الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداع|| "المؤلف وقصته".. قصة للكاتب صبحي شحاتة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم ولن أمت أبدا، فأنا وقصتي الجميلة واحد خالد أبدي.. لم أبحث عنها، وإنما هي أتت إليّ ذات مساء، وطرقت بابي، كنت مثلك أيها القاريء، منذ صباي الغض عاشقا للقصص، أقرأها كل الوقت، يقظان، أو نائما أحلم بها، وأحسد الكتاب الكبار، عتاة الصابرين هؤلاء تتهاطل عليهم بنات الأفكار بيسر وسهولة، وهم يتلقونها يقظين، حتي استطاعوا إدهاش العالم بما أبدعوا، وكنت لا أتصور أنني سأكون مثلهم، فكيف تأتي لي فكرة قدرة كهذه، ولو حتي في صورة أمنية، كنت ظالما نفسي بسذاجة طبعا، قائلا: أنا مجرد محب للأدب والفن والجمال، مثل الجميع! رغم أن الحب ليس انفصالا عما نحب، وإنما اتصالا حميميا به، حتي نكونه ويكوننا ونتسع ببعضنا ونزيد ونكثر؛ وأقول أيضا: لا ميزة لدي! رغم أننا في الأصل مميزون، ولو لم ننتبه، بل إن كل شيء لا يمكنه الظهور في العالم، إلا عن طريق الاختلاف والتميز، فالنهر غير الشجرة، غير الجبل، غير الإنسان.. وأقول: لا شوق خاص لي! رغم أن الاشتياق لا يمكنه إلا اشتياق ما يشبعه هو، وإلا لو كان شوقي هو شوق غيري، لأشبع غيري شوقي، إذا أشبع شوقه، ولو كان غيري بعيدا عني بعد السماء عن الأرض، وأقول إنما أنا عابد مخلص لآلهة الإبداع فحسب، رغم أن الإنسان عمل فني بذاته المميزة الفريدة، أبدعته تلك الآلهة الطبيعية، وأطلقته في الحياة، حتي وأنا أجرب كتابة الحكايات متصورا أنها قصص فنية، كنت أفعل هذا علي سبيل اللعب فقط، مثل الولد يلعب بالكرة الشراب "في الحارة، بعدما يتفرج علي مبارة كرة قدم حقيقية في التلفزيون، للفرق الكبيرة، فقط يحاكيهم، يجري وراء الكرة يشوطها يراوغ الفراغ متخيلا أنه في ملعب حقيقي، حتي يتعب ويعرق ويهمد، ويجلس بجوار الحائط المترب والقمامة والعفن والصمت ساهما ناظرا بعين خياله إلي كبار اللاعبين، دامعا وعارفا أنه محكوم عليه إلي الأبد بالحب فحسب، لكن دون اللقاء بمن يحبه.. وكنت حتي أثناء هذا، أكتسب من الشعور بالنبذ بجوار الحوائط، شعورا آخر بالفخر الساذج، كأني أمنع نفسي أن أكون كاتبا بإرادتي الحكيمة، فالإنسان يحب مكافأة نفسه بأي حال، ولو كان الحال متناقضا وغير مفهوم، وأقول: إن كنت لا أستطيع أن أكون كاتبا حقيقيا، فعلى الأقل، أنا محب حقيقي للكتابة الحلوة الخالدة.
كان الكُتاب في خيالي مصابيح مضيئة في ليل العالم، أنظر إليهم بكل الحب والامتنان، كطفل ينظر إلى السماء فيرى الآلهة تجري وتلعب فوق سطحها الشفاف الخرافي، فأدمع ويرتجف قلبي، ليس لأنني لست معهم، بل لأنني قادر علي رؤيتهم فحسب، وأنهم سمحوا لي برؤيتهم، فكثير من الناس إن لم يكونوا كلهم، لا ينظرون إلي السماء إلا لمعرفة الطقس، هل هي صافية، أم عكرة، تمطر أم جافة، ولا يرى أحد خصوصا عند الغروب حديقة الآلهة مزهرة يانعة فوق سطحها الشفاف سواي، ولم يكن يمكنني طبعا التصريح لأحد ممن حوليبرؤيتي تلك، لأنهم علي الأقل يبتسمون من استبداد الوهم الشعري بي، أو في أحسن تقدير يرون أمنيتي بأن أكون كاتبا، تتمثل لي حديقة تزهر وراء السحب، تعبيرا عن إحساسي باستحالتها عليّ، وكنت أكتفي كل يوم، حتي يغلبني النوم، الانكباب علي الكتابة محاكيا الكتاب الصبورين المحبين، ألعب بالكلمات فحسب، كأنني بذلك دون دراية أطرق جدارا صلبا غليظا، يحيط روحي، ويسجنها، رغبة مني أن ينفتح يوما، وأرى عالم الآلهة كله مرة واحدة، ولو من انبهاري به مت مصروعا، ذلك أن الحياة في نظر الفنان تهون إن لم تكن منجبة، كان يكفيني لمحة واحدة خاطفة إلي عالم الخلود، قبل موتي، فدون هذه اللمحة لا حياة لي، كانت روح التواضع الملعونة تستبد بي، وتنهشني نهشا، فلم أعرف يوما الثقة بالنفس، ولا الغرور الجميل المحفز، ولا تلك اللامبالاة العتيدة الباردة، تمسك بالكثير من الكتاب الحقيقيين، يدخلون غابة الإبداع بجرأة وحشية، يصطادون منها ما يريدون من أفكار، ويعودون بالمجد، كأنما دون عناء يذكر، بل يكررون الدخول والخروج، أينما أرادوا؛ هم بالنسبة لي كائنات متفوقه عارمة رهيبة، وأنا مجرد إنسان عادي جدا للأسف، آخر قدراته الوقوف هناك بعيدا لصق الجدار، يتطلع إليهم- وهم في الحفل- دامعا، وشاكرا للظروف إتاحتها له الرؤية عن بعد فحسب.. إن التواضع لما يستبد بالواحد يهلكه إهلاكا، وهذا ما كنت عليه هالكا، متضعضا، كتلة من المشاعر المخفقة، تقف وراء فتارين المكتبات تتأمل القصص والروايات والأشعار الجميلة، أزرف الدمع محروما بحق، حتي ظننت أنني سأكون دائما هكذا، عبدا تافها، يمر تحت سماء الآلهة اللاعبة هناك في حديقة المجد الأدبي العظيمة..
ولعلك تستهين أيها القاريء بهكذا إحساس، لأنك لم تجربه، وهذا يعني أن هناك نوعين من القراء، الأول يظل قارئا فحسب طيلة عمره، يراقب عالم الآلهة عن بعد متلذذا بالمراقبة الآمنة، والآخر يتحول إلي كاتب، لا يكتفي بما يقرأه فحسب، وإنما يعيد كتابته في خياله، أو ينشئ من نفسه كتابا جديدا يقرأه بكتابته، فيصير القاريء الأول لما يكتبه، وقارئا نفسه، التي استحالت كتابا مستقلا عنه، وهو في البداية لا يصدق نفسه، التي خرجت منه، وواجهته في صورة عمل فني جميل، لا يصدق أنه انجب طفلا جديدا روحيا للعالم، ومن ثم يهمل الكثير من الأفكار التي هي تجسدات لنفسه، إذ صارت نفسه تخرج منه إلي العالم الخارجي، في صورة أفكار تتوه فيه بلا رجعة، أو تعود إليه وقد كبرت واشتدت، تطالبه بكتابتها رغما عنه، وكأنها قطعة حية من جسده غير المرئي، حيث إن للكاتب جسدين، الأول بيولوجي، والثاني شعري.. والجسد الشعري هو امتداد للجسد البيولوجي، فالنظر امتداد للعين علي كل ما تستطيع رؤيته، وكذلك السمع والشم والتذوق واللمس، وليس هذا فحسب بل كل ما يمكن تخيله يصير امتداد اللجسد البيولوجي في صورة الجسد الشعري، هكذا يستطيع الكاتب مد جسده علي الكون كله، فأية نعمة أن يكون الإنسان كاتبا مبدعا.
ثم حدث شيء، أو بالأحرى تمرد شيء بداخلي، أو سرقني شعور، في الحقيقة ساعدني، وهرّبني من سجن التواضع اللعين ذاك، وشدني شدا، فشعرت بالحرية والقدرة على- ليس القراءة بشغف وحب فقط- وإنما علي قول - هكذا مرة واحدة- أنني أستطيع فعل الإبداع هذا، بل أستطيع الإتيان بأحسن منه. وهنا وفي التو غادرتني القوة الساذجة كلها، أقصد قوة الاستغناء بالتواضع الوهمية، وشعرت بأن التواضع، سلاحي الورقي القديم، سقط مني، إلي غير رجعة، وبت علي لحمي ودمي، مرتجفا خائفا من ريح، تهب عليّ، وأنا متردد الخطو، خطوة واحدة إلى قصتي، التي أتت تخبط على بابي ذات مساء..
***
نعم، لك أن تتصور ذلك أيها القاريء المحب، فالقصة عند بعض الكتاب، أنا فرضا أشبههم، تأتي وحدها لهم، هبة من الوجود، وتقوية؛ ذلك أنني من كثرة ما فيه من تردد، وظن، بأنني لو أهديت هدية، لن أستطيع الحفاظ عليها، وأبددها، وأخربها، كنت مشلولا حرفيا أجلس ذاهلا، تصطك أسناني، فيما أسمع الطرقات علي باب موهبتي وقدرتي على الكتابة، وأتساءل هل أنهض وأفتح وأنظر إلى العالم الرائع، وهل أتحمل صعقته، أم أموت من فوري، وأين حياتي أصلا حتي أخاف عليها من الصعق والموت. لا لم يكن الأمر متعلقا بالخوف على حياتي، وإنما روح التواضع اللعينة تجعلني أشفق على زائرتي الغالية من بيتي الخرب وعزيمتي الخائرة، وأرغب تركها بابي، إلي غيري، أكثر مني شجاعة ورجولة وقوة واحتراما لنفسه، يرعاها كأب حقيقي.. لكنني نهضت فجأة منفجرا بالبكاء صارخا عليها:
- أنا هنا، أنا قادم، أفتح لك.. لحظة واحدة يا صديقتي الرائعة ..
هكذا جاءتني القصة هذه، التي تقرأها الآن ياعزيزي القاريء وأتمنى أن تقدرها حق قدرها حقا، مثلما أقدرها أنا، لأنها تستحق ذلك، وحتى أقدم لك الأسباب التي تعينك علي هذا التقدير، أدعوك لتخيل هذا المشهد:
رجل عجوز في آخر عمره، - هكذا أتخيل نفسي دوما- وحيدا، لا أسرة له، وأصدقاء، منتظرا أن يزوره أحد قبل موته، يسمع طرقا علي بابه، يظنه في البداية وهما، فمن يأتي في هذه الساعة من الليل له، هو الوحيد الفقير المتواضع البكاء، عائش على رثاء ذاته المهملة، ذاهلا دوما، جالسا أبدا تحت الحوائط البعيدة، وسائرا تحت السماء العالية جدا، تصغّر جسمه، حتي تجعله أقل من حشرة، من هباء، وهم، وخيال، وظل عابر، تطوحه الريح في هوة الأرض السحيقة..
وهاهو أخيرا العجوز يمشي إلى بابه، مفضلا تحريك قدميه عن الاستمرار في الجلوس مقيدا، يفتح الباب قليلا، يطل منه إلى الطارق، فإذا بفتاة جميلة صغيرة باسمة تدفع الباب بقوة وتدخل، ممسكة يده، تقوده إلى الداخل، ضاحكة راقصة قائلة:
بابا، بابا، أخيرا وجدتك ..
هكذا أتتني القصة هذه، وكان عليّ إما طردها وإغلاق بابي، أو استقبالها، لكنها لم تمنحني فرصة الاختيار، إذ دخلت بنفسها بيتها، وعثرت فيه على أبيها فعلا، دهشت طبعا، وقالت نفسي: اجعلها عندك بعض الوقت، ووحدها ستعرف أنك لست المقصود، أو أبقها، على الأقل، حتى تعيش الإحساس الحقيقي، بأنك كاتب فعلا، فكم تمنيت دوما أن تعيشه، وها هو يحدث لك.
هكذا كنت يوميا أعود إلى بيتي، أفتح بابه مصغيا السمع، لدبيب قدميها أو صوتها أطمئن على مغادرتها، لأنها لابد عرفت بالتجربة والمعايشة أنني مجرد شخص عادي، غير موهوب ولا يحزنون، وأن الثقة بالنفس لا تهبط على الكاتب هبوطا من السماء، وإنما هي طبيعة فيه وغريزة، تشير إلي قدرته وقوته وقبوله للمسؤلية، فليس سهلا أن تكون أبا جيدا، ثم أدخل ببطء وقلبي واجفا من صدمة معرفتي أنها غادرت، أتجول في الشقة الصامتة وغرفها المعتمة، باحثا تحت المناضد، والسرير عنها، أبكي حالي بدموع الخيبة والنقص والهزيمة، فإذ بها تضع كفها الصغير على كتفي، ثم تدخل برأسها تحت السرير معي قائلة بمرح:
- عم تبحث ياويكة؟ أم تراك تلعب دوني تحت السرير؟
فيكاد يغشى عليّ من الفرحة، والألفة، والجو البيتي الحميمي، ونعمة الحظوة خصتني بها، والاطمئنان لحقيقة بقائها معي، مهما كانت الظروف، وأنني الآن غير ما أظنه بنفسي، فنان حقيقي، لي قصة ينبغي إكمالها، وتحمل خلقها، كلمة فأخرى، وسطرا بعد سطر، وفقرة تلو أخرى، وصورة تتراكب على صورة، وإحساس يلد آخرا، ويتولد من آخر، حتي أنشئها بما يليق بها، ولقد نجحت في ذلك، كما ترى ياعزيزي القاريء؛ فالحقيقة أن تلك القصة سرقتني من نفسي القديمة المتواضعة التافهة، وخلقتني خلقا جديدا حقا، فصرت كائنا إنسانيا حقيقيا يشرّف اسمه، ويستحق الانتماء للبشر بحق..
***
كنت يوميا منذ المساء حتى منتصف الليل أجلس إلي مكتبي، أكتب بكامل الجدية والالتزام والحب، فيما طيلة النهار هي في رأسي وخيالي، لا يستطيع همّ من همومي الحياتية الكثيرة إبعادها عني أبدا، مهما تراكمت عليّ مطالب الهموم تلك، وما الهموم الحياتية تعطل تحقيق الذات إلا وهما، حتى في الندوة الأدبية أذهب إليها بانتظام كل أسبوع، أجلس صامتا، أستمع ليس إلى أعمال الكتاب يقرأونها بحماس علينا، وإنما إلى صوتها يتردد في سمعي، كأنه صوت من أصوات الجنة، لكني أخشى الإمساك بالقلم لأدونه، وسط زحام الحضور، رغم إشفاقي عليه من الضياع، متشككا في قدرتي اختيار الكلمات المناسبة.. ناهيك عن إحراجي أمام الآخرين، يروني وسطهم منعزلا أكتب، كأنما الوحي هبط، فيسخرون مني، سخريتهم اللطيفة، لكن القاسية جدا، حيث أبدو لهم في حال المجذوب، أو أنني أفتعل مظهر جنون الفنان، أعرضه عليهم، حتى أنال تقديرهم، وكم هم قاتلون الأدباء، لكل مختلف فريد، رغم تشدقهم بالمختلف والفريد، فلا أعرف ماذا أفعل حال التناقض هذا، بيني وبين نفسي، وقصتي، والعالم الخارجي، الطارد لكل اختلاف عنه، ثم أخيرا، عدم يقيني أن انعزالي لتدوين ما يخطر على بالي، متدفقا الآن وهنا، جيدا حقا، وليس مجرد توهم، ثم إنهم خصوصا المجاور ليّ، لا يفتأ يزغدني كل حين، متظارفا قائلا بصوت عالٍ، يُسمع الآخرين بما فيهم الأستاذ: صحي النوم يا فنان، موحيا أنه لا يفضحني أمامهم، وإنما لأنتبه، حتي إذا سألني الأستاذ الشاعر الكبير والصحفي اللامع، رأيي في القصة أو القصيدة، التي قيلت في التو، يجدني يقظا، وليس مجرد كمالة عدد، فلما لا أنطق، يؤثر هذا على اهتمامه بي، فهو مش فاتح الندوة للاستراحة وشرب مشروب على حسابه، والسخي يحب الأسخياء مثله، ولا يوجد اهتمام من طرف واحد.. هكذا أُنزع من نفسي، بعدما وجدتها، فتهرب مني القصة خجلة قائلا:
آسفة يا أبي، جئتك في الوقت غير المناسب.
فأكاد أبكي وأتطلع إلى الأستاذ على رأس المائدة، مستنجدا به، فيرفع أصبعه الإبهام علامة النصر ليّ، وتقديرا لما أنا فيه من صراع، يسم كل مبدع حقيقي، ليس ملك نفسه، وإنما ملكا لإبداعه، الذي يحب مفاجأته في الأوقات الحرجة، وكل أوقات الفنان وسط الناس حرجة، لذا، إن لم يبد لهم الفنان مجنونا شاذا غبيا، سيرونه لامباليا وغافلا، لا نفع فيه، ولا رجاء منه، إلا إذا فاجأهم بنص جميل جديد مفارق، فيندهشون، ليس كلهم طبعا، ولكن القلة الصادقة منهم، والمغمورة عادة بينهم، أما الأكثرية فتضرب ألسنتها في حلوقها، وتعوّج أفواهها متبرمة مستسخفة ما أتى به الشارد من شروده، يحسبه القيمة الكبري، وهو مجرد متح من أوهام، إن لم يكن هلوسة وتضخيما للذات.. هكذا هم الأدباء مع بعضهم البعض، قتلة محترفون، لا رحمة، لا تشجيع، لا أدب.
