السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"حكايات من زمن الوالي".. متعة التنقيب في الهامش

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ابتعد الكاتب الصحفي عماد الغزالي في كتابه "حكايات من زمن الوالي" الصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عن التاريخ الرسمي لتلك الفترة الزمنية التي شهدت تولي محمد على باشا حكم مصر "1805-1848" موغلا في التاريخ الهامشي والمدون في شكل تفاصيل صغيرة جانبية، مستهدفًا بهذا قراءة كاملة للصورة فترة حكم الوالي محمد على.
تكتسب الحكايات أهميتها كونها تكشف عن طبيعة العلاقات الاجتماعية، وتأثير التطورات السريعة والمتلاحقة على الدور المصري حين أصبحت مصر إمبراطورية كبيرة تهدد عرش الدولة العثمانية التي استعانت بأوروبا لتحجيم دور الوالي الخطير، كما يكشف المؤلف عن أدوار عدد من الشخصيات، ودور عدد آخر من الوظائف والمناصب، ما يساعد القارئ في "فهم تحولات المرحلة وانحيازاتها وتوتراتها".
أعطى الغزالي لحكاياته بُعدا أدبيًا، فباتت قريبة الشبه بالعمل الروائي، حيث تعامل مع مادته بشكل فني وأدبي، بدأه بطريقة الفلاش باك حين تقرأ في فصله الأول مرض الوالي محمد على باشا وانتهاء عنفوانه وسطوته، وتدخل الخيال في الفراغات المناسبة لاستكمال المشهد المنقوص، وهو ما يلمحه القارئ بوضوح في هذيان الباشا وحديثه عن تاريخه بشكل بطولي مقتضب، ورسالة الجندي عبدالله، أو مشهد عودة القائد المنتصر إبراهيم باشا، أو مشهد تعليق شيخ البلد كالذبيحة وضربه بالسياط. فكلها تصورات قصصية أضافها الكاتب لملائمتها مع روح التاريخ أو كما يقول "التخيل المستند إلى معلومات موثقة"، يما يلفت إلى استيعابه للحظة التاريخية بكل ملابساتها بشكل جيد.
شهرزاد في زمن الوالي
خلال حكاياته يلفت المؤلف إلى أهمية دور "كوشك هانم" التي قادته عبر الدروب الوعرة والسطور القليلة المنثورة في بطون المصادر؛ ليستكشف عالمًا غائبا يمثل صورة كاملة لحياة الإنسان المصري الذي عاش إبان تلك الفترة، فيرصده وهو يقع تحت سياط المحتسب، وتحت كرباج الإنكشارية التي تجمع أبناء الفلاحين للجندية وتعاقب شيوخ القرى للتستر على المتسحبين، يرصده وهو جندي متشبع بالحماس يحارب في صفوف الجيش ويشتكي فقر الحال بعد فقد الأرض، يراقبه وهو مع زوجته، وفي تجارته، وزراعته لأرضه، وفي كسله، وأثناء نشاطه ودأبه.
وإذا كانت "كوشك هانم" نموذجًا لسحر الشرق الذي قرأ عنه الكاتب الفرنسي فلوبير في "ألف ليلة وليلة" وأحب أن يراه، وتحقق بالفعل عند زيارته لمصر، والمجيء لهذه الغانية المثيرة، فإن "كوشك هانم لعبت دورا في الحاضر أشبه بدور شهرزاد ولكن بطريقة مختلفة نوعًا ما، فهي لم تقدم الحكاية كما في الماضي، بل دفعت المؤلف للتنقيب عن الحكايات.
ويكمن دورها الذي لعبته –لا في زمنها التاريخي- ولكن في وعي المؤلف، حين دفعته السطور القليلة المكتوبة عنها إلى التنقيب عن وجوه حكايات هذا الزمن، حيث الشخصيات التي اختفت عن المشهد "لكن تأثرها فيه كان بالغا، وأن صياغته دون الإشارة إليهم وتتبع مصائرهم والاحتفاء بوجودهم ينقصها الكثير".
شخصيات حول الباشا
انتقى المؤلف عددا من الشخصيات المؤثرة في زمن الوالي، مثل كلوت بك ودوره في الإصلاحات الصحية، وبغوص ودوره في التجارة والعلاقات الخارجية والتركيز على بدايته المؤسفة حيث الحكم عليه بالإعدام ونهايته الدرامية بعد مرضه وموته متحسرا، والسيد عمر مكرم وعلاقته بالوالي وبالشعب وبالجبرتي من ناحية أخرى، وشهبندر التجار المحروقي وقصته التي كانت مدخلا للنظر في أوضع التجار وتنامي ثرواتهم.
في فصل "العنكبوت العجوز" نلمح ضعف وانهيار الوالي الرجل الأسطورة، يداخله أسى على حلم الإمبراطورية الذي تسرب من بين أصابعه، وفي الوقت نفسه نرى كيف صنع لدولته تاريخًا، ولنفسه سيرة ذاتية مليئة بالدأب والشقاء، ولأولاده مجدا كبيرا.
