حين كان«جلال الدين الرومي» يعيش حياة طبيعية كغيره من جميع البشر لا هدف له غير أداء مهمته ووظيفته في الحياة كحال بقية الناس.. ولما كانت الأمور لا تسير في خطٍ واحد دائمًا.. ففي لحظة فاصلة وخاطفة ووسط الزحام الشديد وتحديدا في سوق«قونية» فقد أتى من قلب الصورة رأسًا على عقب إنه «شمس تبريزي»الصوفي العاشق غريب الأطوار.
هذا الشيخ الكبير رث الثياب الذي ظهر فجأة من بين جموع الناس الغفيرة قاطعا الطريق واقفا وضاربا بيده بغلة «الرومي»ليمنعها عن المسير أو حتى القدرة على التحرك! فتصدر شحيجها المرتفع رافعة أرجلها الأمامية حتى كادت أن تسقط الرومي من فوق ظهرها والذي بادر بالنزول مندهشا من هول ما حدث مخطوفا إلى أنوار هذا الشيخ المهيب ذا النظرات العميقة ذات البعد الطويل وكأنها تنظر إلى ما خلف الأكوان! فكأن القدر قد نسج خيوطه وقال كلمته لتتحول حياة «الرومي»كلية إلى حياة غير عادية ليكتب لصاحبها الخلود الأبدي.
نمضي في الحياة بين فصول متعددة من الأقدار.. تواجهنا نصوص قدرية متعددة للقراءة الروحية والاستقراء النفسي وصولا إلى التدبر والعبر فمن وقف أمامها وصل إلى الاعتبار والاقتدار والانتصار ومن تجاهلها ارتمى في غياهب «المحن» وغيابت «الانهزام».. وسط خضم بحر لجي مجهول من الأقدار تسير سفينة الإنسان الذي يمتلك بوصلة «عقل» بمؤشرات «مجهولة» واصطدامات جاهلة مع المستقبل لا تعرف «المصير لأنه في حكم «المتلقي» و»المسير» وفق آفاق إلهية عليا وغيبيات ربانية لا يعلمها إلا صانعها وكاتبها سبحانه وتعالى. ووسط لحظات من السكون والجمود تلعثمت الكلمات على شفاه«الرومي» مبادرا بالسؤال:من أنت؟ ليبادره«التبريزي»: أنا حقيقتك التي تبحث عنها! ها أنا قد جئت لك الآن في هذا المكان مدفوعا نحوك بقوة خفية لأكشف لك أحوالا وأنوارا تكون أنت مستودع أسرارها.
ما جئت لك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت! ترك«جلال الدين»دابته راميا لجامها على عنقها فهي تستطيع أن تذهب إلى حيث جاءت أما هو فلن يستطيع الرجوع بعد اليوم عن غايته التي كان يبحث عنها. فكيف لمن رأى النور أن يتسلل الظلام الى قلبه مرة أخرى؟ مشيا الرجلين يشقان الزحام الشديد بين الناس إلى أن وصلا إلى كوخ بعيد كان أشبه بخلوة«للتبريزي»تسبح فيها روحه في حضرة العشق الإلهي حيث لا أين ولا بين حتى تقع العين على العين.
سأل«التبريزي»«جلال الدين الرومي»: "يا إمام المسلمين، أيهما أعظم؟ أبو يزيد -ويقصد به أبا يزيد البسطامي- أم محمد - ويقصد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فأجاب الإمام جلال الدين بأن السماوات السبع قد اهتزّت من هيبة ذلك السؤال، وكأنَّ نارًا قد شبّتْ في باطنِه وتصاعدت إلى رأسه، ثم أجاب: إنَّ محمدًا هو أعظمُ العالمين، فأين منه أبو يزيد؟ فقال التبريزي: فكيف التوفيقُ بين قول أبي يزيد "أنا سلطانُ السلاطين"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "سبحانكَ ما عرفناكَ حقَّ معرفتك؟" فقال جلال الدين إنّ أبا يزيد سكنَ من جرعةٍ واحدة، أما المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فكانَ لهُ ظمأ في ظمأ، وكان له في كل يومٍ زيادةُ قربى، وكان يرى المزيد يومًا بعد يوم وساعةً بعد ساعة من أنوار الحق وعظمته، فصاحَ شمس الدين صيحةً عظيمة إلى أن وقعَ على الأرض. منذ ذلك اليوم كانت الولادة الحقيقية لجلال الدين الرومي، واللقاء المنتظر لشمس تبريزي، وهو اللقاء الذي فتح لكليهما آفاقًا من المعارفِ التي تنطوي عليها الصحبة بمعناها العرفانيّ، فلم يُرَ بعد ذلك اليوم جلال الدين إلا بِصحبة شمس، فهو الذي غدا في نظره الممثل الأول لأنوار الله تعالى وفيض التجلّيات الربّانية، وهو الذي تتمحور حولهُ فيضُ العناية الإلهية التي تقودُ جلال الدين إلى المعرفة الحقيقية التي لم تكن مُتاحةً له من قبل. لله درها من رحلة روحانية غيرت مجرى حياة كليهما، حيث أن«الرومي» تحول من رجل دين عادي إلى شاعر يجيش بالعاطفة، وصوفي ملتزم، وداعية إلى الحب وعكف معه «التبريزي»اربعون يوما انتهيا فيها من كتابة مؤلف(قواعد العشق الأربعون)الذي ترجم رحلة النور وأضحى دستورا في طريق الباحثين عن الحقيقة في دنيا الناس.
ولكن رابط الصداقة الجميل الذي ربط هذيْن الاثنيْن معًا بدأ بالتآكل حتى ٱنفصلا وذلك بعد ثلاث سنوات تقريبا على نحو مأساوي. في ليلةٍ ليلاء لم يعد أحد يعلم أين شمس تبريزي، قال كثيرون بأنه قُتل على يد أعدائه ثم ألقوه في البئر لكي يُخفوا فعلتهم. ويختلطَ على الناس خبر قتله باختفائه الذي كان مرارًا ما يفعله، وقال بعضهم إنّه قد اختفى بالفعل في مدينة«خوي» وتوفّي فيها إذ إنّ ضريحهُ قد بُني هناك، وإلى الآن لا توجد أخبار تجزم بأحد الرأيين. لم يكن جلال الدين يصدق أن شمس قد مات، وإنما كان على يقين بأنه قد ابتعد وهاجر كما هي عادته في السفر والترحال والابتعادِ عن العيون، وكان يصرفُ الجوائز لمن يأتي له بخبرٍ عن شمس إلى جانب بحثهِ عنه.
وقد روى الأفلاكي أنّ رجلًا دخل عليه مرةً وقال إنّه رأى شمس، فخلعَ عليه جلال الدين عباءَته، فقيل لهُ: "إنّ الرجل يكذب، فلمَ أعطيتهُ كل هذا القدر مقابل كذبه؟ فقال جلال الدين: أعطيته هذا القدر مقابل كذبه، ولو صدقَ لكنتُ أعطيتُهُ روحي! وعلى كل؛؛فيبقى شمس تبريزي رمزًا لا يمكن الوصول الكامل إلى معرفة أسرارهِ، أو وصفه بالشكل الأمثل وبالقدر الذي يستحق إلا من خلال العبارة الشهيرة: "وصفوهُ ولم يرَهُ أحد".
آراء حرة
شمس التبريزي وجلال الدين الرومي
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق