في العام الثاني والخمسين
اثنان وخمسون عامًا، هي كل ما أملك من تاريخ فوق ظهري، أشرف بكل ما قدمته في كل دقيقة عشتها، ولو عاد بى الزمن إلى الوراء ما اخترت سوى تلك التجارب التي خضتها بحلوها ومرها، بكل ما أضافت لى من خير وكل ما سببت لى من شر.
لم أكن من الذين ولدوا، وفى فمهم ملعقة من ذهب، ولا حتى ملعقة من فضة، ولا ملعقة من نحاس، كنا أبناء الفقراء ندعى، حملنا هموم جيلنا وهموم العمال والفقراء والمهمشين، وقبل كل هؤلاء هموم الوطن، حملناها في قلوبنا وصدورنا وعقولنا، وحلمنا بغد أفضل، حتى وهن العظم واشتعل الرأس شيبًا، وما زلنا نحاول.
كنت واحدًا من كثيرين سحبتنا موجة اليسار مبكرًا، إلى حيث بحر المعرفة والأدب والثقافة، تعرفنا منذ نعومة أظافرنا، على تاريخ مصر الحديث، من خلال الجبرتى وعبد الرحمن الرافعي، وطارق البشري، وعبد العظيم رمضان، والعم صلاح عيسى، ورفعت السعيد. حفظنا ووعينا، عن ظهر قلب، أشعار فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وأحمد عبد المعطى حجازي، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم، وقرأنا قصص يحيى الطاهر عبد الله، وعبد الرحمن منيف، وحنا مينا، ورشيد بوجدرا، والطاهر وطار.
وقبل كل هؤلاء كانت معرفتنا موثقة بشيخ الرواية العربية نجيب محفوظ والعبقرى يوسف إدريس. خلطنا مبكرًا التاريخ بالأدب، والشعر بالرواية، والغناء بالموسيقى، والسينما بالمسرح، كنا نشترى الكتاب جماعة، ونقرأه فرادى، واجهنا مبكرًا جماعات العنف الدينى في عقر دارها في صعيد مصر، وتنبأنا بخطرها قبل الجميع، حتى لقبونا بأعداء الإخوان، في الوقت الذي طبل البعض وزمر لهم، دون وعى أو معرفة. أدين لمدرسة اليسار بالكثير، وبخاصة هؤلاء الذين احترموا تقاليد وعادات وثقافة المصريين والعرب، احترموا أننا أبناء تلك الحضارة الإسلامية، هؤلاء الذين لم يجدوا غضاضة في أن يصلوا الفجر ويقرأوا جزءًا من سورة ياسين، ثم يفتحوا كتاب رأس المال ليقرأوا ما تيسر منه، ليشكلوا وعيًا جديدًا بحضارة منفتحة على الآخر، لم يتجمدوا عند فكر ماركس وإنجلز ولينين، ولم يتمترسوا خلف الأممية الثالثة التي اصطنعها ستالين ليكرس ديكتاتوريته، وإنما انفتحوا على ليون تروتسكى، والاشتراكية الأوربية، انفتحوا على الفكر الليبرالي، أخذوا من كل تلك التجارب بقدر، عرفوا دور الأدب والفن، في نضال وكفاح الشعوب، فشجعوا كل تجربة تمجد من قيمة الإنسان، أي إنسان، فدافعوا بحق عن قيمة حرية الفكر والإبداع، واحترموا قيمة التفرد والابتكار، لم يسعوا لقولبة الفن في قالب واحد، ولم يحاربوا الجديد منه لأنه ليس ابنًا لتجاربهم الخاصة أو بيئاتهم المألوفة، فكانوا بحق روادًا لجيل، جيل أكاد أقول، دون سفسطة أو تعالٍ، إنه صنع نفسه بنفسه، لم يكن له أساتذة بالمعنى التقليدى للكلمة، ولكن كان منفتحًا على كل التجارب فخرج صلبًا قويًا، يعى قيمة ذاته ووطنه، لذا استطاع الصمود، دون ضجيج، في وجه تتار العصر الجديد، جماعات العنف الدينى، وفى القلب منهم جماعة الإخوان الإرهابية.
لقد ولدت في مدينة المنيا بصعيد مصر، في ٢٥ مارس ١٩٦٣، عشت بين أهلها الطيبين، لعبت في شوارعها، وعلى كورنيشها الجميل المتميز، قضيت أحلى سنوات العمر، طفولة وشبابًا، بين أكنافها وفى رحابها. وفى مكتبة قصر الثقافة بالمنيا، ومكتبة مجلس المدينة، قضيت أجمل الساعات مع الكتب والأفكار، حيث تشكل وعيى ووجدانى المعرفى والسياسي والأدبي. تشاركت مع أصدقاء العمر عادل الضوى ومصطفى بيومى ومحسن حسنى أحلامنا، الخاصة والعامة، الحلم بوطن أكثر عدلًا وتقدمًا، وقادتنا أحلامنا وأفكارنا وحماسنا الدافق لخوض تجارب سياسية وإنسانية عديدة ونبيلة.
وعندما ابتليت مصر بشرور الإرهاب والأفكار الخبيثة، البعيدة تمامًا عن صحيح الدين، وكان نصيب المنيا، من تلك الشرور الإرهابية كبيرًا، حتى يمكننا القول إنها كانت في تلك الأوقات ــ الثمانينات والتسعينات ــ عاصمة الفكر المتطرف، وقتها فعلنا ما كنا نرى أنه الواجب والضرورى دفاعًا عن الوطن، عن المنيا التي نعرفها ونحبها، والتي حاول «الأدعياء» سرقتها منا، شكلنا لجان الوحدة الوطنية، بمشاركة بعض أساتذة جامعة المنيا، وبعض رجال الدين من الأزهر والكنيسة، وقتها كنت في بدايات عملى الصحفي، فحملت على عاتقى مسئولية أن أتصدى للإرهاب بقلمي، وأن أكشف زيف ومخاطر تلك الجماعات الإرهابية، وأذكر أن بعض كبار المفكرين والصحفيين والمسئولين، خاصة في القاهرة، اعتبروا أن ما أكتبه وأحذر منه، «مبالغة» وتهويل، وأن ما يحدث في المنيا ومدنها وقراها، حالات خاصة ومتفردة، ليكتشفوا بعد سنوات قليلة حجم الكارثة المحدقة بالوطن كله، وبالطبع فقد أزعج وأغضب ما كنت أكتبه وأعلنه، كصحفى ميدانى في قلب الأحداث الملتهبة، جماعات الإرهاب، ونالنى الكثير من التهديد والوعيد، بل ومحاولات الاعتداء والقتل. والآن، أشعر بالارتياح، واسمحوا لي أن أقول بكل فخر وأنا على أعتاب الثالثة والخمسين من عمري، إننى خضت تلك المعركة بكل الحب والإحساس بالمسئولية تجاه وطنى وأهلي ومستقبل أولادي، وما زلت واقفًا في ساحة الدفاع عن الوطن، ضد الإرهاب وجماعاته، حاملًا تلك الأفكار التي سكنتنى منذ ثلاثين عامًا، لم أبدل ولم أتبدل، فالمعركة مستمرة، ولكنى على ثقة أن مصر ـ وبتضحيات ووعى شعبها وقيادتها المخلصة ـ ستنتصر بإذن الله.