الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأنبا بطرس فهيم يكتب: غربة القلب

الأنبا بطرس فهيم
الأنبا بطرس فهيم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في هذا الزمان، زمن الآلام والحروب والفقر والحاجة، زمن الطموح لحياة أفضل ومستقبل أكثر أمانا. كثرة الهجرة وما يتبعها من شعور بالغربة والاغتراب. ومنذ بداية الحياة على الأرض والإنسان يسعى دائما وراء لقمة عيشه، فلما كان الإنسان مجرد بدوي يعيش في القفار والصحاري، كان يسعى إلى الأماكن الأكثر خصبا ليرعى فيها قطعانه. ولما بدأت الحياة الزراعية حول مجاري المياه الثابتة كالأنهار والينابيع كان الناس يتنقلون في أوقات الفيضانات أو في فترات الجفاف. وكان هذا طابع الحياة. ومع الثورة الصناعية حيث كثرت المشروعات كان الناس يهاجرون من القرى إلى المدن للعمل فيها في المصانع والمشاريع الكبرى. ولما زادت الأطماع ومعها الحروب والمجاعات والأوبئة تزايدت معها الهجرة، إما بسبب البحث عن لقمة العيش، أو عن حياة آمنة، أو عن مستقبل أفضل للأبناء، أو بحثا عن رفاهية أكبر، أو غيرها من الأسباب. ولقد ضمنت وثيقة حقوق الإنسان حق الإنسان في التنقل والترحال. فهناك من يتغرب اضطرارا وهناك من يتغرب اختيارا، وفي كل اغتراب الم وفراق ووحشة. وقد هاجر السيد المسيح تفاديا لخطر هيرودس الملك على حياته، وعاد بعد أن زال الخطر. من الهجرة جاء تعبير الهجر، والذي يشير إلى البعد والفرقة واللوعة والحرمان.
لا شك أن في البعد عن الأوطان ألم وشوق للعودة، للقاء مع الأهل والأصدقاء والأحباب والذكريات، ففي الغربة يشعر الإنسان بالعوز والحاجة، وأحيانا بالذل والمهانة، وأحيانا أخرى الازدراء والتهميش، وبالتالي بالعزلة والوحدة والخوف، وما يصاحب ذلك من مشاعر الحنين وطلب العودة إلى مصدر الأمان والاستقرار. فكم من أجساد في الغربة وقلوب في الوطن؟
ولكن الغربة لا تكون فقط خارج الأوطان فهناك هجرة خارجية، وهناك هجرة داخلية، داخل الوطن الواحد، من مناطق أكثر فقرا أو جهلا أو مرضا أو تهديدا للحياة وللفكر وللإيمان وللمستقبل، إلى مناطق أكثر أمانا وسلاما واستقرار إن وجدت داخل نفس الوطن، مناطق جديدة، مناطق صناعية، مناطق ساحلية، مناطق سياحية ... الخ.
الغربة الأكبر هي التي يختبرها الإنسان لا عندما يغادر المكان جغرافيا، ولا عندما يبعد عن الوطن مكانيا، بل التي يختبرها الإنسان عندما يشعر بالغربة والعزلة والوحدة وهو في مكانه، وبيته، وبين أهله، وأقاربه، ومعارفه. حيث يشعر بالفرقة والقطيعة الإنسانية الباطنية، حيث يشعر بالمسافات تتباعد، والأفكار تتناقض، والمشاعر والأحاسيس تجف، والألفة والوفاق تختفي، والدفء يذوب وحوائط الجليد تبنى وترتفع. هنا يشعر الإنسان بدرجة أكبر من العزلة والوحدة والوحشة، وانقباض المشاعر، وضيق في التنفس، وخوف ويأس ومرارة.