***
وعلى الرغم من ذلك كله، وأكثر منه، كان لا بد أن أكون رجلا حقا، وأمضي في رحلتي إلى العالم الجديد، خائضا في المجهول، ولو لم أعد أبدا بشيء ثمين منه، تكفيني المحاولة، وصدقي مع الفن، رغم عدم معرفتي يقينا ما هو الصدق الفني هذا، وإن كنت أؤمن به.
وكانت قصتي تنمو رغم كل شيء بجمال وحرية، حتي أنني من فرط سهولتها، أجزمت أنني شخص آخر، وثمة روح تلبستني فعلا، لابد أنها روح الكتاب العظام، جاءت تساعدني وأحبت إخلاصي وتنسكي في محراب الجمال، ولما رأيت الكتابة بهكذا سهولة يوما بعد يوم، أدركت أنني متحد بالكون كله، ومنحت قدرة التدفق، كالبحر يلقي بأمواجه على الشاطئ، وأسماكه، وكنوزه، وأن تلك القدرة ليست مكافأة علي تواضعي وتذللي أبدا، وإنما نبذ لهما، واكتشافي لموهبتي، وكانت تعوقها ظنوني، وعدم ثقتي في نفسي، أتتني القصة هذه إذن، ليست لتحقق نفسها بي فحسب، وإنما لتنقذني من نفسي الخائرة العدمية البائسة، وتعلن قيامتي بين البشر رجلا حقيقيا، فكنت من فرط التدفق أكتب كأنني ألعب الكرة، ليس وحدي في الحارة الضيقة المهجورة المزبلة، وإنما مع الكبار، يغمرني هتاف الجماهير وتصفيقها وتشجيعها والأضواء وبريقها، والعالم كله يحيط بي، فخورا بإحرازي الهدف الكبير، وتحقيقي المستحيل، أي ولادتي للقصة، وإخراجها إلي الدنيا شابة قوية شهية عارمة بالحياة كاملة، لا شي فيها، بهية رائقة زاهية تسر الناظرين وتبهرهم وتدفعهم إلي الشهيق والتراجع ذهولا من جمالها الرهيب الفاتن، وعزائي الذي جعلني أواصل، أن من يكتبها الآن وهنا، ليس أنا، وإنما روح الفنانين الكبار، تملكتني وتريد أن تبدعها من خلالي، وأن المجد كله لروح الفنانين، وليس لي، لأنني بذاتي التي أعرفها، لا أستحق أي تقدير طبعا، أي أنني استعنت ولو خفية بروح التواضع، التي ألفتها قديما، حتي أستطيع المواصلة وإكمال القصة..
***
هكذا راح الرجل الذي أتته الفتاة الصغيرة الغريبة الشريدة يربيها في منزله مؤمنا أنها ابنته، تمناها في وحدته يوما وراء الآخر، ولحظة فأخرى، وإحساسا بإحساس، وشغفا بشغف، حتي كبرت البنت وصارت شابة جميلة جدا، بل خارقة الجمال الجسدي والروحي معا، لها استقلالها الخاص وشخصيتها الفريدة، عارفة نفسها ومجتمعها والكون، حتى صارت كأنها أم كبيرة، وأنا ابنها، الذي كان أبوها، تعلمني وتقويني، إذ كلما أعدت قراءتها، ظانا أنها القراءة الأخيرة لها، وأنها اكتملت، أجدها تكشف لي المزيد من نفسها، كأنها بلا قرار، أو نهاية، ورغم سروري بنموها وكبرها، أشعر بالخوف من انفراطها، وعدم اكتمالها، حتى صارت قراءتها وإعادة القراءة، وليس تركها تنمو كما تشاء فحسب، بينما أنا أتلقى وأدون، وإنما كان عليّ أن أنتقي مما ترفدني به، كل ماخف وزنه، وغلا ثمنه، فصارت الجمل موجزة، مضغوطة، مدملكة، كأنما الفتاة تكبر، ويكبر جسدها، وتظهر جمالياته الفريدة، مثل الثديين والخصر والأرداف، حتى شعرها الطويل، يضفره لها الأب على شكل فيونكات تارة، أو ذيل حصان تارة أخرى، أو قبة عالية فاخرة، كأنها تاج الملك، حتى تطلقه هي حرا منسرحا وراءها أو مربوطا بتوكة تلمه من نصفه.. ولم أنس تزيينها بالصور السردية، والحوار الحي، وكثرة الالتفات إلى الدقائق النفسية والجسدية، وكانت تساعدني بالابتسام تارة، والضحكات أخرى، وإلقاء النكات أيضا، بل المجنونة كانت تفاجئ أبيها بتقبيله علي خده قبلات كثيرة، قائلة له: حبيبي يابابا، أنا أحبك قد الدنيا كلها..
ثم راحت بعد اكتمالها ونضجها كالعروس بهاء وروعة، تطالبني بالخروج من بيتي إلي الحياة، لأنها حياة، وليست شيئا يقتني، أو حلية للتزيين، ولم تأتِ لخدمتي فحسب، وإنما هي كائن حي، تريد العيش بنفسها، هناك في الحياة الواقعية الصاخبة القاسية الشرسة، تتغلب عليها، وتُوجد لنفسها مكانا ومكانة وقدرة وحياة أبدية.
وكنت في رعب من مفارقتها ليّ، فلقد ألفتها، ولا أتصور الحياة دونها، فكيف يمكن ليّ حملها بيدي هاتين لأعطيها لغريب، بحجة أنه ناشر، وهو مجرد تاجر، يقلب فيها بغلظة، غير عابئ بأحاسيسها ومشاعرها كأنها بضاعة يثمنها قبل تهيئتها للعرض على المشترين، كأنها عبد في سوق النخاسة، كأنها شيء..
***
كان معي الكارت الذي أعطانيه الشاعر والصحافي الكبير أب ندوتنا، الذي شجعني نشرها حال كتابتها.. وهو لا يبخل على أحد، خاصة أنا، كأنه يشعرني أن ثمة خيطا ما بيننا خفي، كأنه يرى فيّ شبابه، ويعتبر حالة سرحاني وغفلتي في الندوة" أمارات" على قدرتي الدخول إلى عالم جميل آخر، لا يحتمل التأجيل"، كما قال لي مرة، وكانت الندوة انتهت وتفرق الأصدقاء صاخبين ضاحكين تاركين قاعة المكتبة فارغة، إلا منه، جالس على رأس المائدة ينظر إليّ بحب، وعاملة المكتبة، تنظر إليّ بقلق، تريد خروجي لتغلق وتنصرف، بينما أنا غير منتبه، منكب على تدوين أسطرا من قصتي في دفتر صغير، لا يفارق جيبي أبدا، ومن شدة انهماكي، لم ألحظ انتهاء الندوة، ولا سمعت تعليقات الآخرين علي عبقريتي النشيطة المُلهمة على الفاضي والمليان، رغم عدم سماعهم نصا قرأته يوما، ولا قرأوه منشورا في صفحة الأستاذ الأدبية بالجريدة، ولا وجود أدبي غير حضوري الملغز الصامت، أندس بينهم منصتا، كأني جئت لأفوز بالمشروب المجاني، يوزعه الأستاذ علينا..
ظل الأستاذ ينظر ليّ بحب وابتسام، وكل حين يشير للموظفة بالانتظار حتى أنتهي.. كم أحببته، وقدرت ذكاءه، خصوصا إحساسي بأنه يعاملني كأديب فحسب، ولا شيء غير ذلك، أديب خالص، وجد ليكتب القصص فحسب، مع أني كنت أخشى اهتمامه الزائد هذا بي، دون حتى سؤاله ليّ عما يتجاوز اسمي.. ولما انتبهت خجلا الخجل كله، وكان الوقت أوغل والأستاذ لا يريد الخروج تحسبا إزعاج الموظفة العجول ليّ، وكانت تخرج وتدخل وتنفخ زهقا وتحدث فرقعات بحذائها ذي الكعب العالي على بلاط المكتبة، تنبهني لوجود أسيرين ينتظران الإفراج والانطلاق إلى حريتهما، تبسم الأستاذ ليّ وقال:
ما رأيك أعزمك على مشروب آخر..
