايتها للسبع بنات اللاتى دُفن فى مدرسة أحمد أمين، ثم نُقلن بعد ذلك إلى جوار ضريحها بالدرب الأحمر، ومنذ ذلك الحين، تُقام كل يوم إثنين حضرة بعد المغرب لقراءة القرآن، وتوُزع فيها هدايا على الأيتام. ويُقام مولد السيدة فاطمة النبوية، فهو أول مولد لأهل البيت، يأتى بعد المولد النبوى الشريف، ويُقام احتفال كبير يستمر لأسبوع أو ١٠ أيام.

المقاهي.. أکثر الرابحین
على جانبى الأزقة والحوارى، تتجاور الحوانيت والدكاكين الصغيرة ذات الواجهات الممتلئة ببضائع شتى مثل قطع لعبة «الدومينو» فلا يفصل بينها إلا جدار شاهد على حدود المحل أو الحانوت. أمام كل دكان يقف صاحبه حاملًا كوب الشاى فى يد وفى الأخرى سيجارة.
ما بين اختلاط روائح الشاى بدخان السجائر، يعبر طفل وامرأة وشاب ورجل وكهل وشيخ، كلهم لبوا نداء السيدة المباركة، إلا أن واحدًا منهم لم يدن من تلك البضائع أو حتى يقترب منها. تضج الأزقة بصفوف من البشر لا سبيل إلى حصرهم. «تعميرة هنا، خمسينة شاى معاك» تلك هى أكثر العبارات التى تعبر من حيز الضجيج الذى يملأ المكان، بدافع من مكبرات الصوت التى تصدح إما مدحًا أو بعبارات من بعض الأغانى التى بالكاد تستطيع تمييزها.
لا تطيق الانتظار، وأنت تعبر الحوارى والأزقة متأملًا ذلك المشهد العشوائى إلى حد بعيد. ترتسم على وجوه أصحاب الدكاكين كآبة من نوع ما، ليست كآبة الضيق أو انخفاض قدرة رواد المولد على الشراء، إذ إنها غائرة تُخرج مكنون النفس البشرية التى ملأها غضب خامد مثل قنبلة قديمة تواقة إلى نزع أحدهم فتيل انفجارها. عباس أبوالحسن، متوسط القامة، تخفف رأسه من الشعر إلا قليلًا، يرتب صفوف بضاعته من الأحذية الجلدية الرخيصة: «كنا بنستنى مولد ستنا فاطمة النبوية كل سنة لكن مبقاش زى الأول». يعبر أبوالحسن عن ضيقه من قلة القدرة الشرائية لدى رواد المولد هذا العام، مبديًا أسفه على الحال الذى وصلت إليه حال البلد.
المولد بالنسبة لأصحاب المقاهى واحد من أكثر المواسم ربحًا، حيث يتعاقد كل مقهى مع فرقة تواشيح ومدح، ليحل ضيفه عليه خلال أيام انعقاد المولد نظير مبلغ معين، يختلف من مقهى إلى آخر، ومن فرقة إلى أخرى بحسب شهرتها. «ده موسم يا أستاذ وكله بياكل عيش.. ودى كمان الليلة الكبيرة».. بهذه الكلمات وصف لنا الحال صاحب أحد المقاهى المتراصة فى آخر الشارع الحلزونى الضيق الصغير، حيث جاءت الفرق الموسيقية ودوت أصواتها، يتوسطها رجل يقدم التحية على حسب النقطة الذى يتم دفعها ما بين ١٠ إلى ٥٠ جنيها، وكل على حسب قوته، حيث تقسم فيما بعد هذه النقطة بين أصحاب المقاهى، وتلك الفرق التى تتعاقد معهم بشكل سنوى وفى الموسم.

