الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأنبا بطرس فهيم يكتب: قوة الضعف

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الضعف هو صفة إنسانية عادية، يتسم بها كل البشر، فلكل واحد نقاط قوته ونقاط ضعفه أيضا، ولا يوجد إنسان في الدنيا بلا ضعف، فليس كامل إلا الله وحده. ورد الفعل العادي أمام نقاط ضعفنا هو الخوف أو الخجل منها، ولذلك نحاول أن نخفيها أو نعوض عنها بأمور أخرى. وتحاول العلوم الإنسانية أن تساعد الإنسان على اكتشافها ومعالجتها والتغلب عليها، وإن لم تستطع فإنها تنصح بقبولها والتكيف معها، وألا تسيطر علينا فتنغص علينا عيشنا. 
الخطر كل الخطر هو أن نقضي عمرنا كله في رفض ومحاربة نقاط ضعفنا، فنستنفذ كل طاقاتنا في هذه الحرب الخاسرة حتما، ولا ننتبه لنبني فوق كل نقاط قوتنا وتميزنا والتي هي في الحقيقة أكثر بما لا يقاس من نقاط ضعفنا والتي من المؤكد أنها تساعدنا على التميز والتفوق في حياتنا، رغم وجود نقاط الضعف فينا. فالحقيقة المؤكدة التي تؤكدها كل العلوم الإنسانية والخبرات العملية هي أنه كلما استثمرنا وطورنا ونمينا كل نقاط قوتنا وتميزنا، كلما نقل وقل تأثير نقاط ضعفنا علينا وعلى أسلوب عيشنا ونجاحنا في الحياة.
ولكن ماذا يقول الإيمان والكتاب المقدس عن الضعف وموقفنا الصحيح منه وكيف يتعامل الله معه؟ لكي نجيب على هذا السؤال اسمحوا لي أن أقدم لكم بعض النماذج من الشخصيات المميزة في الكتاب المقدس وكيف تعامل الله مع نقاط ضعفها وعمل من خلالها عظائم، هذه الحقيقة التي يعبر عنها القديس بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس حين يعبر عن خبرته مع الضعف وكيف قال له الله: "تكفيك نعمتي. في الضعف يظهر كمال قوتي" ويكمل هو قائلا: "فأنا، إذا، أفتخر راضيا مبتهجا بضعفي حتى تظللني قوة المسيح. ولذلك فأنا أرضى بما أحتمل من الضعف والإهانة والضيق والاضطهاد والمشقة في سبيل المسيح، لأني عندما أكون ضعيفا أكون قويا" (2 كور 12: 9 – 10).
النموذج الأول هو نموذج إبراهيم أبونا في الإيمان. كلنا نعرف قصة أبينا إبراهيم (تك 12 – 25) وما فيها من نموذج رائع للإيمان الذي يشهد له الكتاب المقدس كله، لدرجة أنه صار النموذج الحي للإيمان الصادق، الذي يفضل تقديم ابنه ذبيحة على أن يشك لحظة في عمل وتدخل الله (تك 22). ولكننا نعرف أيضا ما في قصة إبراهيم من ضعف وسقطات وأخطاء، ألم يتخل عن زوجته أمام ملك مصر (تك 12)، حربه ضد القبائل المجاورة لإنقاذ ابن أخيه (تك 14)، شكه في قدرة الله على إتمام وعده بإنجاب ابن الموعد، والسير وراء مشورة سارة بزواجه من هاجر (تك 16). تنكره لسارة زوجته مرة أخرى خوفا من أبيمالك ملك جرار (تك 20). رغم كل ضعفات إبراهيم هذه، ولكن الله عرف كيف يقود إبراهيم رغم ضعفه ليصنع منه عملاقا في الإيمان، حتى انه صار مضرب الأمثال. 
النموذج الثاني هو موسي (راجع الأسفار الخمسة الأولي من العهد القديم). كان طفلا صغيرا في شعب غريب، مضطهد في مصر، تحت حكم الموت، ومتروك من أهله، ملقى في الماء، تربى في بيت أعدائه، صار قاتلا ثم هاربا وغريبا في البرية، لا يقدر على الكلام، في لحظة غضب كسر لوحي الشريعة التي استلمها من الله... الخ. ولكن الله تدخل في حياته وأنقذه من الموت، وجعل أعداءه يهتمون به وبتربيته أحسن تربية، حفظه في هروبه ونجاه من الإخطار بعد قتل المصري وفي أيام التيه في البرية. وكلفه برسالة من أعظم رسالات التاريخ، ورافقه ليخرج شعبه ويحرره ويقوده إلى ارض الموعد. وبواسطته يرسل الله المن والسلوى لشعبه في البرية يرويه من ماء يخرج من الصخرة الصماء، للتعبير عن عناية الله بشعبه وحمايته له. وهذا الذي لا يعرف أن يتكلم صار هو الذي حمل إلى البشرية كلمة الله. فالله في حكمته لا يمنع الضعف ولكنه يتدخل فيه ومن خلاله ليعمل هو عجائب التاريخ، ويصنع أبطالا وقديسين.