وفي "صفعة عل وجه رفاعة" ينتصر الوالي لرفاعة الطهطاوي أمام طالب ألباني دفعته جنسيته للتطاول على ابن الفلاحين، ويرسل لمدير نظارة المدارس يأمره بتنفيذ القانون بحق الطالب؛ لأن استرضاء رفاعة أكثر ربحًا من الأموال التي ينفقها الطالب في المدرسة. ويستغل المؤلف حكاية الصفعة لتكون بابًا لمعرفة حقيقة تنفيذ القانون عند الوالي، وليكشف لنا أن تعامل الوالي مع القانون كان بحسب تحقيق المصلحة، ففي أمثلة لوقائع فساد تغاضى الوالي عن تطبيق القانون مقابل الاستفادة من خبرة الموظف.
ينتقل المؤلف إلى مصطفى الكاشف ووظيفة المحتسب، حيث يلقى الضوء على المظالم الكثيرة التي تقع بسببه، وعلى أشكال التعسف في التعامل مع التجار والباعة، واستغلال سلطاته لجمع المال، وفي الوقت نفسه فإن الحزم في التعامل كان في صالح المواطن العادي الذي شعر بوجود البضائع دون احتكارها، أو الغش في الميزان.
وعن دور "شيخ البلد" يدخل المؤلف إلى عالم استغلال المنصب مجددا في جمع المال والاستحواذ على مزيد من الأراضي أو تلقي الرشاوي مقابل التستر على المتسحبين من التجنيد، ثم يستعرض عددا من حركات التمرد التي نشأت بقيادة ورعاية شيوخ البلد.
في "المؤرخ" يقترب المؤلف من شخصية عبدالرحمن الجبرتي مؤلف "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" الذي نقل بدقة واقع الحياة العادية والاجتماعية في مصر إبان تلك الفترة التي عايشها، ولا يغفل المؤلف التعليق على تعنت الجبرتي في تقبل الوالي محمد على، وقسوته البالغة وانتقاده الحاد لأغلب سياساته، يستعرض الأسباب التي دعته إلى ذلك، وأسباب رفضه إلغاء الالتزام ومصادرة الأراضي، وقبوله التعامل مع الفرنسيين والدخول في مجامعهم العلمية.
شهادات ذاتية وأخرى أجنبية
مزج المؤلف بين نوعين من الشهادات الحية عن زمن الوالي، أولها شهادات ذاتية تمثلت في كتابات الجبرتي أو رفاعة الطهطاوي في "تخليص الأبريز" أو رسالة الجندي عبدالله، أو رسائل الوالي لأبنائه، وبين شهادات أجنبية تمثلت في كتابة كلوت بك أو نوبار باشا أو إدوارد لين وشقيقته صوفيا لين.
فحينما أوكل الوالي عبء النهوض بالأوضاع الصحية لـ "كلوت بك" سارع الرجل بدراسة الأمراض وأوضاع الحياة في مصر، وكتب عن ذلك في كتابه "لمحة عامة عن مصر" وتطرق الرجل –وفق المؤلف- إلى ميل الوالي إلى الاستبداد لكنه رأى فيه في الوقت نفسه الطريق لاستعادة مصر أمجادها، فالرجل يؤيد "إكبار محمد على لأنه جعل وسائل التقدم والإصلاح ممكنة في مصر"، كما علق على عيوب المصريين مثل: الجشع والكذب واحتقار معتقدات الآخرين وكثرة المنازعات والرغبة في الثأر، وأيضا التعنت وصلابة الرأي. كما سجل إعجابه بالعمال من أبناء الفلاحين وقدرتهم السريعة في اتقان صناعة الآلات الخاصة بالملاحة.
أما إدوارد لين فقد زار مصر في العام 1825 وخالط الناس، وكتب عن المصريين بشكل تفصيلي في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، سجل من خلاله عادات المصريين في: التدخين والأطعمة الحياة المنزلية والعلاقات الزوجية، ووضع المرأة في الطبقات الدنيا، تأثير الخرافة في فكر المصريين وارتباطه الوثيق بالدين، إظهارهم الزائد للتقوى والورع، وولع المصريين بالغناء والموسيقى، وحبهم للحكايات الشعبية.
أما شقيقته "صوفيا لين" فقد وضعت كتابها "حريم محمد على " لتكون -وفقًا للمؤلف- استكمالا لدراسة أخيها المستفيضة عن مصر لأنها تناولت جانب المرأة وخالطتهن في الوقت الذي يصعب على شقيقها أن يفعل ما كان سهلا لها.. تحدثت عن الجواري وحريم الباشا، وزواج الجواري المعتقات من رجال أقل منهن رتبة، وعدم الوفاق والترابط بين الأبناء غير الأشقاء.
