الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بعض الظن ليس إثما

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تسلَّم عبدالله الموظف بمصلحة الجمارك راتبه الشهري، وأسرع ليلحق بالحافلة التي تقله إلى منزله، كانت الحافلة شديدة الازدحام، وزاد الطين بلة أن لصًا كان بالحافلة، أدرك اللص بخبراته المتراكمة أن حافظة نقود عبدالله عامرة بالعملات الورقية، ببراعة استل اللص حافظة النقود من جيب عبدالله. وعندما طلب المحصل ثمن التذكرة، اكتشف عبدالله الفاجعة، لقد سُرِقَت نقوده!! ألح المحصل في طلب ثمن التذكرة من عبدالله، ولم يأبه بالكارثة التي حلت به. خاطب المحصل عبدالله مؤنبًا:
- مثل هذه الحركات لا تنطلي عليّ.. تريد الركوب دون أن تدفع ثمن التذكرة.. عيب عليك!!
صرخ عبدالله ألمًا في المحصل وبقية الركّاب موشكًا على البكاء:
- لقد سُرِقَ مرتبي يا عالَم.. ألا تعرف قلوبكم الرحمة؟!
انتابت اللص نوبة كرم مفاجئة، محاولًا بها إبعاد الشبهات عنه، فمد يده بثمن التذكرة إلى المحصل، قائلًا له:
- تفضل ثمن تذكرة الأستاذ..
ارتسمت على وجه عبدالله ابتسامة هزيلة حزينة، وتوجه إلى اللص شاكرًا حسن صنيعه، وقال بصوت منكسر:
- بارك الله فيك يا أخي.. وزاد من أمثالك..
شارك بعض الركاب عبدالله في مدح اللص، والثناء عليه، والدعاء له.
إلى هنا انتهت حكاية عبدالله مع اللص.
والسؤال الآن: كم لصًا في حياتنا استدعته إلى الذاكرة قراءتنا لهذه الحكاية؟
في حياتنا – على المستويين الخاص والعام – كثير من اللصوص الذين سرقوا أعمارنا، ومع ذلك يتظاهرون في تعاملهم معنا بأنهم أهل كرم وشهامة، حتى أن بعضهم يعلنها صراحةَ على الملأ - في تباهٍ فج - أنه كم عطف عليك وأطعمك!!..وكم من الأشخاص غمرتهم بحبك وخانوا هذا الحب، ووثقت بهم وغدروا بك، أناس ظننت أنهم أهل تقوى وصلاح، فإذا بهم شياطين على هيئة إنس!!
إن وطأة الحياة قاسية على المرء، عادةً ما يخفف من قسوتها وجود أناس نحبهم ويحبوننا، وإذا خلت حياتنا ممن نثق بهم ونحبهم صارت جحيمًا. بالثقة والحب تهدأ نفوسنا، وتطمئن قلوبنا، ونستشعر الأمن والأمان. إن حاجتنا للثقة والحب لا تقل أهمية عن حاجتنا للماء والهواء، بدونهما تصعب الحياة وتشق.
الإنسان بطبعه كائن ضعيف يحتاج إلى من يمد له يد العون منذ لحظة خروجه إلى الدنيا. تأمل حال طفل حديث الولادة؛ إنه لو تُرِكَ لشأنه لفارق الحياة خلال أيام قليلة، على عكس مواليد الكائنات الأخرى التي تستطيع أن تتعايش وتواصل الحياة دون كبير اعتماد على غيرها، في حين أن الطفل البشري منذ الحظة الأولى تتفتح عيناه على أناس يحيطون به فرحين بقدومه، يغمرونه بالحب والرعاية. هكذا الكائن البشري في حاجة دومًا إلى من يحبه ويحنو عليه؛ وبدوره يحب هو من يحبه، ويألم أشد الألم حين يتكشف له أنه أحب من لا يحمل له سوى الكراهية والبغض.
في الحكاية التي صدّرنا بها هذا المقال سوف تنبت بلا شك بذور الحب والتقدير والإكبار في قلب عبدالله تجاه اللص الذي بادر بدفع ثمن التذكرة له؛ إذ بدا له إنسانًا شهمًا وكريمًا ولو تخيلنا أن علاقة عبدالله باللص دامت وتوثقت بعد مغادرتهما الحافلة، واستمرت فترة طويلة من الزمن، ونهج اللص الأسلوب ذاته في تعامله مع عبدالله؛ إذ يُظهر له عطفًا وحنوًا زائفين، لا شك أن ثمرة هذه العلاقة سوف تكون مزيدًا من السرقات التي سوف يحققها اللص على حساب عبدالله، ويظل عبدالله المسكين هائمًا في حب ذلك اللص اعتقادًا منه بأن وجوده في حياته نعمة كبرى من نعم الله عليه. وقد يعيش ويموت دون أن يدرك حقيقة الخديعة التي تملأ حياته.. العذاب كل العذاب حين يدرك المرء أن من تظاهر بتقديم يد العون له هو اللص ذاته الذي سرقه.
وإذا انتقلنا إلى الحياة العامة، سنجد أمثلة تفوق الحصر لأشخاص منحناهم ثقتنا، ظنًّا منا أن صلاح الحال سيتحقق على أيديهم، أمطرونا حين تبوءوا المنصب بوعود وعهود، كشفت الأيام زيفها، وأظهروا زهدًا في تولي مسئولية العمل العام، ولكن حين استتب لهم الأمر، وملكوا زمام السلطة، سقطت أقنعة الزيف والبهتان؛ كاشفةً عن وجوه شوهاء.
بقى أن نقول إنه إذا كان بعض الظن إثمًا؛ فإن بعض حسن الظن غفلة وحماقة.