في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
23 – أبو نواس
"وجدتُ أقلّ الناسِ عقلا إذا انتشى
أقلهُم عقلا إذا كان صاحيا"
شهادة كهذه، صادرة عن خبير ذي باع طويل في تاريخ مجالس الشراب، ينبغي أن تحظى بما تستحق من التأمل والاحترام. قد يكون المختلفون مع رؤية ابي نواس أصحاب منطق وجيه متماسك؛ أولئك الذين يقولون إن التغيير الجذري وارد متاح بفعل نشوة الخمر التي تطيح بالثوابت جميعا دون عناء، لكن الشاعر الفذ الحكيم لا ينشغل في بيته الفريد برد الفعل السطحي ذي المحتوى الظاهري المخادع، بل إنه يصوب بقوة وإحكام في اتجاه العقل وحده، البناء الضخم الذي لا يهتز بفعل كأس أو عدة كئوس.
للخمر سطوة وقدرة هائلة لا يمكن إنكارها على زلزلة ما يسهل التأثير فيه وتغييره، لكن النفوذ في نهاية الأمر محدود محدد وليس مطلقا. يشرب السفيه فيبقى سفيها، ولا يتخلى العاقل الرشيد بالشراب عن عقله ورشده. الفارق هائل، يُقاس بالسنين الضوئية، بين الراسخ المستقر والثانوي الهش. قد يبكي من يمثل دور المتزن المتماسك، ويقهقه الحزين المعذب بالوجع والألم، لأن الخمر تزيل قشرة العقل الزائف، لكنها لا تملك أن تعيد التشكيل عندما يتعلق الأمر بالجوهري الأصيل من ملامح وسمات الشخصية الإنسانية.
أبو نواس فيلسوف وعالم رائد في علم النفس، لا يرى السطحيون المتعجلون إلا القشور من فيض عطاياه، وأمثاله يشربون فيزدادون وعيا وعلما، وينثرون الحكمة.
