السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأنبا بطرس فهيم يكتب: الشفاء

الأنبا بطرس فهيم
الأنبا بطرس فهيم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نحن في زمن نتكلم فيه كثيرا عن المرض والشفاء، وخصوصا في هذا الزمن، زمن وباء كورونا. ولكني في الحقيقة لا أريد الكلام علن المرض والشفاء البسيط الذي يتم كل يوم من حولنا بسبب أمراض عديدة أقل أو أكثر خطورة، أقل أو أكثر انتشارا. بل أريد أن أتكلم عن الشفاء كعملية إنسانية متكاملة: جسدية، نفسية، روحية، اجتماعية، أخلاقية، ثقافية.. إلخ. 
يتكلم الناس كثيرا عن الأمراض التي تمس الجسد، ويرتعبون إن كان لها نسبة انتشار ونسبة خطورة أكبر من العادي، والمتعارف عليه، فيسمونها حينئذ، وباء، كارثة، جائحة. ويتحرك العالم كله ليتصدى لها بكل ما أوتي من قوة وعلم. ولنا في فيروس كورونا الذي يجلد العالم كله منذ ستة أشهر ولا نرى له بعد بوادر نهاية، ولا حتى بشرى سارة لوجود علاج ناجع، ولا لقاح مانع، ولا مصل شاف. فكل ما يُقدَّم حتى الآن هو مجرد علاج للأعراض، التي تظهر مصاحبة للإصابة بالفيروس، ولكن ليس للقضاء على الفيروس نفسه. وهكذا يحدث غالبا مع كل الأمراض التي تستجد وتنتشر في العالم، فان البشر يأخذون وقتا، قد يطول وقد يقصر، قبل أن يجدوا لها الدواء الشافي والعلاج الوافي. ومنها ما لا يجدون له ما يكفي من دواء، فيوصي المجتمع العلمي والطبي، بالتعايش مع المرض، وتكييف الحياة مع متطلباته، مع الأخذ في الاعتبار الاحتياطات الوقائية، التي تحد من انتشاره، ومن تأثيره الضار والمميت أحيانا كثيرة. 
ما يحدث على مستوى الأمراض التي تصيب البدن، يحدث أيضا على مستوى أمراض أخرى تصيب مجالات ومستويات أخرى من مجالات ومستويات حياة الإنسان. فكم من الأمراض والعادات السيئة والسلبية والضارة التي نتعلمها أو نتوارثها اجتماعيا؟ وكم من الأخلاقيات والعادات والرذائل التي تصيبنا أخلاقيا، والتي تساهم في نشر الفساد والرزيلة في المجتمع وبين الناس، سواء في الهيئات والمصالح والمؤسسات العامة، أو حتى في العلاقات الخاصة والفردية؟ وكم من العادات التي نكتسبها أو نتوارثها أو نقع ضحية لها، ونعاني منها، على المستوى النفسي، وتسبب لنا الكثير من الأمراض النفسية بأنواعها ودرجاتها المتفاوتة؟ وكم من الآفات الروحية المنتشرة فينا كأفراد أو كجماعات ومجتمعات دينية، في كل دين وفي كل طائفة، ونلاحظها ونشكو منها جميعا وتسبب لنا الكثير من المشكلات والتحديات فلا تدعنا ننمو إيمانيا وروحيا؟ كل هذه الأمراض والآفات لا تقل شيئا عن الأمراض والآفات الجسدية التي ننبري لها بكل قوة لمواجهتها، ولكننا للأسف لا نهتم كثيرا لبقية الأنواع من الأمراض، التي قد تكون مرات كثيرة أكثر فتكا وضررا وإفسادا للإنسان وللمجتمع على كل المستويات. 
