الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

الأمل يتحدى الهموم مع «بعلم الوصول».. الفيلم ينقب عن كنز السعادة المتلاشية في عالمنا.. والحزن والخوف واليأس كائنات هزيلة كالحشرات.. "أزمة الإنسان" تحول إلى مجرد شيء فاقد الوعي بذاته الأصيلة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يجسد فيلم «بعلم الوصول» شخصية «هالة» الزوجة العادية، لكن المتمردة في داخلها، رُغم عجزها عن مواجهة شراسة مرض الاكتئاب الذى يلتهم كل شيء فيها، ويُحرضها بضراوة على سرعة مغادرة الحياة، إلا أنها تلجأ في معركة المقاومة إلى تدخين السجائر بشراهة، والاقتراب من أفراد أسرتها، لكنها حين تُنصِح شقيقتها الصغرى بألا تتأخر أو تلعب مع الصبيان؛ خوفًا من انتقاد الجيران، تَصْدِمُها برأى الناس الرَّدئ فيها، فتكتشف أنها تُردد نفس كلمات من حولها من دون وعى، رغم اختلافها التام مع منطقهم وأفكارهم.


يعرض البيوت المُتَهالِكة في الداخل والخارج، وتراكم أكوام الزبالة، وطوفان الزحام، وفوضى الضجيج، وتفاقم الأتربة، فكل شيء يبدو ميتًا بلا قلب، كملامح الشخصيات الفاتِرة، وحياتهم الغائمة، فرُغم الانسجام المُعلَن فيما بين هالة وزوجها، إلا أن القلق والسأم والأسف يكسو وجههما طوال الوقت، فهى تَنشُد الدفء والاحتواء والسلام؛ فتنام كل ليلة مُكوَّرة في وضع الجنين، المُحتمى بغطاء الرَّحِم، والزوج يمتثل لمصير روتين عمله اليومى، وإدمان مشاهدة «ماتشات» كرة القدم في المقهى أو التليفزيون.
ترتعِب الزوجة حين تلمَح «صرصورًا» أمامها في المَطْبَخ، فَتبْتهِج ابنتها الصغيرة، وترسم الابتسامة الغائبة على وجهها الشاحب، فتشعل فتيل السؤال في نفوسنا: «أليس الحزن والخوف واليأس كائنات هزيلة وضئيلة وحقيرة كالحشرات! لماذا نتركها إذن تُخرِّب نفوسنا، وتصيبُها بالتَّشظى والاخْتِلال والاخْتِناق؟!» و"لماذا صار المخلوق الوحيد الذى يحتفل بالدنيا في كل لحظة هى طفلتها الجميلة، التى أحدثت صخبًا متعمدًا بجانبها؛ لتصحو من غفوتها؛ لتجدد فيها مشاعر الفرح التى تجمدت داخلها وخارجها.
تجد صديقتها وجارتها الممرضة متعة مشروعة وسط عالم يرهقها، ويقتل إنسانيتها كل يوم، فتتزوج عرفيًا من «تمرجيًا» دون علم والدها المريض، الذى تحول إلى جسد، بلا روح، لا يفارق سريره، تقول له «هالة». «ربنا يديك الصحة». فيرد ساخرًا: «الصحة! مش عايزها! لما الواحد يكبر لدرجة عدم القدرة على تلبية احتياجاته الشخصية، يبقى يستحق الضرب بالنار». فهو يَمْقُت ذاته بعد أن سقط في مستنقع آلامه، وتهاوت أوضاعه، ويرفض الحياة بعد أن تعاظَمَت انكساراته، ويرغب في الهروب منها بدلًا من مواجهة إخفاقاته. 