ارتفاع الأسعار قلص عدد الخدمات
كالعادة، لا تغيب الطرق الصوفية باختلاف أنواعها، سواءً الرفاعية والهاشمية والدسوقية والبيومية وغيرها عن الاحتفاء بموالد آل بيت النبى وأولياء الله الصالحين، حيث يُعتبر مولد السيدة فاطمة النبوية أول مولد لأهل البيت يأتى بعد المولد النبوى الشريف ليستمر أسبوعًا كاملًا، ويحرص خلاله الصوفيون على تقديم ما يسمى بـ«الخدمة» من أكل وشرب يُقدم إلى المُريدين والزائرين.
ما يزيد على ٣٠ «خدمة»، على رأسها خدمات «محبى مساكين أهل البت، أهل الصفى لخدمة أهل المصطفى، أولاد عبدالعزيز قنديل، أولاد أم الحنان، أولاد عرفات»، يبدأ التجهيز لها قبل المولد بيومين من خلال إقامة خيمة صغيرة لا تتعدى مساحتها ١٥ مترًا بجوار وداخل مسجد فاطمة النبوية أو فى الممرات والأزقة المجاورة له، على أن يكون صاحبها قد أحضر ما يلزمه من أدوات طبخ وأجولة من العدس والفول والأرز والسكر، يساعد فى توفيرها غالبًا «أهل الخير»، حسبما أكده الحاج محمد راضى، صاحب إحدى الخدمات. ويضيف صاحب الخمسين ربيعًا، أن أصحاب «الخدمات» معظمهم تابعون لطُرق صوفية، يأتون من محافظات شتى، وحريصون على إقامة موائد الرحمن فى معظم الموالد لتقديم الأكل والشرب للزوار، فقط لوجه الله وإكرامًا لجدهم سيدنا النبى محمد، حتى إن بعض الغلابة يظل موجودا داخل خيمة الخدمة منذ بداية انطلاق أول أيام المولد وصولًا إلى نهاية الليلة الختامية دون أن يدفع أى مقابل.

کلٌ یُغنى على لیلاه
الكل يترجل فى تلك الدروب الضيقة التى تعج بالآثار الإسلامية، الجميع يحتفل ويتراقص فى طرب، عبر حلقات متلاحمة ومتلاصقة، ولمِ لا فاليوم الليلة الكبيرة من مولد النبوية كما يناديها رواد المولد. ويتوسط هذه الأزقة مسجد كبير.. إنه مسجد «الست فاطمة». الكل جاء هنا ليحتفل، غير مكترث لا بهموم الدنيا ولا صعابها، وبعيدا عن طواحين غلاء الأسعار وشقاء الدنيا.. «أيوة هى فسحة الروح» عبارة يصف بها عم إبراهيم القادم من محافظة بنى سويف كى يحتفل ولا يفوت هذا العرس الدينى والإنشاد.
عم إبراهيم ليس وحده، إذ حضر من محافظات مختلفة مواطنون طالبين محبة ورضا أهل البيت، يقدمون الخدمات لآل البيت طمعًا فى الرضا ورغبة فى إطفاء نار ومتاعب الدنيا بعشق ومحبة وشوق آل البيت، فهناك لافتة مدون عليها خدمة لآل البيت من محافظة الغربية، وتجلس سيدة وقور تلبس رداء أبيض ويتوسط رأسها عقد، تعمل طبيبة وتهيم عشقًا فى آل البيت وتطمع فى رضا رسول الله. يقابلك عند مدخل شارع السيدة «فاطمة النبوية» شباب أعمارهم لا تتجاوز العشرينيات وقد استأجروا صيوانًا كبيرًا تتوسطه آلات موسيقية حديثة مكونة من دورين أعلاها فرقة شبابية يلتفون جميعًا حولها يسمعون الأغانى الحديثة يتمايلون رقصًا وطربًا، بينما آخر يصطنع بعض الحركات. شابات وبنات لم يفوتن الفرصة أو يضيعن نصيبهن من الاحتفال، بل كوّن حلقة موازية لهن على بعد أمتار وبدا التصفيق مع الأغانى كأنها نغمات عالية والبنات تتراقصن ويتمايلن.. الكل ينشد «مدد آل البيت، حبيبى يا رسول الله». الحاجة «نادية» تمسك بالميكروفون وتتوسط فرقتها الصغيرة التى تعتمد على الطبول والمزامير وتعلى صوتها حبًا فى آل البيت، ويلتف حولها الرجال والنساء العاشقون لآل البيت، اقتربنا منها فقالت لنا: أنا من السيدة زينب وحريصة على تقديم المدح لآل البيت ومعى فرقتى المكونة من ٧ أفراد ونشعر بالمتعة والسعادة أثناء مدح رسول الله. وبالقرب من درب «الصياغ» بجوار مسجد صغير، وقد تماهى الجميع «نساء ورجالًا» فلا فرق بين هذا وذاك، أجساد تتمايل يمينًا ويسارًا عشقًا وحبًا فى آل بيت النبى الكريم، يتماوجون ويتراقصون وينشدون فى لحظات عشق وغرام، تناسوا الدنيا بكل ما فيها، هائمين فى حلقات ذكرهم لآل البيت.