هل تساءلنا مرة لماذا نعطي كل هذا الاهتمام لأمراض الجسد بينما لا نحرك ساكنا لأمراض النفس والقلب والروح والمجتمع؟ كم من مرض أصاب العقول والقلوب والنفوس والضمائر؟ وكم من آفات استشرت في المجتمع وفي المؤسسات والأجهزة بسبب هذه الأمراض الاجتماعية والأخلاقية والروحية والنفسية؟ مما جعل الفساد يتغول وينتشر بلا ضابط ولا رادع، فيتأذّى منه كل الناس تقريبا إلا من لهم سلطة وأو هيبة. وقد فعَّلت السلطة السياسية الكثير من الأجهزة، مثل الرقابة الإدارية، لردع هذا الأمر ولكن مازلنا نسمع كل يوم عن قضايا فساد يندى لها الجبين، وما زلنا نعاني الأمرّين في كل جهة يكون للمواطن فيها مصلحة، فإن لم يكن له واسطة أو لديه ما يدفع فقل على مصالحه السلام. هذا بخلاف سرطان الدروس الخصوصية، ومافيا تجارة المخدرات، وتجارة الأعضاء البشرية، وسرقة موارد وأراضي الدولة، هذا بجانب المفاسد في القطاع الإداري والمحسوبيات والمجاملات وغيرها، وغياب الضمير في العمل. وغيرها الكثير من المفاسد في كل مجالات الحياة والعمل التي لا مجال هنا لسردها. إن هذه المفاسد لهي أخطر على المجتمع، وعلى الناس، من الكثير من الفيروسات، ومن الميكروبات، ومن الكثير من أمراض الجسد. فكيف لا يهب لمحاربتها المجتمع برمته هبة رجل واحد للتصدي لها؟ وكيف نترك عبئ مواجهتها على كاهل الحكومة وحدها. إن كل من يتساهل مع هذه المفاسد، أو لا يعلن عنها ويفضحها، ويبلغ الجهات المختصة عن مرتكبيها لهو شريك فيها، ويجب أن يدان مع مرتكبيها. 
أريد أن أتكلم معكم عن عملية الشفاء. وما تنويهي عن الأمراض المتنوعة في الفقرات السابقة إلا لكي نعي أهمية هذه الأمراض ونتحرك في سبيل إيجاد طريقة للشفاء منها. وكما للمرض، لكل ولأي مرض، مستويات ومراحل، كذلك للشفاء، لكل ولأي شفاء، مستويات ومراحل. وأول طريق الشفاء هو الإدراك والاقتناع بفداحة المرض وخطورته على الإنسان وعلى المجتمع. ثم بعد ذلك الرغبة والتصميم على الشفاء. وللإرادة الثابتة وللعزيمة الصلبة تأثير كبير على الإسراع ونجاعة عملية الشفاء، فلا يخفى على أحد أن الإرادة الصلبة والنفسية المنشرحة والأعصاب المستريحة والحالة النفسية المرتفعة تؤثر إيجابا على قوة جهاز المناعة في الجسم المنوط به محاربة كل أنواع الأمراض التي تصيب الجسد. إن عملية الشفاء هي أحيانا كثيرة عملية معقدة مصعبة ومكلفة على كل المستويات، سواء المادية أو المعنوية. ولذلك لا بد من التحلي بالوعي الكامل والرغبة الصادقة في الشفاء، وعمل مسيرة الشفاء كاملة وغير منقوصة، مهما كلف الأمر. فكثير من الناس ينكرون أو يتنكرون لأمراضهم، وغيرهم يخبأونها ويتجاهلونها، وغيرهم يتهربون منها ولا يريدون مواجهتها. وغيرهم يذهبون إلى الطبيب فقط ليجدوا عنده الراحة وليس الشفاء، فهناك فرق كبير بين أن ترتاح من مرض، أيا كان نوعه جسدي أو نفسي أو روحي، بعلاج أعراضه المؤلمة أو المزعجة، وأن تعالج المرض ذاته وهذا أمر، كما قلت قد يكون مكلف جدا على كل المستويات. فأحيانا ليس لدينا الإمكانية المادية، أو ليس لدينا الشجاعة، أو ليس لدينا كليهما. 