أسباب هذه الغربة قد تكون كثيرة، خلافات شخصية، أو مصالح متعارضة، أو غيرة وحسد، أو فتور في الحب، أو منافسة غير شريفة، أو كره غير مبرر، أو تربية غير سليمة، أو أنانية قاتلة، أو سطحية سائدة، أو وسائل تسليه وترفيه مسيطرة، أو خوف تتعدد أسبابه، أو اختلال في سليم القيم وترتيب الأولويات، أو عدم تنظيم وضبط الوقت والمشاعر، أو غياب معنى الأسرة والعائلة، أو انشغال بالعمل أكثر من الأشخاص، أو أزمات نفسية أو عاطفية أو روحية، أو غياب المعنى والقيمة والهدف، غياب الله والحس الديني ... الخ. فكم من بيوت من ذهب تسكنها قلوب من طين؟ وكم من بيوت من طين تسكنها قلوب من ذهب؟
الغربة الأكبر هي الغربة عن الذات. وهي تأتي حين يشعر الإنسان أنه لا يفهم ولا يقبل نفسه ولا يتوافق مع أفكاره ومشاعره ومع أعمق ما فيه، فيشعر بتمزق باطني، وصراع داخلي. وهذا ما عبر عنه القديس بولس حين قال: "فإني أعلم انه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن افعل الحسنى أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا، بل الخطيئة الساكنة فيَّ. إذا أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي. فإني اسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. ولكن أرى ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطيئة الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت" (روم 7 : 18 – 24). إنه الصراع بين ما في الإنسان من خير وشر، من روح وجسد، ولكن هذا الصراع يمكن إدارته من خلال قيادة روحية حكيمة وواعية. إذ لا يجب أن يحارب كيان الإنسان بعضه بعضا، بل يجب أن يعترف كل بعد في داخل الإنسان، وفي تركيبه الطبيعي، بمكانة وأهمية البعد الآخر، ولا يجب أن يلغيه. فلا يجب أن يلغي الروح الجسد، ولا أن يلغي الجسد الروح، بل يتعاون الاثنان في رقي وتطور الإنسان نحو هدف واحد، هو الإنسان الموحد المُحقَّق روحا وجسدا، على صورة الله. فليس الجسد شرا كما كانت تقول بعض الفلسفات القديمة، وبعض الروحانيات المنحرفة. وإلا لما أخذ السيد المسيح طبيعتنا البشرية، واتحد بجسدنا البشري وقدسه ورفعه إلى اعلى المراتب. فلا إنسان حقيقي كامل بلا جسد، كما لا يوجد إنسان حقيقي كامل بلا روح. فالإنسان بلا جسد هو كائن هلامي غير واقعي، ليس بإنسان، والإنسان بلا روح هو جثة ما تلبت أن تتحلل. وليس ما نقصده في حديثنا هو الصراع بين الجسد والروح بل الصراع النفسي الذي يجد الإنسان نفسه ضحية له بسبب التربية أو صراع الرغبات وصراع الإرادات، أو بسبب خبرات سلبية مزقته وتمزقه وجوديا ونفسيا وروحيا وإنسانيا على كل المستويات.
أما الغربة الأعظم على الإطلاق فهي الغربة عن الله. فحين يغيب الله يصبح كل شيء مباحا، وإذا استباح الإنسان كل شيء فقد مركز توازنه، ولحمة بنيانه، ووحدة كيانه، فصار كريشة في مهب الريح، وكمركب تتقاذفها الأمواج والعواصف، بلا دليل وبلا دفة وبلا ربان، فمن كان بلا رب فهو بلا رُبَّان أو قبطان يقود حياته، ويوجهها نحو وجهتها الصحيحة، التي من أجلها خلقه، وهي المشاركة في المجد الإلهي. الغربة الأعظم يجدها الإنسان حين يشعر بالفراغ الكامل في داخله، من كل ما هو أخلاق وقيم وروح، وقيمة ومعنى، وكل ما هو حضور إلهي في كيانه، فهو مخلوق على صورة الله ومثاله، ولا يجد كماله ولا راحته إلا في الله. كما قال القديس أوغسطينوس: "خلقتنا لك يا الله وقلوبنا ستظل حائرة إلى أن تستريح فيك". إن هذه الغربة الروحية التي يعيشها الإنسان على الأرض، في البعد عن الله، هي مقدمة لما سيختبره الإنسان الذي يفصل نفسه عن الله بشكل مطلق في الأبدية، والذي تسميه كتب الوحي الإلهي بالجحيم أو جهنم النار. فليست النار التي يتكلم عنها الكتاب المقدس نارا مادية كالتي نعرفها، بل هي نار البعد عن الله، حالة الانفصال عن مصدر كياننا ووجودنا وسعادتنا، تلك نار اشد إيلاما من أي وكل نار عادية.
لذلك أتمنى أن ننتبه لكل ما يسبب لنا غربة، من أي نوع ومن أي درجة، ويشكل لنا عبئا وصعوبة وجودية أو كيانية، في التواجد على ارض أوطاننا، أو في التواصل مع أعزائنا، أو في الوحدة والتآلف مع ذواتنا، أو في الشركة مع إلهنا. وأن نقوم بما يجب علينا من أجل استرداد مكاننا، واستعادة مكانتنا وسلامنا مع الآخرين ومع أنفسنا ومع الله. حيث نتمتع بالسلام والحياة والسعادة الحقيقية التي وعدنا بها، وهيأها لنا الله سبحانه وتعالي، هنا على الأرض وهناك في السماء. وذلك يتم عبر الالتزام التام والأمانة الكاملة، لبلادنا ولأهلنا ولذواتنا ولإلهنا له كل المجد.