السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فيما بعد الأربعين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تأخرت في كتابة هذه الفضفضة الشخصية ثلاث سنوات كاملة، ولا أعرف لذلك سببا رغم بحثي عنه.. هل حالة إنكار لدخولي نادي الأربعين وكنت أراه بعيدا؟ هل هربت الكلمات وخانتني مفرداتي؟ هل محاولة للقفز على الواقع؟ أم كلها مجتمعة؟.
عموما كل هذه الأسئلة أو حتى الإجابة عنها لم تعد مهمة الآن، ولم تكن مهمة بالأساس. فالتفكير فيها لا عائد منه بالضبط كبحثي الآن كيف سرقت آخر عشرين سنة من عمري كلمح البصر دون إرادة مني أو هوى كأنها منام طويل نسبيا.. ولكن هو محض فطرة إنسانية على دوام البحث وطرح الأسئلة.
أفكر كثيرا عندما أتحدث مع فتيات جميلات وفتيان ذوي قامات طويلة فارعة كلهم تخرجوا في الجامعة وبدءوا رحلة المعافرة مهنيا أو كادوا يفعلون، وجميعهم أبناء أخوتي حضرت لحظات ولادتهم على أبواب غرف الولادة، ولسان حالي يردد كلمات شاعر مصر العظيم سيد حجاب (١٩٤٠- ٢٠١٧) في تتر مسلسل ليالي الحلمية ١٩٨٧ "ما تسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا... ولا تنتهيش ده احنا يا دوب ابتدينا " وأقول لهم صراحة وإن حاولت المزاح "كيف ومتى كبرتم ؟ " فأنتم أكبر دليل على " عشرين سنة اتلطشت مني فجأة " وفي خلفية الحوار أشفق عليهم أكثر من إشفاقي على نفسي.
أشعر بهذا الفقد لنصف عمري الثاني رغم أنه كان صاخبا بالأحداث والتفاصيل الحياتية، الاجتماعية، السياسية، والمهنية، فعلى المستوى الشخصي خلال هذه السنوات تخرجت في الجامعة ( متأخرا عن دفعتي أربع سنوات فلم أكن مهتما كثيرا بالتوقيت) واحترفت العمل الصحفي ( وكنت قبلها أعمل في مهن مختلفة قد أتحدث عنها لاحقا) ثم العمل التليفزيوني ( على يد الأستاذ الكبير محمد الشبة) وعلى المستوى العام شهدت هذه الفترة صفحات سياسية مهمة في تاريخ مصر قبيل ثورة يناير ومهدت لها (لدي فكرة كتاب عن تلك المرحلة)، رصدت هذا وكنت شاهدا على كثير من أحداثه حزبيا (كنت من كوادر حزب الوفد) ومرشحا في الانتخابات، وصحفيا واجتماعيا. ثم تجرعت كملايين غيري مرارته عندما رأيت الثورة تسرق، والوطن العادل الذي حلمنا به يقع فريسة سهلة لجماعة الإخوان الإرهابية التي استفحلت وقويت اذرعها الغاشمة في غرف سياسية مظلمة، فكان ثمن فك أسر هذا الوطن ثورة ثانية في الثلاثين من يونيو، وسنوات من الحرب ضد الإرهاب أبكتنا دما، ودفعت مصر فيها دماء أطهر أبنائها، وإن كان هذا كله يحتاج إعادة رصد وكتابة لا محل لها هنا، فالشاهد أنها مرت كعشية أو ضحاها.
تلك العشرون الأخيرة فيها كل النقلات في حياتي، بين شاب يلهث عن نصيب في المستقبل صار رجلا في سن الحكمة، وبينهما جبال من التفاصيل، حاولت النجاة من الفشل والعيش على الهامش أو السقوط في بئر الفقر الذي فرضه النظامين السابقين على المصريين، قاتلت بشرف لأجد لنفسي موطىء قدم بين الطبقة الوسطى، دون التخلي عن كثير من قناعاتي أو مسايرة الموج حتى يمر (بالطبع تخليت عن بعضها، وسايرته أحيانا ولكن بما لا يخجلني أمام جوري ومراد) وقد كانت كل لبنة وضعت أو نجاحا تحقق بجهد شخصي دائم ( مع الاعتراف بالفضل للكثيرين ) على غرار قصيدة " سلوا قلبي " لأمير الشعراء أحمد بك شوقي (١٨٦٨ - ١٩٣٢) " وما نـيل الـمـطـالب بالتمنـي.. ولـكـن تــؤخـذ الـدنـيا غلابـا ".
لا شك أن خير الحصاد في هاذين العقدين هو الأسرة حيث رزقت بطفلين " جوري ومراد "وزوجتي مروة لطفي، فحولهم تتمحور الحياة وفي فلكهم تدور، فكانت " مروة " خير سند ودافع في أي إنجاز تحقق ( المرأة إما تدفعك للأمام أو ترتد بك للخلف )، أما الأشوسين "جوري ومراد" فلهما الفضل في تطور فهمي للحب ذاته، ذلك أن مشاعر الأبوة مكتسبة عند الرجال، على عكس النساء اللواتي يولدن بعاطفة الأمومة. هو حب من نوع خاص يتطور وينمو يوما بعد آخر مع كل حركة أو تصرف جديد، تماما كزهرة عطرة تغرسها وتراقب تفتح أوراقها عن كثب وفي كل لحظة تتعلق بها أكثر، فحبي لهما أعاد صياغة حبي لوالدي اللذان رحلا قبل أن يريا طفلي.