والتفتَ قبل أن يكمل جملته للموظفة فكادت تصرخ ملقية له مفاتيح المكتبه يغلقها وقتما شاء وتنصرف- فثمة من ينتظرونها، وموعد انتهاء عملها انصرم من وقت غير قليل. فتبسم وأضاف: نشربه في المقهى المجاور إذن.
نهضتُ بسرعة، مسرعا إليه، حملت حقيبته؛ وفيما أتقدمه، نظرت بكل الاعتذار للموظفة، التي أعماها الضيق عن رؤية أي شيء، بينما الأستاذ يرضيها برقة، وهو يدس في يدها ورقة نقدية كبيرة، اضطربت بشدة، وهي تتناولها متمتمة، ووقفت تنظر إلينا، يضع الأب ذراعه علي كتف ابنه ويهبطان السلم بهدوء.. كان متأثرا من إقدامي على حمل حقيبته، ربما لعلمه أن هذا مني سلوكا نزيها محبا من ابن لأبيه ليس أكثر، لذا استند على كتفي في نزولنا ليس عجزا منه أو ضعفا، وإنما امتنان منه لتقريبي إليه كأب، وكانت ثمة أقوال تناثرت في الندوة من البعض تنتقد صمتي الدائم، مدعية عليّ أنني جاسوس ومخبر عليهم، آت لمراقبتهم، ولو قيل ذلك في صورة الفكاهة، فقطعها الأستاذ بصرامة وحسم ومنعها، ومن يسمعه يردد هذا الافتراء، مرة أخرى لن يسمح له بالحضور مجددا، كان يعتبرني كما قلت ليس مجرد فنان موهوب، مازال يتلمس طريقه إلى ذاته، وإنما الفن نفسه، نعم، كان يؤمن بي، قبل إيماني بنفسي، ويراهن عليّ قائلا بثقة:
- انتظروا يوم حضوره من غيابه، آتيا إلينا ومعه الجمال كله..
فتتعالي أصواتهم متضاربة متناحرة، ويقول رفيقي المجاور ليّ بسخرية:
- يا مسهل.. مت يا حمار.
فينفجرون في الضحك، حتى الأستاذ..
***
انسللت والأستاذ إلى مقهى جانب مبنى المكتبة، سرنا إليه عبر ممر ضيق طويل، النجوم شديدة اللمعان كأنها الجوهر المنثور فوقه، وضوء القمر يشع بقوة باهرة على مقاعده، وثمة أشجار مشذبة ومورقة ومثمرة ومدهونة السوق بذوق فنان، كأنها أعمال نحتية طبيعية، تحيل المقهى الغاص حديقة حقيقية، قال الأستاذ: لا يزورها إلا المثقفون.
شعرت بأنها صورة تمثل حديقة الثقافة في العصور القديمة، حيث كان الفلاسفة يتناقشون في الحدائق ماشين في أفنيتها أو جالسين في مقاعدها، ينصتون لواحد منهم يلقي قصيدة عن الكون، حتى أنني لما حدثت الأستاذ عن انطباعي هذا، تبسم قائلا:
- هي ليست بعيدة عن هذا، فهي تاريخ حقيقي بالغ الثراء، هنا غنت أم كلثوم في حفلاتها الفاخرة الأنيقة، وأتى نجيب الريحاني يعرض مسرحياته، ونجيب محفوظ عقد ندوته الشهيرة" الحرافيش" - تنهد- إنها حديقة الخالدين بحق، أرواحهم تطوف بنا..
قال ذلك وظهرت على ملامحة سيماء الحالم، لكن الآسف في ذات الوقت، إذ قال: - ليس كل من يأتي هنا مستحق الحضور..
أخذت أتطلع إلى الحضور المميز لمن نمر بهم، متخيلا تاريخها العريق، الذي لم يخبرني عنه أحد من قبل، ولم يخلُ الحضور المثقف المميز الهاديء من وجود الأحباب هنا وهناك، رجل وامرأة بينهما منضدة رقيقة عليها مشروبات لذيذة وعلبة منادل ورقية، والأرضية مبلطة نظيفة منثور عليها أوراق متساقطة من الأشجار، توحي بجو خريفي تلقائي، ولمحة من بساطة راقية، وجو بالغ الأناقة والعراقة معا.
قادني الأستاذ إلى منضدة متطرفة بعيدة في براح المقهى الممتد، حتى شعرته يتدارى بي عن الأعين، جلسنا على مقعدين متقابلين، وسائدهما تمنع عن الجالس صلابة خشبهما، استراح الأستاذ وطلب من عامل المقهى شيشة وقهوة دون سكر، وطلبت أنا مثلما طلب، ناظرا للعامل كبير السن الرشيق، وجهه جاد مشبع آمن، لا يعاني العمل، بل في نشاط من يراكم ثراء فوق آخر، حتى خلته ثريا بغير حاجة إلى مال، جاء فحسب ليمارس رياضة في صورة عمل، ولا غرو فكل الزبائن هنا مرتفعون فوق الحاجة، يطلبون الخصوصية في حديقتهم، تتعالى ضحكاتهم مع صوت ثومة الراقي سارحا فوقهم، يتلاقى في صعوده مع ضوء القمر والنجوم والأضواء الرقيقة للمصابيح المتناثرة بنظام فوق أعمدتها حول الشجر الأنيق، وسرعان ما جاء عامل شاب بشيشتين أدار خرطوم الأولى من حولها فاستطال، أعطاه للأستاذ مع المبسم البلاستيك الصغير، وكذلك أنا، ثم راح يرص جذوات النار الصغيرة فوق الحجرين بالترتيب، ذاهبا تجاه الأستاذ تارة، وتجاهي أخرى يوصل الشيشة بنا، ويوصلنا بها، فيما يلقي التحية على الأستاذ وضيفه، فيما أتى زميله حاملا صينية القهوة واسعة من الفضة، عليها فنجانين كبيرين، وكنكتين غليظتين، وكأسين طويلين، وزجاجتي ماء مثلجتين مغلفتين لم يمسسهما أحد قبلنا. وعلبة مناديل ورقية كبيرة.
كان حضور العمال النشيط وسط الناس، والجو الساحر يوحيان لي بأنني بالأستاذ انتقلت إلى عالم الوفرة والجمال والقوة، بكلمة دخلت الجنة، ارتاح وجهي، شاعرا بأنني صرت أديبا حقا، مرتفعا فوق ضروريات الحياة البدائية، واحدا من ملائكة الثقافة، وروح حديقتها الأبدية الممتدة عبر التاريخ إلى الآن..
وكان شعوري بالسعادة والامتنان يتزايدان داخلي مع كل خطوة إلى المقهى وفيها حتى الجلوس المريح، ورشفي من فنجان القهوة الفاخر البهي، وأنفاس الشيشة سهلة وكثيفة الدخان منعشة الرائحة، جعلني هذا كله أؤمن بثراء العالم، وعرضية الفقر فيه، وأن الإنسان قادر وكبير وعظيم بلا شك، بل أن الحديقة صورة مصغرة للبشرية المستقبلية كلها، إلا أن خشيتي كانت تزداد إذ أعرف أن الثراء له ثمن، فبقدر ما يعطي يَسلب، ويُشبع يَحرم، وأن السعادة عموما تقترن في كل الثقافات بالزيف، وجنتها البادية جحيما خفيا، فلماذا جاء بي الأستاذ هنا، وتدارى بعيدا هكذا، ما الذي يخشاه بالضبط..
- الرومانسية أخشى عليك منها.. قال الأستاذ متنهدا كأنه سمع سؤالي الداخلي، وأضاف:
- أنت ترهق نفسك، إن الفن أناني، لا يريد له شريكا، يسلب الفنان كل وقته وعمره، ويحرمه من الحياة ذاتها كما يعيشها الناس..
- لا أتصور نفسي شيئا آخر غير مؤلف قصص جميلة.
- وماذا عن الأولويات، عن تأسيس مستقبلك، بالدراسة وحصولك على وظيفة، إن هذه الأشياء لا تنتظر، ولاغنى عنها، بدونها لن تجد ما تقتات به، ولن يرحمك أحد، بل يسخر الجميع منك، إن أغلب الفنانين عاشوا في معاناة وقسوة، حتى منهم من مات جوعا ومرضا" فان جوخ" مثلا، والأمثلة كثيرة بلا حصر..
- لا أستطيع ترك قصتي تقف علي بابي ذليلة يوما بعد الآخر تنتظرني، حتي أحصل على الشهادة، وألتحق بوظيفة، فتذبل وتموت، وتغادرني روح الضيافة الحقة، التي هي الفن، إن الفكرة الفنية الجميلة لا نعثر عليها، مثلما نعثر على الحجر الثمين في الماء، نغوص إليه، ولا نخلقها بمحض إرادتنا الحرة، وإنما فقط ننتظرها، مهيئين بيتنا لها، حتى تأتي، فتجدنا بأحسن استعداد لاستقبالها.. إنني طيلة يومي أفكر وأكتب حتى دون قلم، إنني في نومي أحلم بقصتي، إنها روحي مستقبلي، وكل الحياة.
