الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. محمد سليم شوشة يكتب: 'صياد النسيم".. جماليات الاستطرادات المعرفية

محمد سليم شوشة
محمد سليم شوشة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في المجموعة القصصية "صياد النسيم" للأديب المصري محمد المخزنجي، والصادرة عن دار الشروق 2018، قيم جمالية عدة للاستطرادات المعرفية التي يجنح إليها السرد في كافة قصص المجموعة.
أول هذه القيم الجمالية أنها تمثل راحة للمتلقي من الخط الدرامي الرئيس في القصة بحيث تبدو هذه الاستطرادات تفريعا في مسار القصة يحرك مخيلة القارئ إلى جهة أخرى غير متقدمة في الزمن أو متنامية حركيا في مسار القصة الأساسية، كما أن هذه الاستطرادات المعرفية غالبا ما تكون مرتبطة بإطار مكاني جديد مثل غابات أفريقيا التي تكررت بوصفها مصدرا للاستطراد المعرفي عن بعض الغابات أو الحيوانات أو الأشجار أو مثل منطقة جدانسك في شمال بولندا المطلة على بحر البلطيق أو مثل أسماء بعض البلدان التي تستدعيها أسماء وجبات أو أنواع من الأطعمة، أو أحداث ذائعة عن مرض بعينه يحدث في فرنسا أو إنجلترا. وهذا النسق من الانتقال إلى مكان آخر عبر الاستطراد هو ما ينتج في فضاء السرد مكانا جديدا مفارقا ومباينا للمكان الذي تدور فيه أحداث القصة، ومن هنا يكون الاستطراد باعثا على تحريك مخيلة القارئ باتجاه جديد وبمسافة شاسعة ويمثل في الوقت نفسه ابتعادا عن الخط الدرامي للقصة فيكون القارئ معلقا بالعودة مرة أخرى مع انتهاء هذا الاستطراد. كما لا يمكن إغفال القيمة الجمالية المرتهنة بالمعرفة في ذاتها فإذا كانت الحكاية بشكلها الدرامي والحركي وما تمثله من صراع أو تختزل من تجربة ممتعة ومشوقة فإن المعلوماتية التي تضيفها هذه الاستطرادات المعرفية هي بذاتها مهمة للقارئ الذي لا يقنع بمجرد الحكاية أو بفكرة التسلية ويريد حركة أو تطوافا في العالم ينقله إلى حقل جديد أو مسألة معينة أو موضوع معين يضيف إليه جديدا، وهكذا فيما يمثل إضافة له أو تعضيدا لمعلومة مناظرة ترتبط بالموضوع ذاته. 
كما لا يمكن كذلك تجاهل قدر ما بهذه الاستطرادات من تحفيز القارئ على البحث خارج النص السردي في النقاط المطروحة أو في هذه التفريعات المعرفية ومحاولة تدعيمها من كتب ومصادر أخرى، ومن هنا نكون أمام قصص لا يكون فهمها مرهونا بلغتها وبنيتها وحسب بل تصبح منفتحة على اطلاع آخر خارج بنية القصة. 
وفي تقديرنا أن القيمة الجمالية الأبرز والأهم لهذه الاستطرادات أنها تجعل القصص متشعبة على نحو ما تتشعب الحياة، فالحكايات في الحياة تتداخل وتتقاطع مع المعارف والعلوم، وليست منفصلة عن بعضها، فالبحث والمعلوماتية والمعارف أو المتراكم منها يختلط بحكايات البشر وغالبا ما تكون هذه المعلومات والمعارف الدقيقة والمتخصصة هي الفاعل الرئيس والمحرك الأول للأحداث. ربما فقط كان يحدث في السرد الكلاسيكي تجاوز لهذا الجانب أو لكثير منه بهدف التركيز على جسد الحكاية مستخلصة من كل هذه التفريعات، وهو نمط ربما تجاوزه الزمن أو لم يعد منطقيا، فلا يمكن للاختزال أو الاختصار والانتقاء الذي يقوم به السرد أن يتجاهل ملمحا أو بُعدا وجانبا من جوانب الحياة، فالأصل في السرد الجديد أن يكون أكثر تماهيا مع الحياة ومطابقة لطبيعتها كما يعيشها الناس وأن يتخلى تماما عن كل ما يؤكد حضور الخطاب بوصفه خطابا صريحا ومباشرا ومعلنا عن هويته بدلا من أن يكون موحيا.