وانتبه المؤلف لشهادات الكاتب الفرنسي فلوبير، فوضعها في إطارها ودوافعها، حيث سرد فلوبير عددا من القصص الجنسية الساذجة التي يصعب تصديقها والتي غالبا قد تكون من خياله، وهذا في إطار إعجابه وتفاعله مع "سحر الشرق"، حيث يعلق عليه إدوارد سعيد -كما ينقل المؤلف- "أنها محاولة لتشكيل عالم خيالي بديل عن عالم الواقع الغربي".
كما ينقل مرويات الجبرتي عن تعامل الملتزمين مع الفلاحين الذين يتأخرون في دفع الضرائب المستحقة عليهم، والطهطاوي عن منح الوالي الأراضي للأجانب وانتباهه لكونهم يقدمون خدمات جليلة مقابلها..
وتوسع المؤلف في عرض رسالة الجندى عبدالله إلى الوالي لكونها مدخلا لرصد كيفية جمع أبناء الفلاحين عنوة رغم تشديد الوالي على تحفيزهم وضرب المثل لهم بالجنود الفرنسيين الذي يخدمون دينهم، إلى جانب التعرف على طريقة التعامل مع جرحى الحروب، والتدريبات في معسكر التدريب، والحروب التي خاضها الجيش والمخالفات البشعة المرتكبة من قبل الضباط الأتراك والألبان..
احتقار معتقدات الآخرين
يلمس القارئ خلال رحلته مع الحكايات نوعا من العنصرية الكريهة والتعالي الديني الفظ، وهو ما تدعمه الحكومات الدينية فيتجلى على ألسنة العامة، بعكس ما يقوم به شكل الدولة الحديثة من تدعيم قيم المواطنة والمساواة، حيث نقلت المصادر المتنوعة التي استند إليها "الغزالي" انتشار بعض الألفاظ المشينة والقبيحة عند ذكر أحد من أتباع الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية.
ففي كتابه "لمحة عامة عن مصر" يوضح كلوت بك أن من عيوب المصريين احتقار معتقدات الآخرين، فـ"المسلم يعتز بدينه ويعلو به على سائر الديانات، والنظر بعين الاستخفاف والاحتقار إلى المتمسكين بغيره، فلا ترد على لسانه كلمة يهودي أو نصراني إلا ويتبعها بوصف الكلب أو الكافر".
أما نوبار باشا يسجل اندهاشه من جنازة عسكرية أمر بها الوالي لخاله بغوص، لأنه "لم تكن تجرؤ شخصية كبيرة على مصافحة مسيحي في الطريق العام حتى لو كان صديقا أو أقرب إليه من أقربائه سوى بإيماءة أو بحركة من الرأس"، فكيف تصطحب قوات مسلمة مسيحي لمثواه الأخير؟!
بينما يرصد إدوارد لين في "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" تعلم أطفال المسلمين سلسلة من الشتائم واللعنات التي يذمون بها أصحاب الديانات الأخرى، لكنه يعود للتفريق بين عموم المسيحين من الأوربيين والفرنجة وبين مسحيين البلد، مؤكدا أن المسلمين يعاملون نصارى البلد بكياسة.
الوالي.. صور متناقضة
قدم عماد الغزالي حكاياته عن زمن الوالي من باب كونها "نزهة في سنوات حكم والي مصر الأعظم محمد على باشا"، ورغم محاولات إظهار جوانب الإصلاح والنهضة؛ فإن المؤلف نجح في ظهور تباين صورة الوالي بين الحاكم الإصلاحي والمنقذ، وبين المستبد والطاغية، لكنه على أي حال شخصية عظيمة، وهو ما يتوافق مع رؤية مؤلف كتاب "محمد على وأولاده" المؤرخ جمال بدوي، والذي حصد منذ البداية إهداء كتاب "حكايات من زمن الوالي".
يعتقد "بدوي" أن الوالي محمد على اكتسب صورتين متناقضتين "كلاهما يقع على طرف يبعد عن الآخر بعد المشرقين.. في الأولى يطل علينا محمد على في صورة المصلح والمنقذ والبناء العظيم، وفي الثانية يبدو جبارا طاغية غليظ الفؤاد يتحكم في مصير البلاد كما يتحكم المالك في ملكه.. وليس من شأن هذا التناقض أن يزعجنا.. فمن شأن عظماء التاريخ أن تختلف حولهم الأقوال على مر العصور".
في النهاية اختتم عماد الغزالي كتابه بمجموعة من الرسائل التي بعث بها الوالي محمد على إلى الأبناء وموظفي الدولة، توضح مدى اهتمام الباشا بالنظام، ومدى تفهمه للعلاقة الروحية بين القائد وبين رجاله، وضرورة التفوق في الدراسة لأنها هي السبيل لشغل المناصب والدرجات العالية، كما حذر ابنه من الوزن الزائد ودعاه لضرورة الانتباه لهذا وإلا أجبره عليه جبرًا، كما أوصى بالبعد عن الغرور، وغير ذلك من التوجيهات المهمة التي لجأ إلى تعزيزها في دولته بشكل دائم.