- لا أعرف ماذا أقول أمام حماستك البريئة تلك، إنني أحبها، لكن من واجبي تحذيرك من الفن، إنه كما قلت لك أناني، وبقدر ما يمنح الخلود للنص، يفني صاحبه..
- أشعر أن الفن قرار حاسم بين الحياة والموت، إما أن أختار الحياة، أو الموت، سأعيش إذن من أجل القصة وحدها، كما يعيش الأب من أجل ابنته الوحيدة، لا خيار لي، ولو مت من أجلها سأموت سعيدا شريطة أن تعيش هي..
- ألم تفكر، في قانون العالم الأبدي، الذي هو غياب النزاهة، وعدم تساوي الفرص للجميع.. إن القدرة علي كبت الإبداع، والاستجابة لضرورات الحياة، أهم من الإبداع ذاته؟ ليس كل موهوب ينبغي له تحقيق موهبته..
- لا، لم ولن أفكر هكذا أبدا.. كيف أمارس القهر على جسدي الشعري، الذي هو عظمتي وخلودي وحريتي الأصلية
- هل أنت غني، لديك أموال وميراث يعينانك على التفرغ للإبداع فحسب؟
- لا .. أنا تقريبا وحيد، القصة كل أسرتي
- كيف تأكل وتشرب
- أتصرف بما لا ينقص من استعدادي الدائم لملاقاة الفن.
- كلمني بالتحديد كيف تأكل وتشرب؟
- أعمل أعمالا حرة.. تركت الدراسة.. أهيم مع نفسي.. إنني أعتبر الفقر ليس التخلي عن المال والمكانة، وإنما التخلي عن الموهبة والفن الجميل.
- إن العالم شرير.. كيف تعيش هكذا دون عون أو حماية ما؟
- الفن ينقذني دوما.. الروح الحر إلي جواري.. ويقويني العيش في الخطر.
- هاهاها.. على العموم يمكنني مساعدتك الالتحاق بمنحة التفرغ بتوصية خاصة مني، لكن بعد أن يكون لديك كتاب واحد على الأقل.. هل اكتملت قصتك؟
- في طريقها إلى ذلك.
- خذ هذا الكارت، وأعطه للناشر، المكتوب اسمه عليه، لما تنتهي قصتك سينشرها لك فورا، أعدك بذلك، ثم قدم في منحة التفرغ، لتعيش هادئا بعض الوقت، ومن يدري، لعلك يوما ما تحصل على جائزة مالية، من قصة لك.. مع أنني أشك في ذلك.. إن المقاييس الاجتماعية تتدخل ضمن اختيار الفائز مثل شهاداته ومكانته فليست الجائزة للفن فقط إلا نادرا..
- شكرا يا أستاذ أنت إنسان نبيل
- هاهاها.. لا أبدا.. أنا أرى فيك نفسي الشابة القديمة، التي تركتها، واخترت القناع الاجتماعي، اخترت الأولويات: الشهادة والوظيفة وتركت موهبتي، أجلتها طويلا.. وكما تري كتبي مجرد نظرة إلى الوراء.. أحاول استعادة ما فقدته.. إنها مليئة بالحزن والشجن واستعطاف القاريء وأحيانا السخرية من الموهبة ذاتها التي لا تعد من الأولويات.. كتبي للشهرة، مجرد زينة تكمل الصورة الاجتماعية الجيدة، شيء فاتر غير مشبع، أنا فقير جدا ياصديقي وجوعان.. لا يغرنك المظهر الفاخر..
صمت الأـستاذ فجأة.. لم انظر إليه، شعرت بدموعه الداخلية تغرق عينيه، أو هكذا خيل ليّ، ثم سمعته يقول:- لو قيل ليّ الآن هل تعود مرة أخرى وتكمل ما تركته، وننزع عنك كل مكتسباتك: نقودك، شهرتك الزائفة وقناعك.. أوافق فورا، وشاكرا، لكن.. يكفيني الآن إنك موجود.. صدقا، أنا مشفق عليك، تخيل هذا التناقض المؤسي، تحرم من كل شيء، وتعيش مجهولا، من أجل قصة جميلة، رغم نسبية الجمال.. وصراع القوى.. لكن، من يدري، قد تتخلى عن الفن يوما، وتهرع مثل الجميع، تزاحمهم على ما يتصارعون عليه.. سنرى.
*
بعد أن ركب الأستاذ سيارته الفارهة، تمشيت إلى منزلي البعيد أفكر.. لماذا قبّل الأستاذ رأسي، ودس في جيبي ورقة نقدية كبيرة قبل ذهابه..
هل نحن أصدقاء أم ماذا، هل يعتبر نفسه مسئولا عني، هل اعتبر ذكري شيئا عن حياتي نوعا من طلب المساعدة، لكنني لم أقصد ذلك، لكن لماذا إذن قبلت منحته، هل لأنها كانت مقترنة بقبلة على رأسي، شعرت بأنه يعتذر لي اعتذارا غامضا، اعتذار كوني عام، نيابة عن الآخرين.. وفيما أنا شارد هكذا أمسك بيدي أحدهم فجأة، نفرت مذعورا، وجدته رفيقي في الندوة، الحاقد الذي يلقح عليّ بكلام ساخر عمال على بطال" يا مسهل، مت ياحمار" قلت له بضيق :
- أظن أننا غير متفقين فكريا، ولسنا أصدقاء فماذ تريد.
- أريد تحذيرك من الأستاذ، الصحافي الكبير، الذي كنت معه في حديقة الخالدين منذ قليل.
- لماذا؟
- إنه يريد غسل روحه بك، يصور لك نفسه صاحب المعاناة الكبيرة، وهو مجرد ذئب.
- كيف؟
- ألا تعرف أن ندوته هذه ليست إلا مكانا لقتل المواهب الحقيقية، يريد منها تخريج المديوكر فحسب، حتى لا يكون واحد أحسن منه.
- مستحيل..
- ألم تقرأ قصته الأخيرة المسماه" جمعية قتل المواهب" إنها محاكاة ساخرة لقصة يوسف السباعي جمعية قتل الزوجات، صوّر فيها مجموعة من المديوكر يصطادون الأدباء الموهوبين، ويقتلونهم بطريقة خبيثة، أي يشجعونهم على الحفاظ علي موهبتهم، وأن يكتبوا بحرية حقيقية، ولما يصدر كتاب لأحد منهم، لا يجد ناقدا يكتب عنه، ولا صحافيا يشير إليه، بل يجتمعون عليه في الندوة، ويسخفون مما كتبه، ويثبتون له أن كتابه تافه مفتعل ساذج، وذلك كله تحت رعاية كبيرهم، راعي قتل المواهب، أستاذنا المبجل، حتى يصعق الكاتب الموهوب ويكتئب، وكلما حاول الكتابة مجددا يتشكك في نفسه، حتي يصير مثلهم، ويكتب ما يقولونه له، بينما كتابه الجميل، ينهشونه فيما بينهم، ويحاكونه، بعدما يفرّغونه من جماله، وينشرون كتبهم المحاكية له، ولأسلوبه الحميمي، مجندين الجميع تقريبا ليتحدثوا عنهم، وينتشرون في المحافل الأدبية، ويحصلون على الجوائز، بينما هو الحقيقي يضيع في النسيان..
- أنت معتوه وحاقد لاغير.
يمكن.. ولكني الآن أقول الحقيقة، التي يقوم بها هو مع أعوانه المديوكر في الندوة، ولأنه يراك موهوبا، ينشر لك قصتك، ثم يقرأها بعناية ويتعرف أسلوبها الجديد، ويكتب على غرارها، بعدما يفرغها من دسامتها، ويلعب لعبته، حتي لا يعرف أحد أنه سارق، وأنت لن تستطيع فعل شيء له، ولن تلاحظ حتي ما سرق منك، وتظل تنتظر الشهرة والتقدير، حالما بقصتك في كل يد، والجوائز تنهال عليك، شاعرا بذكائك الخارق، وإنك بحفاظك على موهبتك قفزت فوق الضرورات الحقيرة كلها، وفزت بالمجد كله، ولم تتلوث موهبتك، بل صارت مزدهرة عالية شامخة خالدة فوق المستنقع.. هاهاها.. يالأحلام الشباب الجميلة.. ثم رويدا رويدا، تنبته للصمت يحيط بك، والفراغ الصحراوي المميت، كأنك لم تفعل شيئا أبدا، ومازلت مجهولا محتقرا فقيرا، وتجد نفسك الحائرة الذاهلة تقول لك يائسة: إن قصة الأستاذ تشبه قصتي، اشتهرت بسرعة قبل قصتي، لابد أنها مجرد توارد خواطر فقط لا غير، أو تقول مثلما يقول هو دوما: إن غياب النزاهة، وعدم تساوي الفرص قانون الحياة الأبدي.. وتري القراء والصحافيون والنقاد ينبرون من كل حدب وصوب إليه، يعظمونه ويتحدثون عن التناصية، وأن كل نص ما هو إلا جماع نصوص سابقة عليه، ولو اتهمته أنت بدافع نزاهتك بالسرقة منك، لن تجد سوى السخرية من الجميع..