أتحرى الصدق كي لا يتعلما الكذب، أراعي ضميري حفاظا على احترامهما لي، أبذل فوق جهدي في عملي ليعرفا أن العمل عبادة، (الطفل قد يتعلم ٩٠ % مما يشاهده)، ولأجلهما وإن كنت لست من مدرسة الاستشهاد بالأديان في الكتابة، فإنني أعتقد أن قوله تعالى في الآية التاسعة من سورة النساء " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا " دستورا في الحياة لكل من يهتم بأبنائه ويعمل لهم ( رغم أن الآية نزلت في شأن المواريث)
فلا شك أن هذه السنون التي ذهبت إلى غير رجعة، كانت ثرية، مليئة بالتفاصيل المفرحة والمحزنة.. انتصارات وإخفاقات، معافرة ومناطحة، شقاء طويل، وحصاد وفير، استسلام ويأس يتلوه أمل ورجاء.. قضيتها كبطل غنوة " شتا" للشاعرة كوثر مصطفى التي غناها فرعون مصر الأسمر محمد منير عام 1995 " اللي قضى العمر هزار.. واللي قضى العمر بجد... شد لحاف الشتا من البرد "
إن أكبر تحول في نهاية المحطة الثالثة بعد الأربعين هو نظرتي المختلفة للأمور بصرف النظر عن حجمها وأهميتها، تغيرت علاقتي بالأشياء، الأشخاص والأحداث بصورة كبيرة، لم يعد ما كان مهما على نفس القدر من الأهمية، بل بات بعضا منه بلا قيمة تذكر، وتبدلت الانفعالات الظاهرية الصاخبة إلى مشاعر داخلية أكثر عمقا وأقل ضجيجا. حتى علاقتي بالفرح والحزن تحولت شيئا فشيئا لتصبح كأنها ملك لي وحدي، أعيشها بداخلي أضعاف ما أتشارك فيها مع الآخرين، بل إن هولاء الآخرين- إلا قليلا - لم يعودوا جزء من معادلتي بالأساس خاصة في أوقات الحزن الشديد، فرغم فيض مشاعرهم وصدقها، فإن اللغز عندي أنا وكأنني صرت أريد أن أحزن على طريقتي الخاصة.
إن أكثر ما يعنيني الآن هو مستقبل "جوري ومراد" في هذا البلد الطيب المثابر الشامخ كجبال سيناء، ومجرى النيل، وحضارة الفراعنة على ضفافه التي بدأت ثم جاء العالم.. وكيف لا؟ وقد كتب عنه المؤرخ المهم جميس هنري برستد (1865-1935 ) كتابه الشهير "فجر الضمير" ترجمة عميد الأثريين سليم حسن (1886-1961) مبرهنا فيه أن "مصر أصل الحضارة ومهدها الأول، وأن ضمير الإنسانية تشكل في مصر قبل أي حضارة أخرى (انتهى قول المؤرخ)، بيد أن مصر أضحت بلدا قاسيا على أهله موجعا في تفاصيله بعد ما فعلت به نخبة الأنانية على مدى قرابة سبعة عقود من أفاعيل، ولست أعني هنا النخبة الحاكمة فقط، وإنما النخب السياسية، الثقافية، الإعلامية، الفنية، والاقتصادية، تلك الخفافيش التي خاضت طوال الوقت - إلا من رحم ربي - معاركها الشخصية ودافعت عن مصالحها فرادى وجماعات بعيدا عن حق هذا الوطن والسواد الأعظم من أهله.
لقد بات أكبر هواجسي في المستقبل هو مصير بطل قصيدة " قارئة الفنجان " للشاعر الكبير نزار قباني (1923-1998) حين قال "وستعرف بعد رحيل العمـــر... بأنك كنــت تـــطارد خيط دخان".
كلماتي هذه ليست يأسا وإنما فضفضة مباحة، ومخاوف مشروعة، فلدي ما أعيش من أجله، أعمل له، وأخاف عليه، راض عما سبق، ومعتز بكل تفاصيله بما فيها من أخطاء وإخفاقات قبل الصحيح والنجاحات، ذلك أنها كانت في مجملها وفق تقديري الشخصي، أكره الموت وتخيفني رائحته، أعشق الحياة وأرى فيها متسع لي، والأهم أن لدي قدرا كافيا من القناعة والتصالح مع الذات، والقدرة على العمل والمحاولة، تماما كما تصف كوثر مصطفى "النيل" في فيلم "البحث عن توت عنخ آمون" للمخرج ريمون فرنسيس ١٩٩٧ "ولسه بيجري ويعافر.. ولسه عيونه بتسافر.. ولسه قلبه لم يتعب من المشاوير".