الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

خيري شلبي.. حكاء الأدب المصري

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مع حلول عيد ميلاده، الذي يوافق اليوم 31 يناير، يبقى اسم الأديب الراحل خيري شلبي واحدًا من كبار الحكائين في الأدب المصري، وأبرع من كتبوا "الفانتازيا التاريخية"، عبر قدرته المدهش على الانحياز لحال طبقة الغلابة المصريين؛ وتظل سيرته هو الآخر حكاية مُثيرة، فقد بدأ حياته عاملًا بالتراحيل، وتنقل بين العديد من المهن الشاقة، حتى حفر اسمه بحروف لا تصدأ في تاريخ الأدب.
في صباه، انضم خيرى شلبى لعمال التراحيل وعاش بينهم، فبعد الحصول على الشهادة الابتدائية تقرر إلحاقه بمعهد المعلمين في مدينة دمنهور اختصارًا للمصاريف، وكان يعيش ظروفًا مادية بالغة الصعوبة، فعمل مع شقيقته الكبيرة خيرية كنفرين من عمال تراحيل في نقاوة القطن، وكل ما استطاع والدهما أن يفعل هو التنازل عن أجر خيري اليومي ليدخره وينفق منه على الدراسة حين تبدأ. وعن طريق رفاق العمل، تشرب الفولكلور المصري، عبر الأغاني، والمواويل، والحكايات، والأمثال، والألعاب التي تشبه المسرح، وعرف أن القيمة الأخلاقية هي سيدة الموقف في التراث المصري، وأيقن أن القيمة هي الفن، والفن هو القيمة على وجه التحديد. كذلك بعد التحاقه بالدراسة في معهد المعلمين اتجه لتعلم حرفة، فتعلم الخياطة، والنجارة، وسمكرة بوابير الغاز، كما عمل كوّاءً، وبائع سرّيح يكسب خمسة قروش في اليوم، وبعدها كان يبيع الأمشاط والفلايات وعلب الكبرىت وإبر الخياطة في عربات الترام.
دفعت هذه التجربة شلبي نحو عالم الكتابة؛ لأن العمال والأنفار معظمهم لا يقرأون ولا يكتبون، فكان يقوم بكتابة الخطابات لهم وأدرك منذ تلك اللحظة أن الحكي أداة سحرية للتواصل والالتحام بين البشر. حكى: "كنت النفر الوحيد الذي في زوادته كتب وأقلام وكراريس، وهو ما صوّرته في روايتي "السنيورة" و"الأوباش".. وما إن التحقت بعمال التراحيل حتى بدأت بطولة أبي تتراجع أمام بطولات خارقة لرجال أشد منه بأسًا، ونساء يتركن عيالهن في القرية ويسرحن في الحقول.. وهكذا سيطرت عليّ شخصيات عمال التراحيل.. لقد تعلمت من هؤلاء الأنفار ما لم أتعلمه من بطون الكتب والمراجع تعلمت منهم الفلكلور واللغة الحقيقية المعبرة عن القاع الاجتماعي".
يصف شلبي انتقاله إلى القاهرة بأنه" دخلها من باب الخدم"، وأنه لم يكن يجرؤ على اقتحام "الأماكن البراقة" كما كان يصفها، وكان يجد الأنس والمودة في الحواري والمقاهي الشعبية حيث "أجد أناسًا يشبهونني ولا يملكون نقودًا مثلي.. أتعاطف معهم ويتعاطفون معي.. أما إذا انتقلت للأماكن التي يرتادها الأفندية وذوو الياقات المنشاه فأشعر بالغربة". إضافة إلى أنه كان بلا عمل أو نقود وقضى فترة شريدًا في شوارع القاهرة "وأقضي الليلة في أحد الفنادق الفقيرة لو ملكت عشرة قروش ثمن السرير، اعتدت أن ألتقي عددًا من الأصدقاء من بينهم أمل دنقل ومحمد جاد، ولأن القروش العشرة لا تتوافر بسهولة، فقد قضيت ما يقرب من عشر سنوات سائرًا على قدميّ في شوارع القاهرة ليل نهار حتى أصبحت لغزًا في نظر الجميع". واستمر على هذا الوضع حتى كشف الحقيقة الشاعر الراحل أمل دنقل، وأشاع بين المثقفين أنه رفيقه في رحلة البحث عن مكان للمبيت.