- كيف أصدقك، كيف تتكلم هكذا بيقين..
- أنا واحد من الجمعية السرية لقتل المواهب.
- ولماذا تحذرني، ألست خائفا أشي بك للأستاذ.
- لن تفعل، لأنك صادق وموهوب ونزيه ومترفع فعلا، وأنا أحذرك فحسب، لا تأمن له، ولا لأحد من الندوة، أو غيرها، إن الجميع الآن يكرهون الموهبة، ويسرقون من بعضهم، ومن الكتب المترجمة.. إن ثقافتنا كلها تعيش على السرقة، من الماضي، والغريب والقريب والشيطان نفسه.
- وماذا أفعل إذن والحال هكذا؟
- لا تنشر قصتك أبدا.
- مستحيل.. كيف أقتل ابنتي..
- على الأقل تحافظ عليها من الكلاب المسعورة ينهشونها وأنت تتفرج عاجزا.. إننا في زمن ضياع الحق والحقيقة وسيادة الزيف والعبث.. انتبه يا صديقي الموهوب..
***
كنت يوميا أعود إليها من تشردي بحيرتي، فتستقبلني بالفرح والضحك والغناء فأغوص في حضنها الدافيء الجميل شاعرا باللذة القصوى والتحقق الحقيقي، وكانت تشاكسني وتتهمني بالأنانية، فحقها الاختيار لنفسها، تعيش كما أعيش مستقلة، حرة، ولا يجب الخوف عليها من العالم، وإن كنت أباها، إلا أنني لا أعرفها تماما، فيها من القوة ما يجعلها تبقى دون أن يمسها أحد- أيا كان غبيا - بسوء، لأنها ابنة رجل حقيقي، بل ابنة رجال الإبداع كلهم، وروحهم الحقة، ومن حقها مشاركة أخوتها القصص الحقيقية الوجود في الحياة.
وكلما ذكرتها بخوفي عليها من الحرب في الخارج، وبأن غيابها عني، يعيدني إلى وحدتي وفراغي وعزلتي، تبتسم قائلة: -هكذا هو الكاتب الحق، يعيش فارغا محروما، ليوجد الشبع للآخرين، ومن موته الخاص، يخلق الحياة للعالم، وأنا ابنتك البارة والقوية جدا، سأنتظرك تزورني في مكاني الجديد، هناك عند الناشر..
***
حملتها في حضني ذات صباح كئيب غليظ من صباحات الدنيا، وكان كعهده شديد الزحام ببشر كل يوم، وكم هم كثر بشر كل يوم هؤلاء، يتخبطون ببعضهم في المواصلات، يتنادون، يبيعون يشترون يتضاحكون بسماجة، يحيط بهم الغبار والعفار والوخم، فهم ناسين وجودهم أصلا، رغم سعيهم هنا وهناك، وزعيقهم هنا وهناك، وعراكهم في كل مكان، وشتائمهم وبغضائهم.. أحملها أمام صدري ووجهي بكلتا يدي، خائفا أن يمسسها سوء، كأنما الأعداء يتربصون بي، ليخطفوها مني، قبل وصولها إلى الناشر، الذي يُسكنها في كتاب مطبوع أنيق فاخر جميل، كأنه الشقة الفاخرة، تعيش فيه رائقة سعيدة.. كما أخبرني الشاعر الكبير، ضاحكا وغامزا، ومقبلا رأسي، وهو يركب عربته الفاخرة، ويغيب بها تحت الليل..
تعثرت أكثر من مرة في حجارة الأرض الصغيرة السخيفة، وكدت أسقط على أم رأسي معها مهانا، مكسور الخاطر، وكاسرا بخاطرها، لكنني كنت أقاوم وأمسك روحي وجسمي، الذي بدا عربة قديمة مخلعة، تصر صريرا مريعا، في سيرها وسط الزحام، وكانت والأصوات تتواتر حولي:
- خلي بالك يا عم.. إيه يا سيدي ما شي لوحدك في الشارع.. وإيه اللي أنت ماسكها دي، ورينا كده..
فأفزع من المتطفلين، كلاب السكك هؤلاء، يريدون الهزار السمج المجاني، والعبث بما لهم، وما ليس لهم فيه، يدفعهم الفضول التافه، لمعرفة ما هذا الذي أتمسك به هكذا، رغم أنهم لا يعرفونني، كأنني أخبئ كنزا وجدته، وأهرب به بعيدا.. هكذا حتي استخلصتها ونفسي من فوضى الطريق وشوارعه وعرباته ومحطاته وناسه، فكأنني أخوض بها الجحيم، هي الابنة العزيزة، ورأسي يحترق احتراقا، فكيف تعيش وسط هؤلاء حقا، وماذا فعلت بها، لماذا أخرجتها من رحم الأمان، إلى هؤلاء الأوغاد الخشنين، يمزقونها تمزيقا على عيني، وأنا غير قادر على حمايتها أبدا، ماذا أفعل إذن، وماذا فعل غيري من الكتاب لحماية بناتهم الجميلات، اللاتي من المفروض عليهن مقاومة القبح والارتقاء بالبشر من حيوانيتهم إلى الإنسانية الراقية!!.
***
كان الناشر في مكتبه- لما دخلت إليه، بعد تسليمي الكارت، محتضنا قصتي- مشغولا بالرد على شخص خلال التليفون، ضاحكا تارة، مكشرا أخرى، وشاخرا شخر الصيع المتهتكين، وملعبا لسانه وحواجبه كقواد أثناء هذا، غير مقدر لوجودي الفزع، فسألتني نفسي: كيف ألقي بابنتي بين يدي هذا القواد الشاخر قليل الأدب، وهي المؤدبة الراقية، ماهذا العالم المتناقض الملعون..
أشار لي بالجلوس أمام المكتب، وهو يواصل حديثة المتهكم علي الفاسدين الإمعات يتهافتون للحصول على الجوائز، بقصص تافهة ماتسواش بصلة، ولا نكلة ولا خردة.. يا شيخ والله أحنا في عبث.. الكل دلوقتي بيكتب قصص، الشعراء سابوا الشعر وبيكتبوا قصص، والطباخين والسفرجية وستات البيوت والسواقين وكل الخلق بيكتبوا قصص، وكل واحد منهم فاكر نفسه نجيب محفوظ، حاجة تقرف.. أييييه يا خويا، بتقول إيه.. فن أصيل.. ما كانش يتعز، كلهم تجار، اشمعنا احنا.. أييييه ياعم.. مقاييس إيه وبتاع إيه، بقول لك ايه.. تعال قيس لي لباس علي قدي.. هع، هع، هع..
أثناء هذا الحديث قليل الأدب الفاجر، فجر السنين، أشار ليّ الناشر، بأن ألقي روايتي أمامه علي المكتب، فارتعبت وتراجعت، واستدرت هاربا من غرفة القوادة، من المزبلة هذه، ومن الحيوان يتكلم في الهاتف بفجر، ويشير ليّ بالجلوس بتهذيب، ويطلب قصتي بلا مبالاة، في وقت واحد، وفي نفس واحد.. رحت أجري خارج دار النشر كلها، كما يجري الطفل وراء كرته الوهمية، هابطا الدرجات المتربة القذرة بأشجارها المهشمة الخربة، إلى الشارع، حيث استندت بظهري على الحائط، وهبطت مقرفصا، آخذ أنفاسي، متعرقا مرتجفا، مشوشا، راغبا البكاء، وناظرا إلى السماء، وابنتي تهمس ليّ:
لا تخف عليّ أرجوك يا بابا ..
وأقول لها كابتا دموعي: ألم تسمعي، أهذا حوار إنساني، أهذا إنسان واحد، أم حديقة حيوان.. أنا لا أحب السوق ولغته، لا استطيع أن أقدمك لمخالبه، تعبث بك، لقد صدق الكاتب الحاقد عضو جمعية قتل المواهب.. لا، سنرجع بيتنا، نعيش معا حياتنا، بعيدا عن هذا الخراب.
وهي تناجيني وتهدئني قائلة:
- أنا ابنتك القوية، لا تخف علي يا أبي، يا أجمل الآباء كلهم..
تقول هذا كابتة دموعها مشفقة عليّ، وأنا أنخرط في البكاء، وأنظر إلى السماء.