تتردد الزوجة في زيارة الطبيب النفسى، رُغم أنه قد يساعدها على تَقبُّل هذه الحياة النمطية؛ ربما لأنها تُدرِك في داخلها أن جذور التَّشافى من سموم الواقع التى اخترقتها، والرغبة الجارفة في الانسحاب من الحياة، التى استعبدتها بعد وفاة والدها، الذى كان يشاركها موهبتها في الرسم، ويشجعها على ممارسته، ليس التلاشى المؤقت في نَشْوة التقاء زوجها أو في إيقاظ ضحكة ابنتها المُتهلِّلة، بل في القفز فورًا خارج أسوار تلك الزنزانة المعتمة، واسترداد نفوذ ذاتها، واكتشاف باعث وجودها في عالم أصبح شائكًا وغامضًا ومتعقدًا.
تزور السيدة الثرية التى تُمثِّل شهادتها طوق النجاة الوحيد لزوجها، الذى يعمل محاسبًا في بنك، والمسجون ظلمًا؛ لارتكابه خطأ غير مقصود، لكن غُرورها الوَضيع يَمْتهِن صِدق هذا الدور الرَّفيع، فتقول لها بنبرة متعالية: «إنت جاية تترجينى"؟! فترد «هالة» بكبرياء مجروح: «أنا مبعرفش أترجى». ثم يتحرر صوتها الداخلى من أغلاله الماضية، ويتدفق كشلال هادر في سرد قصة مرض والدها المتوفى، وهو نفس المرض الذى أصاب والد الممرضة، التى لجأت إليها لرعايته، أثناء احتجازه في المستشفى، فروت لها عن أسرتها التى أنفقت نصف ما تملك على علاج أبيها حتى مات، ثم ما تبقى على مرض أمها حتى لحقت به». 
تُحدث ثقبًا متكررًا في الكنبة المكتسية بلون السماء، والمتصدرة صالون منزلها، أثناء لحظات ارتباكها وصراعها العنيف في محاولة الفرار من ملاحقة ذلك الصوت المخيف، الذى يحرضها بصرامة على ضرورة الانتحار، ورُغم أنها تُصلِحه يدويًا في كل مرة، إلا أن السيجار يقع على السيجاد في المرة الأخيرة؛ فيحدث به ثقبًا أسودًا غائرًا، مُحال إصلاحه، فيهزمها عجز آخر عن رفع أحمالها الثقيلة والمتعاقبة، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: «لماذا كلما حاولنا علاج شيء ما في أوج أزماتنا وخيباتنا يفسد الآخر؟!» 


ترسل لها شخصية مجهولة، تدَّعى أنها صديقة قديمة، عددًا من الخطابات، فتجد في قراءتها الرفيق المخلص، الذى يشبهها في أمور كثيرة، مثل مرآة برَّاقـة، تكشف أسرار كامنة في داخلها، لم تكن تراها، أو تعرف عنها شيئًا، ورُغم أنها تُؤرقها بالتفكير، وتُورِّطها في حوار مُتواصِل، يدور في الخفاء، فيما بينها وبين نفسها، أو فيما بينها وبين صديقتها، أو فيما بينها وبيننا، إلا أنها تُساندها، وتُرشدها، وتَقودها بشدة ونحن معها إلى التأمل العميق في قيمة هذه الحياة، بدلًا من مراقبة تفاصيلها الرتيبة.
تقول لزوجها: «أشد ما يُزعِجُنى في شقتنا أنها بلا بالكون». لأنها تبدو جدران صماء بلا روح؛ لذا اجتذبها بقوة المنظر الطبيعى الذى رسمته شقيقتها على الحائط في منزلهما القديم؛ مما دفع والدتهما إلى ثورة عارمة، ثم ضربها بقسوة بالغة، إلا أن دهشة «هالة» أمام براءة تعبير الخطوط والظلال، نقلتها بعيدًا عن انْحِطاط واقعها البائس والمحدود إلى فضاء أنبل وأرحب وأروع، تحلم به دومًا، ولا تجده، لكنها لمَحت آفاقه البعيدة تلامس حاضرها رغم مرارته، وكأنه جاهز دومًا للتدخل، وقلب موازين كل شيء.