تقريبا لم تخلُ قصة من قصص المجموعة من هذا النمط من الاستطرادات المعرفية التي مثلت جيوبا ثرية في قماشة القصة وبنيتها إن جازت التسمية والتشبيه. في قصة (كيف صرت طاهيا ماهرا في ليلة واحدة) ثمة معرفة واسعة بمجال الطبخ ووصفاته والاستطراد مع أنواع الأكلات وأسمائها في عدد كبير من البلدان، وثمة وصفات محددة ودقيقة لأكلات بعينها أو ممارسات بعينها في الطبخ وفي عمل هذا الأب الذي يصبح بشكل مفاجئ طاهي البيت الأمهر والمتجاوز كثيرا للأم. القصة في ترتيبها السردي أو ترتيب أجزاء حكايتها في الفضاء السردي تبدأ من النهاية متحركة في اتجاه تبرير هذا التحول المفاجئ والخطير، والتبرير يأتي عبر سرد واقعة مرتبطة بليلة ذات أحداث إنسانية معقدة تتدرج تدرجا سلسا مع شخصية الرجل الذي يعد الفلافل في محل غريب بمنطقة شعبية وله قصته الفرعية العجيبة التي ربما هي جوهر القصة الإطار أو الأصلية لهذا الأب الطاهي. على أن التبرير لا يبدو فجا أو مباشرا بل يأتي ضمنيا وتلميحا على القارئ أن يتأمله ويستخلصه من حكاية هذا الرجل الآخر صاحب المطعم الصغير والطقوس الغريبة في عمله وقصة فقده لأسرته كلها في تهدم بيته عليهم، لنكون أمام بنية سردية منفتحة وغير متسلطة في إنتاج الدلالة أو تفرض وصاية على عقل القارئ فتصرح بأسباب التحول للأب إلى طاه ماهر كأنما روح غريبة حلت به.
في قصتي (مقتل ساحر الزجاج) و(صياد النسيم) يستطرد السرد معرفيا مع حِرفٍ أو مهن بعينها وتفاصيلها وتاريخ هذه المهن مثل مهنة سمكرة السيارات ودهانها وإصلاحها أو تلميعها والأدوات والمواد المستخدمة فيها، ومثلها ما يكون من استطراد مع تفاصيل مهنة صناعة السواقي من الصاج ومراحل العمل ودور الصبي الذي يساعد الأسطى من داخل الساقية في (البرشام)، وتاريخ المهنة وتعطلها مع التحولات الاجتماعية، فضلا عما بهذه القصة من استطرادات أوسع مع الهندسة المعمارية والوعي البيئي بتيارات الهواء وتصميمات المباني في المناطق الحارة في مصر أو دول أخرى، ويعمد السرد أو يتجه إلى اقتباسات ومعلومات محددة تتصل بالمعماري المصري الفذ حسن فتحي الذي تبدأ القصة بإحدى مقولاته التي آمن بها في عمله. ثم استطرادات مع مهنة الخراطة وصناعة المداخن أو منافذ التهوية، فتسهم هذه الاستطرادات المعرفية في إيهام المتلقي بثقل العوالم التي تجسدها القصص وتصنع لها حضورا قويا وضاغطا على مخيلة المتلقي؛ لأن هذه التفاصيل تجعل الحكاية من لحم ودم ونبض ومراحل بحث، فالإنسان الذي ينتجه هذا السرد القصصي هو نموذج يتمتع بقدر كبير من الديناميكية والقلق والتحفز والأمل في الإنجاز، وهو في حركته هذه يأخذ سبيل البحث والمعرفة أو الاطلاع حتى يحقق هذا التقدم والإنجاز، أو هو بالأساس يتحرك بناء على سابق معارفه، وهذا هو الأقرب للطبيعي أو للإنسان الحقيقي الذي يعاينه القارئ ويحسه في الحياة ومن ثم حين يكون النموذج الذي يطرحه السرد على الشاكلة ذاتها فإن المتلقي يكون أكثر تصديقا وتماهيا مع القصة. 