أثناء ذلك هبطت سلالم الدار الفتاة التي أخذت مني الكارت، وأدخلته للناشر، وأنا بعده، ثم رأتني وأنا أخرج مسرعا هاربا، كان وجهها متصدعا قلقا، ومشفقا معا، ومتلفتا أيضا، لابد أن الناشر صرخ فيها، كيف تسلل الزبون هاربا هكذا، كانت تبحث عني، إذ شعرت بالراحة لرؤيتي مكوما بجوار حائط الدار، تقدمت بسرعة إليّ شاكرة ربها..
كان الناشر انتهى من الهراء، واستقبلني هذه المرة منتبها، فهروبي نبهه، ولكنه ضحك مني، وظن أنني مجرد كاتب رومانسي خفيف، يكتب لأول مرة ولا يعرف سوق النشر بعد. قال وهو يمد يده لي:
- أهلا بك، سامحني على لغتي، كنت أتحدث مع ضبع كبير، يلعب معي لعبة نهش الأعراض، وأنا كناشر لابد أن أملك لغة الغابة، كما أظنك تعرف، أو لابد أن تعرف، لقد مدحك صديقك الشاعر الكبير المهم- وغمز ليّ- تلفنت له بعد استلام كارته الخاص الغالي، إنه يؤمن بما تكتب، ويقول إن قصتك تتحدث عن معاناة الشباب في كتابة القصص، وهذا موضوع جديد دوما.. أعطها لي.. لا تخف.. لن أمزقها، إن مخالبي لطيفة هع هع هع..
ولما كنت واقفا أمام المكتب قريبا من ذراعه الطويلة، متحجرا محتضنا لحمي، مد يده بسرعة خاطفة وانتزعها من صدري بقوة، فتركتها له خشية عليها أن تتألم من الشد والجذب، فقال ضاحكا: هكذا تؤخذ الدنيا غلابا، هع هع هع..
وكانت هي بين يديه، تنظر لي باسمة، تشجعني تحمّل بعدها، وهو يقلب فيها بغلظة، ينظر إلى كلماتها مقربا وجهه الوحشي، وفمه النتن كأنه سيأكلها، ويتكلم فيما يقرأ، أي يفعل فعلين في وقت واحد، وكان رذاذ فمه القذر يتناثر عليها، قائلا وهو يلقيها أمامه بلا مبالاة:
- لا تخف عليهاهكذا، طالما جئت بها إلينا، ثم أنها مجرد أوراق ياعم..
انفجر الدمع من عيني، ومددت يدي إليها، احتضتنها بسرعة، وهي تهمس لي:- أرجوك يا أبي، اتركني له، امنحني فرصة الدفاع عن نفسي..
وأرد عليها باكيا:- إنه يقول عليك إنك مجرد أوراق، ألم تسمعي يا ابنتي الطيبة، أنت مجرد أوراق، مجرد.. إن هذا فظيع، أليس كذلك..
فترد عليّ بينما الناشر مذهول من حديثنا:
- لا تهتم به، إنه مجرد تاجر، لا يعرف قيمة الكائن الحي، إلا بوصفه سلعة تباع وتشترى، ولكنه وسيلتنا للوصول إلي الحياة، أرجوك يا حبيبي اهدأ وأرجعني له .. واقبل تناقضات العالم وفوضاه..
راح الناشر ينظر إليّ ويشعل سيجارة، ويلقي بالولاعة الصغيرة على المكتب، ثم قال بلغة لطيفة غريبة عليه:
- أنا أيضا أتفهم الوجود الشعري، صدق أو لا تصدق.. فهذا على كلٍّ، حال كاتب المرة الأولى، على فكرة، أنا ياسيدي كنت أتعمد هذا الحديث الغبي، أثناء حضورك، ولم يكن على التليفون أحد، إنه مغلق، كنت أختبرك، فلو واففت على هذا الحديث المنحط، ولم تشمئز منه، كنت شككت في توصية الشاعر الكبير الغالي.. مبروك على النجاح..
ضغط زرار علي سطح المكتب، فدخلت بعد لحظة، الفتاة الشابة اللطيفة ذاتها، قال:- من فضلك خذي أختك الجميلة من بين يدي أبيها هذا، واكتبي معه عقد النشر فورا، لقد حظينا بشيء جميل..
دهشتُ تماما، لا سيما وأنا لم أتكلم كلمة واحدة طيلة المقابلتين اللتين تشبهان مرحلتين من مراحل الإنسانية، واحدة بدائية حيوانية، والثانية راقية، بالغة الجمال، فلم أفهم منطقه المراوغ هذا وقلت:
- اسمح لي، واعذرني، كيف أصدقك، وأنت هكذا بلا وجه واحد؟!
تبسم بجدية من ينفض عنه بلاهة محدثة وسذاجته وقال:
- هذا طبيعي.. التنوع يفرض ذلك علينا..
- قلت بغضب: عن أي تنوع تتحدث، هذه مجرد طريقة بغيضة في التعامل مع الناس، ماذا لو أن كاتبا جيدا صدق وجها من وجوهك المتعددة هذه، والتي فيما يبدو أنها بلا نهاية، فكيف يأمن الوجوه الأخرى، ومع من أتعامل الآن. وكيف تضمن أن طريقة حكمك على الآخر صحيحة، وأنت تتلاعب به، تفزعه ثم ترضيه، وتقلبه على كل جانب.
شبك أصابعه في بعضهما وفرد ذراعيه عن آخرهما وتثاءب قائلا:
- كما ترى أنا يقظ لكل وجوه الحياة، أنا لا أنام أبدا، وعملي يمضي خبط عشواء مع ذلك، فموافقتي على عملك هذا، ليس إيمانا مني به، وإنما مجازفة، فلعله ينجح، ويأتي لي بشوية فلوس.. هذا فضلا عن مجاملة صديقك الصحفي الكبير الغالي، ومساهمة مني أيضا في تقديم وجها جديدا للثقافة المصرية العريقة و، و، و والخ الخ الخ، هع هع هع..
قلت بضيق واحتقار:- ألم تفكر يوما في الروح الإنساني المستقيم.. في الموهبة.. والجمال الذي ينقذ العالم..
ضحك وقال:- طالما سمعت هذه الاكلشيهات من بعض الكتاب مثلك، الذين لا يدركون أن العالم يتغير، ولم يعد للموهبة ولا الجمال قيمة سامية، ذلك أن أفلاطون على ما أظن مات، أليس كذلك، هع هع هع.. إن الجمال، الآن ما هو إلا وسيلة للتزيين لا غير، واهتمامك بقصتك، لا يعني أنها عبقرية، وحتى لو كانت عبقرية يا سيدي، فلا يعني هذا إلا أنها مصدر للمزيد من النقود، أو تلقى على الرف، تنتظر قارئها العبقري، الذي لا يغنينا، وإنما يفقرنا، فنبيع قصتك العبقرية بالكيلو في سوق الكتب القديمة.. ولكننا على الأقل نفوز برضا صديقك الصحفي، مع أن الواسطة ليست من الجمال في شيء، هع هع...
كنت أثناء حديثة المتلون المتهكم الغامض غموضا لا قرار له ، أزداد فزعا ورعبا فقلت بتحد: ماهذا الذي أسمعه، لماذا توافق على نشر روايتي بالضبط؟
صرخ بضيق: هكذا .. بوم بوم بوم .. هع هع هع ..
قلت بدهشة: أهذا الحديث الملغز المستفز اختبار أيضا، أم هو حقيقتك الحقة ووجهك الحقيقي.
أشاح بيده للفتاة، لا تزال واقفة، بلا مبالاة من اعتاد على هذا كل يوم، أن تأخذ الرواية مني، مدت يدها إليّ، فنفرت منها وابتعدت.. قال بهدوء وهو يغرس السيجارة في المطفأة:
- لسنا هنا في معرض البحث عن الحقيقة الشعرية يا صديقي، نحن هنا في عمل، في تجارة، في تناقض، في عبث، وبكلمة واحدة في سيولة، ولا تحدد، وفرصة لك نشر عملك هنا، فلن تجد ناشرا مثلي قلبه طيب، ينشر من غير فلوس..
ثم تقدم خارجا من غرفة المكتب، وتركني مع الفتاة التي قالت لي برقة:
- لا تخف سأعتبر ابنتك أختا لي حقا..
فانفجرت باكيا بقوة، وأنا احتضن ابنتي، التي لم تستطع كبت بكائها وانخرطت معي في البكاء قائلة: حبيبي يابابا..