فالشفاء هو مسيرة نمو وتربية ونضج. أن نشفى هو أن نستيقظ، أن نعي، أن نقبل الحقيقة، أن نخلع الأقنعة، ونزل الغشاوة من على عيوننا، ونتحلى بالشجاعة، ونسمي الأمور بأسمائها، نسمي أمراضنا بأسمائها الحقيقة، وأن نقبل نقصنا وضعفنا وواقعنا على حقيقته وليس كما نتخيله أو نتوهمه. أن نسمي أمراضنا الجسمية والنفسية والروحية والاجتماعية بأسمائها، ونقدرها حق قدرها. ونقول كم نحن إيجابيون في كذا وكذا، وكم نحن سلبيون في كذا وكذا، كم نحن محقون في كذا وكذا، وكم نحن فاسدون في كذا وكذا؟ هل لدينا الوعي؟ هل لدينا الشجاعة؟ إذا تفحصنا جيدا في كثير من قناعاتنا فسنجد المفاجآت. سنجد أن ما نحبه في أشخاص معينين هو رأينا فيهم وحكما عليهم، وليس هم بذواتهم، بدليل أنهم لو غيروا سلوكهم أو موقفهم فستتغير وتنهار محبتنا لهم وحكمنا عليهم، فنحن نظن أننا نحبهم ولكننا في الحقيقة نحب كونهم أسري لرؤيتنا ورأينا وحكمنا عليهم. ونحن نحب شيئا ما أو شخصا ما، ولكن في الحقيقة نحن نحب ما يروقنا فيه، وليس الشيء أو الشخص في ذاته، نحب حبنا له وما يعجبنا فيه، وهذه هي الأنانية بذاتها. والدليل هو التغير الذي يطرأ علينا، وأحيانا بشكل دراماتيكي، حين يتغير شيء جوهري في هذا الشي أو هذا الشخص. نحن نحتاج أن نتعلم كيف نكون مستقلين في علاقاتنا وفي أحكامنا وفي محبتنا. نحتاج أن نكون ذواتنا على حقيقتها، وبقدر ما هي في الواقع والحقيقة، وبغض النظر عن الأشياء والأشخاص. فسعادتنا يجب أن تنبع من داخلنا، حيث يسكن الله، وحيث تسكن حقيقتنا التي نكتشفها على ضوء روح الله وكلمة الله، وليس من شيء ولا من شخص آخر خارج عنا، مهما كان هذا الشيء، ومهما كان هذا الشخص. 
إن الشفاء أعمق بكثير، وأبعد بكثير من مجرد التخلص من أعراض أمراضنا. إن الشفاء هو علمية اكتشاف للذات، هو علمية تحرر مستمرة، عملية صنفرة مستمرة لكياننا لنجلو حقيقته ونجلو عنها كل ما لصق بها من أتربه الواقع المزيف، والعلاقات غير السوية، والعادات الضارة، والسلوكيات المشوهة، والأخلاقيات المضللة، والقناعات الأنانية. أعتذر عن هذا التوصيف القاسي، ولكنه للأسف حقيقي، وهنا يجب أن أكون منصفا وأقول إن الكثير من هذه العادات والسلوكيات والقناعات نحن توارثناها ونعيشها ونحن لا نعي بها، ونحن نعتبر أن هذا هو الواقع ولا يوجد غيره. ولكن من يريد حقا أن يعيش مسيرة شفاء ويقظة، فيجب أن يتوقف ويفكر مليا وعميقا، ليصل لأبعد من الواقع الذي يبدو على سطح الأشياء والأشخاص. فالواقع الحقيقي للإنسان هو أبعد بكثير مما يبدوا في الواقع الظاهري، فالباطن أعمق وأغنى وأفضل لأنه مختلف تماما عما نرى وعما نسمع وعما نتوقع. هناك حيث يسكن الله في صمته في عمق هيكلنا الداخلي وقدس أقداسنا، وحيث تقبع ذاتنا الحقيقية في صمت، تلامس نور الله، ولكن ضجيج الخارج يزعجها ويخيفها ويجعلها تنكفئ على نفسها، تنتظر منا لحظة الحقيقة، ولحظة الشجاعة، ولحظة العمق، ولحظة الحقيقة التي تقودنا إلى أعماقنا لننزل إليها بنعمة الله وبكلمة الله وبروح الله، لنرى أنفسنا على حقيقتها وبكل غناها وقوتها لتتحول حياتنا، ومعها واقعنا، لواقع أفضل وأقوى وأجمل، هو واقع الحقيقة والمحبة المستنيرة بنور الله والمنتشية بحب الله.