الاستطرادات المعرفية التي ينحاها السرد في المجموعة تمثل تجليا لحضور العقل في عوالم هذه القصص، وهو الأمر الطبيعي فالعقل يحضر في الحياة بنسبة حضور الغرابة والطرافة والمفاجآت والفكاهة وغيرها من الجوانب والأبعاد، ولا يغلب أحدها على الآخر أو يهيمن تماما، والقصص كلها تبدو على هذا النحو من التداخل والتمازج، فهناك الجنون النسبي والمفاجآت والطرافات والغرابات النابعة من سلوك الإنسان بغموضه وعدم القدرة الكاملة على توقعه، على نحو ما نجد مثلا في قصة (ابتسامة أم كيسنجر الوحيدة) وسلوك أبنائها الطريف يوم جنازتها حين انتبهوا فجأة لكون أمهم لم تخرج من البيت أبدا قبل موتها لتستمتع بالمناظر الجميلة وتشاهد كورنيش النيل وما حوله من جمال الحياة والطبيعة، فيقرروا أن يأخذوها في جولة وهي مكفنة في العربة الجيب فتطاردهم الشرطة وتحدث مفاجآت غريبة ومن هنا يكون الحديث عن انكشاف وجهها وابتسامتها وهي مكفنة التي بررها الأبناء بسعادة الأم بجولتها الأخيرة في المدينة بينما يأتي الاستطراد المعرفي ليضع تفسيرا آخر ضمن احتمالات القارئ بأن هذه الابتسامة هي محض تشنجات ميكانيكية مرتبطة بالتيتانوس الذي أصيبت به الأم وماتت. وإذا كان الاستطراد المعرفي في عوالم القصص نابعا من النمط الأكثر وعيا أو الأكثر اعتدادا بالعلم والمعرفة في مقابل الأنماط الأخرى المستغرفة في الماروائيات والأوهام أو المعتقدات الروحية، فإن هذا التنوع كذلك في خلفيات الشخوص وتوجهاتهم هو أحد ملامح مطابقة الخطاب القصصي للحياة في تنوعها وتبديها خارج الفن القصصي. 
في بعض القصص نجد تأسيسا بنائيا لها على هذه الاستطرادات المعرفية، فبعضها ربما يكون نابعا في الأصل من وعيّ معرفي خاص بحالات مرضية تحديدا، ليكون هذا الوعي هو المحرك للبطل في التفكير في رؤيته للعالم حوله أو للشخصيات على نحو ما نرى في ثلاث قصص ربما كلها تتأسس فكرتها على الوعي بمعارف معينة أو خاصة ودقيقة، وهي قصة مقتل ساحر الزجاج التي يمكن القول بأنها نابعة من معرفة بمرض ضلال الزجاج الذي كان ذائعا في القرن 19، ويستطرد السرد مع تاريخ هذا المرض وأشهر الحالات التي أصيبت به في العالم، وهي نفسها قصص فرعية تاريخية لا تخلو من طرافة وغرابة وتشويق وترتبط بالحكاية الأصل ارتباطا قويا. وفي قصة (شجرة الباوباب) نجد أن الشجرة تحولت إلى ضحية موازية وبطلا ثانيا في القصة لا تختلف في شيء عن مصير الضحية الأولى المتمثلة في الجندي المغدور الذي قتله المختبئون خلف أشجار حديقة الأورمان وقت فض اعتصام النهضة. يبحر البطل الطبيب كذلك والعارف بتاريخ الأشجار مع هذه الشجرة القادمة من أفريقيا لتعمل وفق طبيعتها الربانية في تخزين المياه ولا تقدر على صدّ الرصاص ويظل مصيرها بعد اختراق الرصاص لها معلقا بالضبط مثل مصير الجندي الذي رآه ينفجر الدم من ظهره وحاول مساعدته ثم أخذته الإسعاف. فالاستطراد هنا أنشأ بطلا موازيا أو ظلا للجندي لنكون أمام حال عامة من جنون الإنسان الذي لا ينجو من عنفه الشجر، فكأن الكون كله أصبح فريسة وضحية لهذا الجنون. وفي قصة (سيل الليل) يبدو الصراع بين الطبيب السجين ومأمور السجن مؤسسا على الاستطراد المعرفي المرتبط بوعي الطبيب بالحال المرضية لهذا المأمور وصرعه الذي يستثمره الطبيب ويعمل عليه في محاولة لهزيمة المأمور برغم أنه أدى قسم أبيقراط بألا يستخدم الطب إلا لخدمة الإنسان. فكأن القصة في جوهرها مؤسسة على هذا الاستطراد المعرفي أو هذه المعلومات الخاصة بحقل الطب. في قصة وزة نهاية العالم ثمة توظيف مختلف للاستطراد المعرفي لأن بها توظيفا يرتبط بالوعي بالمكان وبطبيعته، ويقدم وصفا طبوغرافيا دقيقا للشوارع والأماكن وأوقات الذروة والطرق التي يصعب المرور عبرها في أوقات بعينها لأنها مكتظة بالخارجين من مناطق المدارس فكأننا أمام ضابط مرور يعرف حركة المرور بدقة في شوارع القاهرة وفي أي وقت يكون الزحام، وهو الأمر نفسه الذي نجده مع منطقة العمرانية وبعض ضواحي الجيزة وطبيعتها من حيث المستوى الاجتماعي والاقتصادي المتدني. ولا يختلف عن هذا كثيرا قصة (ننتظر ونراقب) التي تتأسس على معرفة دقيقة بمراحل معالجة مرض السرطان والإجراءت الدقيقة التي يتبعها أطباء التحليل أو الأطباء المعالجون، وعلى هذه الحال المرضية الطارئة تتأسس المقاربة النفسية للشخصية الرئيسة وهو الأب الذي يبدأ في رؤية العالم بشكل مختلف وقت معرفته بالإصابة بالمرض وكيف يرى مستقبل أبنائه وزوجته، ثم تبدأ هذه الرؤية في التغير تبعا لتغير نتيجة التحليل، فيحدث نوع من التحول من النقيض إلى النقيض وتجيد القصة في تمثل الأحوال النفسية للشخصية بقدر كبير من البراعة والدقة.