***
ماذا يفعل الأب، يأخذون منه ابنته الحبيبة بحجة الزواج، هؤلاء الغلاظ الذين اقتحموا بيته بالطبل والزمر والمأذون، ويعطونه ورقة/ عقد الزواج، وابنته الجميلة بالغة اللطف تمضي معهم، تنظر إليه خجلة حيية دامعة عارفة أنها ستتركه للوحدة والعذاب والشقاء، يعيش دونها، لن يسمع كل صباح صوتها الجميل، لن يري خفتها الرائعة، هي طائر البهجة، لن يحس بجمال العالم بعد الآن، لن يجد صديقا حقيقيا بعد الآن، والابنة تعرف كل هذا، ولا تستطيع فعل شيء له، تقاوم دموعها وتنصرف مع عريسها وأهله، تنزل سلالم بيتها، ولن تعود إليها أبدا، إلا زائرة، السلالم الحبيبة، كم لعبت عليها مع البراءة، وتقافزت وضحكت وهي تهبط جريا تستقبل بابا وترتمي في حضنه، الآن سترتمي في حضن الغريب بحجة الزواج.. كان الأب ينهار وهو يتماسك، ينهار وهو واقف، يموت وروحة تنتزع منه.. بحجة الزواج والنصيب وقانون الحياة.. والضرورة ويهتف دون صوت:
- أنتم لا تعرفونها كما أعرفها، لن تقدرونها كما أقدرها، ولو وقف العالم كله أمامي ليأخذها مني، ما استطاع، إلا على جثتي، لكن هاهو واحد فقط، تافه لا معنى ولا قيمة له، غريب يأتي من المجهول، يأخذها بسهولة بالطبل والزمر أمام العالم كله، ويتركني أضيع وأموت في وحدتي..
"حبيبي يابابا".. كانت القصة الجميلة تقول، وأنا أوقع عقدها مضطربا مرتجفا دامعا، والفتاة الموظفة تربت على كتفي، وتطمئنني على أنها ستكون مكاني تحافظ عليها مثلي وأكثر، وأنا أعرف أنها تجاملني، فمن يهتم بابنتي أكثر مني، حتي ولو كان زوجها نفسه ..
***
هل اليتم يعلّم النضج حقا، هل نخلق أبناء لنا، يكثروننا، ويغنوننا، أم للعالم والحياة يغتربون فيها، كم هناك من الأشياء الشبحية، أشباه كائنات، وكتب ليست كتبا، وأعمال فنية ليست فنية، كم هناك في العالم خلط وتخليط، يضيع فيه الصالح وسط غزارة الطالح، وتضيع القيمة وسط اللا قيمة..
ماذا يعملون الآن بك يا حبيبتي باسم النشر، كيف يلقون بكلماتك الجميلة، وبأي خشونة يفعلون، بأي غلظة وإهمال وعادية ينضضون روحك، ويضغطونها في آلاتهم الصماء، حتى يقيدونها في كتاب ويسجنونها بين ضفتيه، كيف يجبرونك أنت الحرة السعيدة، على الوجوم وتحمل رائحة الطباعة القبيحة، سالخين عنك حميمية حروفك، كتبتها ببهجتي وروحي، وروحك الرشيقة الحرة، كيف تدخلين هنا، ويحكم عليك بالصف والتبويب، وقد تتشوهين فتبتر حروفك هنا أو هناك، وقد يفعلون بك هم الغافلون المهملون ما يفعلونه عادة وقت الشغل والروتين المنوم، كيف حالك ياحبيبتي وسط الماكينات الضخمة تدهسك وتسحقك.. ترى ماذا يفعل المتآمرون الآن قاتلي المواهب هؤلاء، وكيف أعرف حقيقة من يحدثني وهو بألف وجه.. آآآه يا قلبي.. إن عزائي في كلماتك يا نور حياتي
" لا تخف علي يابابا".

***
كنت أذهب إلي دار النشر بلا موعد، فلا أدخلها، وأظل أحوم حولها، وألف وأدور هامسا لابنتي: تحملي أنا آسف.. حتى أتعب فأجلس بجوار الحائط والأشجار الذابلة، أتنهد وأعلّم قلبي الجلد، والتحمل وأتخيلها، هي البريئة تقاوم الأيدي تعبث بها، وقد تهينها وتسخر منها وتلعن أباها، وتضربها، وتشتمها، وتحقر من تربيتها وتصفها بالوسخة، أليس هكذا يفعل الزوج النذل مع زوجته، بعدما أخذها من أبيها، يجبرها هي الكريمة تمسح وتغسل وتخلف وتربي وتذل، بحجة الزواج والبيت والآولاد.. كل هذا تتحملينه ياحبيبتي! لماذا؟ كيف لا يتغير هذا؟!. كيف لا أستطيع أن أنشرك بيدي، وإعطاءك لمن يستحقك فعلا، كريمة عزيزة، فمن يحافظ علي ابنته غير أبيها، قولوا لي ياناس.. أقول هذا باكيا، وناظرا إلى السماء والعالم كله، ذاهلا، والمارة ينظرون إلي بشفقة، ولسان حالهم يقول: مسكين هذا الرجل الفقير، يثير شفقتنا حتى نعطف عليه، ونلقي له بقرش.. فأنهض مرتعبا وأسرع مبتعدا عنهم، تقول لي نفسي بضيق:
يا للعار ماذا تقول علي ابنتي، لو سمعتهم.. سامحيني يا ابنتي..
***
عندما تسلمت نسخة مطبوعة من قصتي، لم تكن الدنيا تسعني، كانت جميلة قوية بهية، تنظر إليّ بخجل، وفرِحة لفرحي، فأقربها من صدري، ومن فمي، وأقبلها، وأضعها علي رأسي هامسا لها:
كم تحملتِ من أذى، شكرا لك، رفعتِ رأسي، وجعلتني كاتبا حقيقيا.
فتهمس لي خجلة:- بابا الناس تراك، حافظ على هيبتك ككاتب.
فأضمها باكيا، في حضني، وأذهب إلى نسخة أخرى لها، موضوعة في فاترينة الدار، أمام الرواد والمشترين، مخترقا زحامهم، وأنظر لها مشجعا، فتغمز لي، وتشجعني بدورها هامسة:
- لا تخف أنا الآن في مكاني الطبيعي، في بيتي الذي هو العالم كله، صارت لي أيادٍ كثيرة، ونسخ عديدة، صرت بحجم العالم، أنتظر القراء الجيدين، الذين يطلبون قصة جميلة جيدة رائعة، كتبت بحب، وكتبت نفسها بيد كاتب نادر، لطالما أحب الأدب وتعبد في محرابه، لا تخف عليّ أيها الأخ الكبير ..
-أخ.. اتقولين أخ؟!
تبسمت قائلة:- نعم إن كبر ابنك خاويه، وأنا الآن في مقام أختك، وأنت أخي، لن أظل ابنتك إلى الأبد، وإنما أختك أيضا، فلقد صرت أكبر منك.. فأنا خالدة وأنت فانٍ.
لما سمعت منها هذا، لم أفرح كأب حقيقي، يرى ابنته أكبر وأحسن منه، وإنما ابتعدت عنها أيها القاريء، إذ رأيت منها هذا الجفاء، مع إنها تريد أن تستقل عني، وتبتعد، وتعتبرني مجرد أخ لها، وليس أبا، لا لشيء إلا لتطمئنني عليها ولو بالقسوة، لأرحم نفسي من عذاب بعدها.
ابتعدتُ وأنا أرتجف بين الزبائن متخبطا فيهم، وهم يمرون على صفوف الكتب يتجاوزونها تارة، ويعودون إليها أخرى، حتي تناولها أول قاريء لها، نعم أنت أيها القاريء الذي أحدثه الآن، تقلبها كأنها مجرد أوراق، بلا مبالاة، تحرق قلبي، وتضيعني كأنك تمزق روحي، وأنا أسمع صوتك، وأنت تمسك بنسختها الأولى الكريمة الجميلة الرشيقة وتقول:
- فكرة رائعة، قصة تتحدث عن نفسها، ولنا، إنها قصة حية..
ثم ذهبتَ سعيدا، لاهيا تدفع ثمن النسخة، التي كانت أثناء ذلك تلوّح لي باسمة وترفع لي علامة النصر هامسة:
- ارتح الآن يا أبي، اذهب واطمئن، ابنتك وأختك وأمك تعيش حياتها، لكن لا تنساني، عندما تأتي طفلة أخرى من عالم الأفكار المرحة، وتطرق بابك كما فعلت أنا..
شهقت واندفعت إليها وانتزعتها من يد السارق الحقير، أنت أيها القاريء الأول الغافل، الذي يظن أنه امتلكها بقروشة الحقيرة، واحتضنتها، وأخذت أبكي والقاريء الشاب الذي هو أنت، ينظر إليّ ذاهلا ويسأل مستنكرا:
- من هذا؟
تقدمت منه فتاة الدار وربتت على يده قائلة:
- إنه المؤلف.
صاح القاريء بغرور: مؤلف.. غريبة، ألا يعرف هذا أن المؤلف مات..
وأنا أقولها لك أيها القاريء المغرور الفاني:
- لا، لم ولن يمت المؤلف أبدا، فأنا وقصتي الجميلة:
واحد
خالد
أبدي
لا يموت أبدا...