الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فدائيون ودروس خاصة في التاريخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قبل خمسة عشر عاما أو يزيد، كنت في مهمة صحفية لتوثيق شهادة عدد من الفدائيين من أعضاء منظمة سيناء العربية، الذين نفذوا مئات العمليات الفدائية ضد العدو الإسرائيلي شرق القناة وكبدوه خسائر فادحة في المعدات والأرواح طوال حرب الاستنزاف.

كان عليّ وقتها السفر إلى مدينة السويس للقاء بعضهم بالاتفاق مع الراحل العظيم "كابتن غزالي" الذي رتب لي هذه المهمة.

في طريقي من القاهرة إلى السويس كنت أتخيل وجوها لأبطال أسطوريين، كانوا مطلوبين بالإسم لدي تل أبيب، بعد أن هزوا كيانها بعمليات جعلت منهم أشباحا مخيفة لجنود جيش الاحتلال، فلم تكن مهمتهم الاستطلاع فقط وانما القتال والقنص والاشتباك وزرع الألغام.
على مدي يومين قضيتهما بمدينة " الغريب" استمعت خلالهما لعشرات القصص والملاحم البطولية، وكيف لعب فدائيو منظمة سيناء العربية دورًا أساسيًا خلف خطوط العدو، ونفذوا عمليات نوعية زلزلت إسرائيل.
داخل "ميكروباص" كان يملكه ويعمل عليه سائق استمعت إلى شهادة عبد المنعم قناوي أحد أبطال المنظمة الذي اصطحبني معه في جولة على أطراف المدينة، وهو يروي كيف كان الأبطال يقومون بعمليات الاستطلاع في النهار، وفى الليل يعبرون القناة لقطع خطوط الاتصالات وزرع الألغام وتدمير مخازن الذخيرة ونسف مستودعات الوقود.
وبينما يشير بيديه ناحية "القنال" راح يسرد كيف تم تكليفه ورفاقه بتنفيذ أول عملية عبور في وضح النهار بداية شتاء عام 1969، ونجح الفدائيون في العبور وفاجأوا دورية للعدو واشتبكوا معها وتمكنوا من أسر أحد الجنود بعد قتل كل أفرادها ولم تنس المجموعة رفع العلم المصري شرق القناة ليشاهده أهل السويس من الضفة الأخري.
واصل قناوي ورفاقه مهاجمة العدو الاسرائيلى وقاموا بقصف منصات صواريخ الهوك المضادة للطيران في منطقة ابورديس.
سألته وقتها.. كل ذلك وأنتم مدنيين؟ مد قناوي ذراعه وكأنه يستعرض عضلاته قائلا "تم تدريبنا وكنا نقوم بطابور سير كل يوم خميس بطول 60 كيلومتر من منطقة جنوب السخنة إلى مبنى المخابرات الحربية بالسويس والعودة مرة اخرى نفس المسافة، وكنا نتسلق جبل الجلالة ثم نغطس بمياه خليج السويس والبنادق فوق رؤوسنا، ونعيد التدريب من البداية مرة أخري إذا لمست المياه البنادق".
ويكمل قناوي: قبل الحرب تم تكليفي بعملية استطلاع خلف خطوط العدو في سيناء وانتقلت إلى منطقة ممر "متلا" ومكثت هناك أعلى الهضبة أراقب حركة مرور القوات الإسرائيلية وكانت مهمتي تسجيل نوع الآليات وعددها، وعن طريق اللاسلكي أقوم بإبلاغها للقيادة.
بدأت المهمة ومعي زمزمية وكيس طعام لم يستمرا معي سوي ثلاثة أيام وبعدها عشت على أكل الحشائش وشرب تجمعات قطرات الندي من فوق الصخور.
وتدمع عيناه وهو يتذكر في إحدي الليالي المظلمة عندما شاهد بدويا يصعد الهضبة وظل يجوب مرتفعاتها وكأنه يبحث عن أحد، وعندما اقترب منه مد له يده بـ"جركن ميه وكيس تمر" ولم يقل البدوي سوي عبارة واحدة "كل عام وانت بخير يا ولدي بكره رمضان".
"كل اللي بتمناه إن الأجيال الجاية تكون واعية وما تفرطش في نصرنا على الصهاينه ويفضلوا فاكرين اللي عملناه ويحافظوا على البلد".
كانت هذه الكلمات ختام شهادة الفدائي عبدالمنعم قناوي، وكأنه يستشرف المستقبل ويري من بعيد بعضا ممن يحملون الجنسية المصرية، يجارون الأعداء في التقليل من النصر المبين، ويطمسون على منصات التواصل الاجتماعي بطولات القوات المسلحة الباسلة ومن خلفهم الفدائيين الأبطال والشعب المصري العظيم.
قالها قناوي وهو لا يعلم وقتها أن ابنه الأكبر سيكون أحد ضحايا عملاء الصهاينة بعد عشرات السنين من حرب أكتوبر، حيث أصيب في تفجيرات شرم الشيخ التي استهدفت السوق القديم وفندق غزالة في عام ٢٠٠٥، وبترت ساقه.
البعض في حاجة إلى دروس خاصة في التاريخ، ليعرف أن هذه الحرب حطمت أسطورة الجيش الإسرائيلي وقهرته، بينما البعض الآخر في حاجة لدروس في التربية الوطنية ليتعلم معني الاعتزاز بالوطن وبطولاته الخالدة.