بعيدا عن فكرة الاستطرادات المعرفية وتوظيفها فإن سرد هذه المجموعة القصصية يتتمع بقيم جمالية عديدة منها رصد تحولات الإنسان النفسية والاجتماعية وفقا لتغير السياق المحيط به وهو ما يجعل كثيرا من شخصيات المجموعة أنماطا إنسانية نابضة ومرشحة لأن تظل باقية في ذهنية القارئ لمدة طويلة كما لو كانت شخصيات روائية يتحقق رسمها من كافة الجوانب والأبعاد النفسية والجسدية والاجتماعية وهو ما نراه متحققا مع أبناء (أم كيسنجر) والحقيقة إن القارئ في بداية القصة ومن عنوانها واسم الشخصية يشعر كما لو أنه أمام قصة خارج المجتمع المصري ثم يبدأ السرد تدريجيا في تبرير هذه التسمية الطريفة ومن هنا نجد سردا لا يضطره الاختزال أو التكثيف إلى نوع من التسرع أو إهمال مثل هذه التفاصيل التي تبرر تحولات الشخصية، فجمعة هو نفسه كيسنجر ولكن هناك أسباب كثيرة وراء استقراره على هذه التسمية الجديدة التي كان هو نفسه يستغربها ويرفضها.
القصص تتسم بأنها سرد مشهدي يراوح بين الوصف والتصوير والرصد بعين الكاميرا وبين الإخبار والاختزال أو الإخبار والهمس ليكون هناك تفاوت في إيقاعها السردي بين البطء والسرعة وكي لا تكون كلها ماضية على وتيرة واحدة لاهثة أو بطيئة تكون مرهقة للقارئ بل تحدث المراوحة بين الوتيرتين على نحو عال من الوعي بمساحات كل منهما في فضاء سرد كل قصة. بعض القصص تصلح في تقديرنا لأن تكون فيلما سينمائيا قصيرا يقدم عالما جديدا وحكاية مختلفة تماما، وكثير منها يحقق التشويق والكوميديا مع الراسخ من رصد معاناة الإنسان وحيرته في هذا الوجود بمآسيه وأسئلته ومشكلاته.
لعل أبرز سمات هذا السرد القصصي تتمثل في ملامح الشخوص سواء في أبعادها الجسدية أو النفسية أو المكانة الاجتماعية والطبقية، فكافة الشخوص لها حضور قوي وملامح واضحة وبخاصة الملامح النفسية، فيبدو كثيرٌ منها مصورا من الداخل على نحو ما نجد هذا في شخصية جمعة الشهير بكيسنجر أو (فتحي لزقة) في قصة عري أحمر، وربما يؤدي الاستطراد المعرفي في هذه القصة تحديدا دورا نفسيا لأن هناك تحليلا نفسيا لهذا السجين المريض بالجرب يأتي عبر هذا الاستطراد، وهو ليس تحليلا حاسما أو تفسيرا محددا بالمعنى التقليدي الذي يكون خارج الأدب بل هو نوع من الرؤية أو طرح الأسئلة حول طبيعة هذه الشخصية وربط سلوكه في اللزاجة والتزلف للآخرين من غير المصابين، وهذه الرؤية تأتي من جميع الطلاب المساجين له لكن جزأها الأبرز والأهم هو ما يأتي عبر رؤية الطبيب السجين الذي يمثل قوله حوارا علميا طبيعيا مع زملائه وليس رؤية يقدمها السارد الرئيس أو الراوي أو المؤلف وهي كلها مختلفة ولكنها تنفصل تماما عن المسرود عنه أي الطالب الشاب الذي يتحاور مع زملائه. وطبيعي أن يكون من بين الشخصيات من يتكلم بثقافته أو يفسر العالم وفق رؤيته التي قد تكون علمية بحتة أو متخصصة دقيقة، وفي هذا الشكل يتم صف العلمي مع الساذج والهين والتافه مع الأكثر اطلاعا والأقرب للجدية، ولعلنا جميعا ندرك أن هذه هي طبيعة الحياة في تنوعها. المهم أن هذا الاستطراد يكمل لوحة القصة ويبرز ملامح عالمها ويجعلها حاضرة في مخيلة القارئ بأقوى صور الحضور والتجسد.