صَنعَت شقيقتها «الحلم» المجانى والمتواضع، الذى تمنت «هالة» تحقيقه بدلًا من زيارة الطبيب النفسى؛ البالكون الذى اسْتَحال واحة خضراء، والستائر الشفافة، والشمس الساطعة، والأمواج الهائجة، والنسمات المنعشة؛ فامتدت يَديْها؛ لتبعث فيه الفرح بضوء المصباح، الذى وضعته في أعلاه؛ ربما لأنها أيْقنَت أخيرًا أنها قادرة على خلق وجود أجمل وأعذب وأبدع، رُغم كآبة هذا العالم حولها، مثل هذه الصورة المدهشة التى أحْيَت موهبتها القديمة في الرسم، ثم أضاءت هى فيها نور الحياة.
يُنقِّب الفيلم عن كنز السعادة التى تتلاشى تدريجيًا عن عالمنا، فلا نجدها سوى في البَسْمة الرِّقْراقَة على وجه الطفلة الصغيرة، وشقيقة الزوجة برفقة زميلاتها في المدرسة، وهو نفس الوجه الذى تَبدَّى عابسًا دومًا، كوجه والدتهما الغافلة عن عالم ابنتيها، واحتياجاتهن، والمنغمسة في أداء مهامها المنزلية التقليدية، وكألم الخَسارَة الطافح على وجه «هالة». لرحيل والدها الحبيب، بعد معاناته القاسية مع مرض «سرطان البنكرياس». الذى طعنه مُباغَتَة، فاقْتلَع منها مشاعر المرح والسكينة والأمان.


يجسد الفيلم الوجود الزائف الذى وصل إليه البشر في هذا العصر الحالى! فقضيته الرئيسية هى «أزمة الإنسان» الذى تحول إلى مجرد شيء، فاقد الوعى بذاته الأصيلة، وجوهر هويته الحقيقية؛ فقدم رؤيته الجَدليَّة عبر صورة باهتة، وقاتمة، تعكس تَصدُّع واقع الشخصيات التى تتحرك فيها، والمدفوعة بحركة «ديناميكية» مُتكرِّرة، بلا شغف، أو هدف واضح، أو إرادة جادة في التغيير؛ فأضْحَت لُقمَة سائِغة بين مخالب التوتر والإحباط والتعاسة؛ ومن ثم نجحت الشاشة السينمائية في صياغة دقائق ما وصلت إليه أحوالنا.
يلخص الفيلم قصة «الإنسان» في مشهد غير مألوف، تنام فيه طفلتها الصغيرة على السرير بجوار والد الصديقة المريض، الطاعن في السن، فنرى البداية والنهاية يرقدان على وسادة واحدة، والحياة والموت يعيشان في غرفة واحدة، إلا أنه رُغم كل تلك المفارقات المُلغِزة والموحِشَة، يقدم شخصية الزوجة التى لا تقبل في ذروة محنتها المُهلِكة، ورُغم شروخِها الغائرة، التسليم، أو الخضوع، أو الركوع، بل تتطلع روحها النَّضِرة في النهاية إلى البحث عن المعنى المشرق للحياة؛ ومن ثم تحاول أن تفعل شيئًا.
تقترب الكاميرا من ملامح وجه الزوجة في مشاهد متعددة، تكشف كل أوجاعَه؛ مَهموم، مُجهَد، سَجين داخل دائرة ضيقة ومغلقة؛ وهو ما عبرت عنه في خطابها إلى صديقتها المجهولة، التى وصفت فيها مشاعر الفَقْد، والعَجْز، والظُّلم، التى تطاردها دومًا ونحن معها، إلا أنها في المشهد الأخير والأهم والأخطر، ورُغم كل هذه الصَّفعات العاصفة والمتلاحقة، تُسلِّم نفسها الصافية إلى نبضات في الكون، مَحْسوسَة، لكنها غير مرئية، فتصبح جزءًا من إيقاعه المَهيب والرقيق والمتناغم؛ فينطلق حَدسِها المُرهَف برسالة «أمل» مُطْمَئنَّة إلى كل الإنسانية، تقول: «إن الرَّهبة من الظلام الحالِك، المُحدِّق بنا، لن يستمر طويلًا، بل حتمًا سيختفى؛ لأنه لا بد أن يأتى يومًا وينتهى".