لم يتوقف خيري شلبي عن العمل الذي يقدسه، وقد حكى في أحد حواراته قبل وفاته ببضع سنوات، أنه بعد أن صار كاتبًا مشهورًا واجه أزمة مالية "فلم أتورع عن التجول في الأحياء الشعبية للبحث عن ترزي عربي أقدم له نفسي كـ"صنايعي"، وأعمل طوال شهر رمضان بالقطعة، فأنا أقدس العمل اليدوي وأرى أنه سر تقدم البشر".
قدم شلبي في رحلته الأدبية التي امتدت حتى وفاته نحو سبعين عملًا، تنوعت بين الروايات، والمسرحيات والمجموعات القصصية، ودراسات نقدية، ومن أشهر رواياته "السنيورة، الأوباش، الشطار، الوتد، العراوي، موال البيات والنوم"، بغلة العرش، صالح هيصة، إسطاسية"، وعمله الروائي الأشهر "ثلاثية الأمالي: أولنا ولد- وثانينا الكومي- وثالثنا الورق". ومن مجموعاته القصصية "صاحب السعادة اللص، المنحنى الخطر، سارق الفرح، أسباب للكى بالنار". ومن مؤلفاته ودراساته "محاكمة طه حسين: تحقيق في قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلي، أعيان مصر، غذاء الملكات -دراسات نقدية، رحلات الطرشجي الحلوجي، مسرح الأزمة -نجيب سرور. كما قُدمت أعماله للسينما، ومنها فيلم "الشطار" مع المخرج نادر جلال، وفيلم "سارق الفرح" مع المخرج داود عبد السيد عن إحدى قصصه، وفي الدراما مسلسل "الوتد" من إخراج أحمد النحاس، ومسلسل "الكومي" عن ثلاثية الأمالي من إخراج محمد راضي؛ وكان مسلسل "وكالة عطية" المأخوذة عن روايته التي تحمل نفس الاسم، آخر ما قدم للتلفزيون، كما ترجمت معظم رواياته إلى اللغات الروسية، الصينية، الإنجليزية، الفرنسية، الأوردية، العبرية، والإيطالية، وقدمت عنه عدة رسائل للماجستير والدكتوراة في جامعات القاهرة، طنطا، الرياض، أكسفورد.
حصد شلبي العديد من الجوائز منها جائزة الدولة التشجيعية في الآداب، وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، جائزة أفضل رواية عربية عن رواية "وكالة عطية"، الجائزة الأولى لاتحاد الكتاب للتفوق، جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة "عن رواية وكالة عطية"، جائزة أفضل كتاب عربى من معرض القاهرة للكتاب عن رواية "صهاريج اللؤلؤ"، جائزة الدولة التقديرية في الآداب، كما رشحته مؤسسة "إمباسادورز" الكندية للحصول على جائزة نوبل للآداب؛ كما تولى عدة مناصب منها رئاسة تحرير مجلة الشعر التابعة لوزارة الإعلام لعدة سنوات، وتولى حتى رحيله رئاسة تحرير سلسلة "مكتبة الدراسات الشعبية" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
وفي صباح يوم الجمعة التاسع من سبتمبر 2011 انتقل خيري شلبي إلى جوار ربه عن عمر ناهز الثالثة والسبعين، تاركًا خلفه أعمالًا باقية في تاريخ الأدب المصري، وسيرة لكفاح طويل في الحياة تستحق أن تكون عملًا أدبيًا في حد ذاته.