النموذج الثالث هو داود النبي والملك العظيم (راجع أسفار 1 و2 صموئيل) كان داود غلاما صغيرا عندما اختاره الله ليمسحه صموئيل النبي ملكا، لدرجة أن أباه نسي أن يعده بين إخوته (1 صم 16) فهو الذي لصغره وقلة أهميته وضعف بنيته بالمقارنة مع إخوته يكاد لا يُرى. ومن علامات ضعفه الكثيرة يذكر الكتاب المقدس العديد من أخطاء وخطايا داود، فمن ينسى حروبه المتعددة (2 صم 8 – 10) لدرجة أن الله لم يدعه هو يبني له الهيكل بل سليمان ابنه. ومن ينسى خطيئته مع بتشابع زوجة أوريا الحثي، وقتله لزوجها (2 صم 11). ولكن الله اختاره وأقامه ملكا لشعبه، وصار ملكا عظيما لدرجة أن المسيا المنتظر سيدعى ابن داود، وانتسب إليه السيد المسيح له المجد. داود العظيم هذا هو نفسه داود الضعيف الخاطئ ولكن نعمة الله حين تعمل في إنسان فإنها لا تقف عند ضعفه وخطاياه ولكنها تحول الشخص لأداة في يد الله يعمل بها عظائم وعجائب. 
النموذج الرابع نموذج إيليا النبي (راجع سفر الملوك الأول). هذا النبي الذي أطلق عليه التقليد الديني النبي الناري، نظرا لغيرته على ديانة واله إسرائيل الواحد. هذا النبي الذي حارب أنبياء البعل وهزمهم شر هزيمة وأعلن مجد الرب أمام بني إسرائيل وساعدهم في العودة إليه، هو نفسه هذا النبي العظيم الذي ارتكب جريمة قتل لجميع أنبياء البعل وأنبياء عشتروت (1 ملوك 18). هذا النبي القوي الذي أنزل نارا من السماء لتأكل الذبيحة والمذبح وكل ما عليها وما حولها والذي كان ينتقم من كل من يسخر منه أو من الهه، هو نفسه الذي كان في قمة ضعفه وخوفه حين علم أن إيزابل الملكة الشريرة أرادت الانتقام منه وهرب واظهر قمة الضعف حتى انه يأس من الحياة وقال: "كفاني الآن يا رب، فخذ حياتي، فما أنا خير من آبائي" (1 ملوك 19: 4). 
النموذج الخامس هو نموذج القديس بطرس، الذي اختاره الله بشكل شخصي ليقود الكنيسة. وغير له اسمه من أول مقابلة ودعاه بطرس أي صخرة، وكان بطرس شخصية متحمسة وأحيانا مندفعة. وكان يحب الرب أكثر مما تسمح به إمكانياته الشخصية والنفسية والبدنية، هذا ما أثبتته الأحداث. فحين اضطر للمواجهة وقت القبض على يسوع ومحاكمته أنكر انه يعرفه ثلاث مرات. هل من ضعف أكثر من هذا أن ينكر المعلم والسيد أكثر من مرة، ومرة منهم أمام جارية (مرقس 14: 66 – 72 //)، وهو الذي قال للمعلم لو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك (مرقس 14: 31). بطرس الضعيف هذا هو من سلمه السيد المسيح قيادة الكنيسة، لأنه دخل في ضعفه وحوله بالحب إلى قوة جعلت بطرس حين جاء الوقت يقبل أن يموت مصلوبا. ولكيلا ينال شرف الموت مثل معلمه طلب أن يموت مصلوبا منكس الرأس، إنها علامة القوة التي قبلها من الرب في ضعفه، في كل مرة عبر عن هذا ضعف، وسمح للمسيح أن يدخل في هذا الضعف ويحوله لقوة، وقد قال يسوع لبطرس يوما ما: "الشيطان طلب أن يغربلكم مثل الحنطة ولكني طلبت لك أن لا تفقد إيمانك" (لو 22: 31 – 32)، بفضل قوته ونعمته ومحبته يسوع جعل بطرس هذا واحدا من أبطال الإيمان والشهادة الرسولية. وبعد قيامته أكد يسوع على بطرس محبته وسأله "أتحبني أكثر من هؤلاء؟ وقال له بطرس نعم يا رب أنت تعلم أني احبك" فأعاد له تكليفه برعاية الكنيسة وقيادتها وتثبيت أخوته (يوحنا 21: 15 – 19). 
كل أبطال الإيمان عبروا لاشك بلحظات وفترات ومراحل من الضعف والخوف والألم، ولكن الله لا يزيل الضعف ولكنه يعرف كيف يقود رجاله القديسين في طريق التعامل مع هذا الضعف ليصير هذا الضعف نفسه هو سبب قوتهم وبركتهم، وعلة عمل الله في حياتهم ورسالتهم لتكون عظمة القوة لله لا منهم، ويعرف رجال الله القديسون أنهم أوان من خزف ولكن تظهر وتعمل فيهم نعمة الله وعظمته ومجده (2 كور 4: 7). هنا تظهر قوة الضعف، الذي يستطيع الله بحضوره فيه أن يقدسه ويحوله. لذلك يلجأ المسيحيون دائما إلى قوة الحق، لا إلى حق القوة. وهم يعرفون قوة الضعف، ولا يهابون قوة القوة. فهم يؤمنون بمن بالموت داس الموت ووهب الحياة للذين في القبور.